مرض الشك في العقيدة بين العوامل والآثار

تاريخ المحاضرة: 05/01/1423

نقاط البحث:

  1. نظرة الإسلام للشكّ
  2. عوامل مرض الشكّ
  3. آثار مرض الشكّ في حياة الإنسان

التسجيل الصوتي:

تحميل التسجيل الصوتي: عوامل الشك في العقيدة وسلبياته


نص المحاضرة

مرض_الشك_في_العقيدة_بين_العوامل_والآثار.pdf

قال تعالى في كتابه الكريم: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[1].

من جملة الأمراض الفكرية التي يعيشها مجتمعنا وغيره من المجتمعات الشيعية: مرض التشكيك في القضايا الدينية والعقائدية، لا سيما ما يتعلق منها بمقامات أهل البيت (ع) وكمالاتهم؛ ولذا نسلّط الضوء على هذه الظاهرة المرضية من خلال نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: بيان نظرة الإسلام للشكّ.

في بحوث نظرية المعرفة يبحثون حول المنهج الصحيح للمعرفة، فيتعرضون لعدة مناهج فكرية تابعة لمدارس فلسفية مختلفة، وأهمها منهجان:

المنهج الأول: منهج الشك.

وهو المنهج الذي طرحه بعض الفلاسفة الغربيين، وتبناه تبعًا لهم بعض المتغربين من المسلمين، ويرى أصحاب هذا المنهج: أنَّ الطريق للوصول إلى الحقائق المعرفية هو الشك، فمن أجل أن يصل الإنسان إلى اليقين والحقائق لا بُدَّ أن يسلك طريق التشكيك في الحقائق حتى يصل إلى مرتبة اليقين.

وفي نفس هذا السياق يطرح بعض المعاصرين: أنَّ الإسلام نفسه قد شجع على ظاهرة الشك، وأوضحَ أنَّ الإنسان من أجل أن يصل إلى اليقين فلا بُدَّ أن يسلك طريق الشك [2].

المنهج الثاني: منهج اليقين.

وأصحاب هذا المنهج يرون: أنَّ طريق المعرفة ليس إلا اليقين، وأما الشك – وتعويد النفس على إثارة الشكوك حول كلّ قضية معرفية – فيرونه سببًا لانحراف الإنسان ووقوعه في متاهات فكرية ومزالق عقدية عديدة، وهذا هو المنهج الذي تؤكد عليه مدرسة أهل البيت (ع).

وتشهد لذلك النصوص المستفيضة الواردة عنهم (ع)، فإنها تحث حثًا بالغًا على التزام منهج اليقين، وتحذّر في الوقت نفسه من مخاطر سلوك جادة الشك، ولا بأس بوضع اليد على بعضها:

فعن أمير المؤمنين (ع): ((عليك بلزوم اليقين وتجنب الشك؛ فليس للمرء شيء أهلك لدينه من غلبة الشك)) [3].

وعنه (ع) أيضًا: ((أهلك شيء الشك والارتياب)) [4]، وفي روايةٍ معتبرة عنه (ع): ((إنّ الشك والمعصية في النار، ليسا منا، ولا إلينا)) [5].

وفي الرواية عن الإمام الباقر (ع) – في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ}[6] – قال: ((شكًا إلى شكهم))[7].

وعن الإمام الصادق (ع) – في تفسير قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}[8] – أنه قال: ((هو الشك)) [9].

ويتضح من هذه الآيات – والروايات المفسرّة لها – وما ماثلها: أنَّ الإسلام يخطّئ منهج الشك، ويعتبره مرضًا ورجسًا، ويراه أنه أهلك شيء لدين الإنسان وفكره وعقيدته.

وقفةٌ مع مصطلح الشكّ المنهجي:

وهنا قد يُقال: إنَّ للإنسان أن يعمّق إيمانه من خلال إثارة الشكوك حول القضايا التي يؤمن بها، عوض أن يكون إيمانه بها إيمانًا ساذجًا، وهو المنهج الذي حكاه الله تعالى عن خليله إبراهيم (ع) في قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [10].

وقد اشتهر في الكتابات الحديثة: التفريق بين نوعين من الشك، أحدهما ما عبّروا عنه بـ(الشك المطلق)، والآخر ما عبروا عنه بـ(الشك المنهجي) أو (الشك المعرفي)، واعتبروا الأول شكًا سلبيًّا، والثاني إيجابيًّا، وأرادوا من الأول الشك لأجل الشك والسفسطة واللاأدرية، وأرادوا من الثاني الشك لأجل الوصول إلى اليقين، وقد دعوا من خلاله إلى التشكيك في كل الحقائق، وعدم التسليم بشيء منها، من أجل تشييدها على ضوء قناعات مبرهنة.

ولكنَّ الذي ينبغي أن يُقال: إنَّ للإنسان – إزاء المعارف الدينية – حالتين:

  • الأولى: الإذعان واليقين بثبوتها.
  • والثانية: الإذعان واليقين بعدمها.

وإثارة الشكوك إنما تحسن من ذي الحالة الثانية؛ لما يترتب عليها من إخراج الإنسان من ظلمات الجهل إلى آفاق النور، وهو ما صنعه النبي إبراهيم (ع) مع قومه، فإنهم لما كانوا منكرين للحقائق الدينية، اضطرّ لإظهار مجاراتهم واستغلّ هذه المجاراة لإثارة شكوكهم حول مسلماتهم.

وأما ذو الحالة الأولى: فلا يحسن منه السعي إلى هدم ما هو عليه من اليقين؛ إذ أنَّ المطلوب منه هو تحصيل الاعتقاد اليقيني، والفرض أنه واجدٌ له، فإثارته للشك حول معتقداته قد يؤدي به إلى الانحراف والإلحاد، وهذا ما حذرت منه النصوص الشريفة كثيرًا، كقول أمير المؤمنين (ع) في إحدى خطبه الشريفة: ((لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا)) [11]، وعنه (ع): ((صُن إيمانك من الشك؛ فإنّ الشك يُفسد الإيمان كما يُفسد الملح العسل)) [12]، وفي صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزّ وجلّ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [13] قال: ((بشك)) [14]. ومن هنا قال أمير المؤمنين (ع) مفتخرًا: ((ما شككت في الحق مذ رأيته)) [15].

النقطة الثانية: عوامل مرض الشكّ.

ومرادنا من مرض الشك الذي نرغب أن نقف عند عوامله وأسبابه هو خصوص الشك في القضايا العقائدية المتعلقة بمقامات أهل البيت (ع) وكمالاتهم وشؤونهم وخصائصهم، نظير الشك في مقامهم النوري، أو ولايتهم التكوينية، أو علمهم الغيبي، وكراماتهم ومعاجزهم (ع)، ونحو ذلك.

ويمكننا هنا أن نشير إلى بعض تلكم العوامل، وهي أربعة مهمة:

العامل الأول: تدنّي المستوى المعرفي.

وهذا العامل عامل وجداني، فالإنسان يتلمس في حياته علاقة طردية بين عمق المعرفة وعمق اليقين، وبين ضعف المعرفة وضعف اليقين، والذي قد يتراجع إلى مستوى الشك، فحين يراجع الشخص طبيبًا من الأطباء تارة يكون عارفًا بكونه طبيبًا حاذقًا ماهرًا، وخبيرًا متمرسًا، وتارة لا يعرف عنه ذلك، وفي الفرض الأول يتعامل مع تعاليمه بكل ثقة وتسليم؛ لكونه على يقينٍ به، بينما في الفرض الثاني يراوده الشك في دقة تشخيصه وإرشاداته.

وهكذا هو الحال فيما يرتبط بمعرفة مقامات المعصومين (ع) وكمالاتهم، فكلما كان مستوى المعرفة بهم عاليًا كان الإنسان شديد اليقين بشؤونهم، وكلما تدنى المستوى المعرفي كان سببًا لتوليد حالة الشك والارتياب لدى الإنسان، وهذا يعني وجود علاقة طردية بين المعرفة واليقين، فإذا ازدادت معرفة الإنسان بآل محمد (ع) تقلص شكه فيهم، وإذا تدنت معرفته ازداد شكه فيهم.

ولعلّه إلى هذا المعنى يشير الدعاء المعروف بـ(دعاء الغيبة) الذي علمه الإمام الصادق (ع) لزرارة بن أعين (رضي الله عنه) والذي يقول فيه: ((اللَّهُمَّ عَرِّفْنِي حُجَّتَكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُعَرِّفْنِي حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ دِينِي)) [16]؛ لوضوح أنَّ الإنسان كلما ازداد معرفةً بالحجج (ع) كلما ازداد يقينه بهم وتقلص شكه، وكلما تدنت معرفته كلما ازداد شكه فيهم، وإذا ازداد شكه انتهى به إلى ضلاله عن الدين وفساد دينه.

ولو أراد المتتبع أن يضع يده على الشواهد التي تؤكّد على مدى تأثير هذا العامل لوقعَ على الكثير من الشواهد، ولكن يكفي أن نضع يدنا على أحدها، وهو: ما رواه الشيخ الصدوق (قده) بسنده عن الإمام الصادق (ع)، عن أبيه، عن علي بن الحسين، عن الحسين بن علي، عن علي بن أبي طالب (ع)، عن رسول الله (ص)، أنه قال: ((يا فاطمة، إن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك))، قال: فجاء صندل، فقال لجعفر بن محمد 3: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء الشباب يجيئونا عنك بأحاديث منكرة! فقال له جعفر (ع): وما ذاك يا صندل؟ قال: جاءنا عنك أنك حدثتهم أن الله يغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها؟

قال: فقال جعفر (ع): ((يا صندل، ألستم رويتم فيما تروون أن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضب عبده المؤمن، ويرضى لرضاه؟ قال: بلى. قال: فما تنكرون أن تكون فاطمة (ع) مؤمنة، يغضب الله لغضبها، ويرضى لرضاها! قال: فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته)) [17].

وكما ترى، فإنَّ مسألة (رضا الله تعالى لرضا الزهراء (ع) وغضبه لغضبها) من أبسط المسائل التي يعتقدها الشيعة الكاملون في سيدة النساء (ع)، غير أنَّ (صندلًا) المذكور في الرواية – نظرًا لضعف معرفته بالمقامات الإلهية للصديقة الطاهرة (ع) – قد اعتبرَ الحديث الذي تضمنها من الأحاديث المنكرة المشكوك في صدورها، مما حدا بالإمام (ع) أن يجاري مستوى تفكيره ويقرّب له معنى الحديث بمعنى بسيط يتلاءم مع مستوى معرفته وتفكيره، والحال أنَّ معنى الحديث أدق وأعمق.

فالحديث ليس يتحدث عن رضا الصديقة الزهراء (ع) لرضا الله تعالى، وغضبها لغضبه، الكاشف عن أعلى مراتب الرضا والتسليم، وإنما يتحدث عن رضا الله تعالى لرضاها وغضبه لغضبها (ع)، وهذا يعني اتحاد إرادتها بإرادة الله تعالى، بحيث أنَّ رضاه ورضاها وغضبه وغضبها متلازمان لا ينفكان، وأين (صندل) وأمثاله من إدراك أمثال هذه المعاني؟!

فظهر مما عرضناه: أنَّ تدني المستوى المعرفي هو أول عامل من عوامل مرض الشك، بل هو من أكثر العوامل انتشارًا وتأثيرًا.

العامل الثاني: الانبهار بالنظريات العلمية.

هنالك مجموعة من الأشخاص – ولا سيما الطبقة المثقفة – عندما يطلعون على نظريات علمية تأخذهم حالة الانبهار والإعجاب بها، إلى الحدّ الذي إذا وجدوها تتصادم مع بعض الحقائق المعرفية الدينية فإنهم يبادرون إلى رفض هذه الحقائق، بحجّة أنَّ الدين لا يمكن أن يتعارض مع العلم، وبما أنَّ الحقائق الدينية المذكورة تتعارض مع العلم فهي حقائق مرفوضة.

فمثلًا: من جملة فضائل أمير المؤمنين (ع) وخصائصه المشهورة أنه لا يبغضه إلا ابن زنا أو ابن حيضة، ولم تُذكر هذه الخصوصية لغيره (ع)، ولكنك تجد بعضهم يسارع لتكذيب الرواية الواردة عن النبي الأعظم (ص): ((يا علي، ما يحبك إلا مؤمن تقي، ولا يبغضك إلا منافق شقي، ولد زنية أو حيضة)) [18]، بحجة أنَّ النظريات العلمية قد أثبتت أن الحمل لا يمكن أن يتحقق في فترة الحيض.

والحال أنَّ هذه كانت مجرد نظرية علمية قابلة لأن تُنسخ وتتبدل في ظلّ التطور العلمي، وهذا ما وقع فعلًا؛ إذ قد ثبت في آخر النظريات العلمية إمكان تحقق الحمل في أيام الحيض، وقد وجهوا ذلك علميًا بتوجيهات عديدة، أشهرها يبتني على ثلاث مقدمات:

الأولى: إنَّ هنالك فرقًا في المصطلح الطبي بين (الحيض) و(الدورة الشهرية)، فالحيض يعني أيام نزول الدم، وأما الدورة الشهرية فيُراد بها: المدة التي تبدأ بأول أيام الحيض وتنتهي بآخر يوم من أيام الطهر الذي يعقبها [19].

الثانية: إنَّ من الممكن علميًا أن يكون يوم الإباضة – الإخصاب – هو اليوم الثاني عشر من أيام الدورة الشهرية [20].

الثالثة: إنَّ من الممكن علميًا أيضًا أن يحتفظ السائل المنوي – حين وصوله لباطن الرحم – بقوته على التلقيح لمدة يومين كاملين [21]، بل قرأتُ في بعض الأبحاث الطبية إمكان بقاء الحيوانات المنوية نشطة لمدة خمسة أيام [22].

وعلى ضوء هذه المقدمات الثلاث يُقال: أننا لو افترضنا مواقعة الرجل للمرأة في اليوم العاشر من الحيض – وهو نفسه اليوم العاشر من الدورة الشهرية – واتفق أن كان اليوم الثاني عشر من أيام الدورة الشهرية هو يوم الإخصاب، فمن الممكن أن يلتقي الحويمن – الجاثم في باطن الرحم منذ يومين – بالبويضة ويتكون الجنين، فيصح وصفه حينئذ بأنه (ابن حيضة) لكون نطفته قد انعقدت أيام الحيض.

فظهر مما ذكرناه: خطأ وخطورة المسارعة إلى التشكيك في بعض مقامات المعصومين (ع) وخصائصهم، تعويلًا على بعض النظريات العلمية القابلة للنسخ والتبدل طبقًا لمعطيات التجارب والدراسات الجديدة، ومن الغرابة بمكان أن لا يفرّق بعض المثقفين بين الحقيقة العلمية والنظرية العلمية، فيتعامل مع القضيتين على نسقٍ واحد، والحال أنَّ الحقيقة العلمية – ككروية الأرض – لا تقبل الجدل، بينما النظرية العلمية محتملة للخطأ والصواب، فقد يكتشف العلماء نظرية معينة، ولكنهم بعد خمسين سنة – أو أقل أو أكثر – قد يكتشفون نظرية مغايرة لها، فمن الخطأ عرض القضايا المعرفية على النظريات العلمية، واعتبارها مقياسًا لها.

العامل الثالث: عدم الدقّة في التعامل مع مفردات النصوص.

من أهم ما يحتاجه الشخص الذي يتعامل مع المعارف الدينية: القدرة على التعامل مع النصوص القرآنية والمعصومية، ومن أهم عوامل هذه القدرة أن يكون الشخص دقيقًا في فهم مفردات النصوص، وعدم إسقاطه للمعاني المتداولة في زمانه على المفردات المستخدمة في زمن النص، إلا بالاستعانة بآليات متعارفة في علم أصول الفقه، وإلا فإنَّ ذلك ينتهي بالإنسان إلى إنكار بعض الحقائق وتشكيكه فيها بسبب الخلط بين المعاني.

فمثلًا: من المشهورات التاريخية والمنبرية أنَّ الإمام الحسن (ع) لما سمّه معاوية بن أبي سفيان قد أثرّ السم فيه تأثيرًا بالغًا إلى الحدّ الذي انتهى به إلى تقيؤ كبده المباركة [23]، غير أنَّ بعض الأشخاص المهوسين بتنقية التراث وتصحيح الروايات والتاريخ قد أنكر هذه الظلامة، بحجة أنَّ من الثابت طبيًا استحالة تقيؤ الإنسان المسموم لكبده مهما كان أثر السم حادًا، أو بحجج أخرى [24].

وهذا من المؤسف جدًا؛ فإنَّ هذا الإنسان لو كلّف نفسه عناء مراجعة المعاجم اللغوية، وحاول أن يستوعب مفردات النصوص التي يتعامل معها، لما انتهى به الأمر إلى هذه النتيجة؛ لوضوح أنَّ مفردة (الكبد) لا يُراد بها في الاستعمالات العربية خصوص العضو الخاص، كما هو المعنى المتعارف في زماننا، وإنما يُراد بها كامل ما في جوف الإنسان [25]، وعليه فهب أنَّ النظريات العلمية تمنع من تقيؤ العضو الخاص، إلا أنها لا تمنع من تقيؤ بعض ما في الجوف من الأحشاء.

وعليه، فاللازم على الإنسان قبل أن يثير الشكوك حول النصوص المرتبطة بأهل البيت (ع) أن يلاحظ مفردات النصوص، ويتجنب غفلة الإسقاطات.

العامل الرابع: إعمال الذائقة الخاصّة.

وهذا العامل من أنكى العوامل التي تحدو بالبعض للتشكيك – بل إنكار – بعض شؤون أهل البيت (ع) وخصائصهم، حيث يتعامل هؤلاء مع ما يسمعون ويقرؤون من شؤون المعصومين (ع) من منطلق استحسانات شخصية وذوقية خاصة، فيقبلون فقط ما ينسجم مع أذواقهم الشخصية، ويرفضون ما لا يتلاءم مع ذوقياتهم واستحساناتهم، بغضّ النظر عن كلّ الاعتبارات الأخرى.

ولا بأس أن نسوق شاهدًا على ذلك، وهو: أنَّ من جملة القضايا الثابتة المتعلقة بالصديقة الزهراء – أرواح العالمين لها الفداء – أنها لا ترى حيضًا ولا نفاسًا، وقد استفاضت الروايات من كتب الفريقين بهذا المعنى، ومنها:

عن أمير المؤمنين (ع) قال: إنّ النبي (ص) سئل: ما البتول؟ فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إنّ مريم بتول، وفاطمة بتول؟ فقال: ((البتول التي لم تر حمرة قط، أي: لم تحض، فإنَّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء)) [26].

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (ص): ((إنَّ ابنتي فاطمة حوراء؛ إذ لم تحض ولم تطمث)) [27].

وعن الإمام أبي جعفر الباقر، عن آبائه (ع) قال: ((إنما سميت فاطمة بنت محمد الطاهرة، لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث، وما رأت قط يومًا حمرة ولا نفاسًا)) [28].

ومثل هذه الروايات كثير، ولكنّ بعضهم لم ترق هذه الحقيقة لذوقه واستحسانه، متوهمًا أنَّ مقتضى الكمال في المرأة الذي تقتضيه طبيعتها هو أن ترى الحيض والنفاس، فحين يُقال: إنَّ الزهراء (ع) لا ترى حيضًا ولا نفاسًا فهذا إنقاصٌ لقدرها؛ لأنه إثبات لخلاف مقتضى الكمال؛ إذ أنَّ مقتضى الكمال هو أن تكون صفات الزهراء (ع) كصفات المرأة الطبيعية، لا أن تكون لها صفات على خلاف صفات المرأة الطبيعية، وهذا ما يستدعي التأمل وإثارة الشكوك حول الروايات المذكورة.

وهذا التوقّف – في هذه الحقيقة – لا يتجاوز دائرة الاستحسان الشخصي، والذي غالبًا ما يكون نابعًا عن قصورٍ في الرؤية بسبب محدودية المعرفة، أو عدم إتعاب النفس في تحرّي الحقائق المعرفية واستيعابها، والوجهُ في كون مثل هذا التشكيك ذوقيًا واستحسانيًا هو: عدم ابتنائه على ميزان علمي يصح قياس القضايا المعرفية عليه؛ فإنه – كما ترى – نابعٌ عن تصور أنَّ معنى الكمال البشري هو مماثلة صفات الإنسان لصفات بقية الناس، فمتى ما اختلفت كان ذلك نقصًا، لا كمالًا.

وهذا في الجملة لا يخلو عن غرابة؛ إذ أنَّ مقتضاه الالتزام بنقص النبي الأعظم (ص) – والعياذ بالله – لأنَّ إحدى صفاته المعروفة أنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، وهذا على خلاف الطبيعة البشرية، وإذا نام تنام عيناه ولا ينام قلبه، وهذا أيضًا على خلاف مقتضيات الطبيعة، وهكذا، فهل يتسنى لأحدٍ أن يعتبر ذلك على خلاف الكمال؟!

بالتأكيد لا، مما يعني أنَّ محض المماثلة ليس هو مقياس الكمال، وإنما المقياس هو عدم نقص ما يخل نقصه بارتقاء الإنسان المادي والمعنوي، وعلى هذا فلو افترضنا مثلًا: أنَّ شخصًا وُلدَ مِن غير قلب، إلا أنَّ عدم وجود القلب لم يؤثر على استمرار حياته ووظائفه العضوية، بحيث كان إنسانًا سويًا بكلّ المقاييس، لم يعد ذلك نقصًا في كماله.

ومن هنا نفهم أنَّ وجود أيّ صفة عند المعصوم (ع) على خلاف الصفات الموجودة عند غيره لا يعني أنها خلاف الكمال، وبالتالي فإنَّ كون السيدة الزهراء (ع) لا ترى حيضًا ولا نفاسًا لا يعني اتصافها بخلاف مقتضى الكمال؛ إذ أنَّ تبتلها عن الدم لم يوجب حرمانها من بعض الشؤون التي تترتب على وجوده، كالإنجاب مثلًا، فهي من هذه الجهة شبيهة بالسيدة مريم بنت عمران (ع) حين اتصفت بالأمومة من غير أن تتصف بالزوجية، فنزل القرآن الكريم يمدحها ويمجدها بقوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [29].

وإن أردتَ الدقة فإنَّ انقطاعها (ع) عن الدم، ليس فقط لا يخالف مقتضى الكمال فحسب، بل هو في الحقيقة عين مقتضى الكمال؛ لأنَّ القرآن الكريم قد وصف الحيض بـ(الأذى) في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [30]، ومن الظاهر أنَّ الأذى بمعنى ما يوجب الإيذاء، إما لقذارته أو لنجاسته أو لتنفيره أو لغير ذلك، ولا شك في أنَّ تنزيه الصديقة الزهراء (ع) عن هذا الأذى كرامة شامخة لها من يدي الله I، فهو مقتضى الكمال لا أنه على خلاف الكمال، كما هو ظاهر لمن تأمل.

وعند هذا العامل نقفل صفحة البحث حول عوامل مرض الشك في المعارف الدينية، مع الاعتراف بعدم استيعابها، على أمل التوفيق لرصدها وتتبعها في فرصةٍ أخرى.

النقطة الثالثة: آثار مرض الشكّ في حياة الإنسان.

حين يعتاد ذهن الإنسان على التعامل مع خصائص أهل البيت (ع) ومقاماتهم بلغة الشك، ويستشري ذلك في حياته، فإنَّ ذلك يترك على حياته مجموعة من الآثار المؤسفة، سنركز على أثرين خطيرين منها:

الأثر الأول: تزلزل اليقين.

وهذا ما تشير إليه إحدى الروايات الواردة عن أمير المؤمنين (ع): ((يسير الشك يفسد اليقين)) [31]، ولكي يتضح المقصود منها: لا بدَّ من معرفة أهميّة مبدأ اليقين في حياة الإنسان، وخلاصة الكلام حوله: أنَّ هنالك ترابطًا وثيقًا جدًا بين عقيدة الإنسان وعمله، فكلما كانت عقيدة الإنسان أشدّ إحكامًا تركت أثرها على سلوك الإنسان وتصرفاته وعلاقاته، فالاعتقاد الجازم بالمبدأ والمعاد يولّد لدى الإنسان منهجًا حياتيًا يختلف عن منهج المنكر لهما، ويتجلى ذلك بوضوح عند المقارنة بين هذين الصنفين من الناس.

وإذا أردنا أن نضرب مثالًا لتقريب الفكرة: فلك أن تقارن بين المعتقد بالولاية التكوينية للمعصومين (ع) وغير المعتقد بها، فالأول لا يشق عليه قبول المعاجز والكرامات بخلاف الثاني، كما أنَّ الأول لا يستنكف عن التوسل بأهل البيت (ع)، بل يتقرب بهم إلى الله تعالى، بينما الثاني تأبى نفسه ذلك، وقد ينتهي به الأمر لاعتبار التوسل بهم شركًا ومنافيًا للتوحيد، وهكذا.

مما يؤكد أنَّ أيَّ خلل في مستوى اليقين يلقي بظلاله على طبيعة السلوك من ناحيةٍ وخطوط الشبكة الفكرية والعقائدية من ناحية أخرى، ومن هنا تتولد الخطورة الفادحة للشك؛ إذ أنَّ هذا المرض – ولو بمقدار قليل، كما في الخبر العلوي – يزلزل مبدأ اليقين من حياة الإنسان، وإذا تزلزل اليقين انعكس ذلك سلبًا على واقع الإنسان.

الأثر الثاني: فساد الدين.

وهذا ما تشير إليه إحدى الروايات الواردة عن أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: ((من كثر شكه فسد دينه)) [32]، ولعلّ ما تعنيه هذه الرواية هو الإشارة إلى أنَّ الشك نافذة من نوافذ فساد الدين؛ لأنَّ المطلوب في الدين أن يكون مبنيًا على اليقين، كما تشهد بذلك العديد من النصوص، ومنها: ذمّ القرآن الكريم لبناء الدين على الظن، كما في قوله تعالى مجده: {إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [33].

وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني وجود علاقة تراتبية بين مرض الشك وفساد الدين؛ إذ أنَّ الشك يفسد اليقين، وفساد اليقين يفسد الدين، وهل ثمة شيءٌ أعظم من فساد الدين؟! ولعلّ ما ذكرناه يُمكن أن يُستظهر من قول الأمير (ع): ((إيّاك والشك؛ فإنّه يفسد الدين، ويبطل اليقين)) [34]، وأظهر منه قوله (ع) أيضًا: ((الشك يفسد اليقين، ويبطل الدين)) [35].


الهوامش

[1] سورة يونس: الآية 94.

[2] جاء في كلمات هذا المعاصر: (نحن نعرف من حديث الإمام الصادق «عليه السلام» أن الإسلام يشجع على الشك، الشك طريق لليقين، الشك الموضوعي، أو الشك العلمي.

والشك ليس كفرًا، وإنما الجحود هو الكفر، فلقد جاء شخص وسأل الإمام جعفر الصادق ـ كما في الكافي ـ قال: رجل شك في الله؟!

قال: كافر.

قال: شك في رسول الله؟!

قال: كافر.. ثم قبل أن يقوم الرجل، قال إنما يكفر إذا جحد، الحديث.

فما دمت في دائرة الشك، فأنت لست بكافر

[3] عيون الحكم والمواعظ: 333.

[4] عيون الحكم والمواعظ: 125.

[5] وسائل الشيعة: 27 / 163.

[6] سورة التوبة: الآية 125.

[7] بحار الأنوار: 69 / 126.

[8] سورة الأَنعام: الآية 125.

[9] بحار الأنوار: 69 / 128.

[10] سورة الأنعام، الآيات: 76 إلى 79.

[11] الكافي: 1 / 45.

[12] عيون الحكم والمواعظ: 301.

[13] سورة الأَنعام: الآية 82.

[14] الكافي: 2 / 399.

[15] نهج البلاغة: 4 / 43.

[16] الكافي: 1 / 337.

[17] الأمالي: 467.

[18] كشف اليقين، للعلامة الحلي (قده): 482، وإرشاد القلوب، للديلمي (رحمه الله): 2 / 433.

[19] المرأة في سنّ الإخصاب وسن اليأس، للدكتور أمين رويحة: 70، دار القلم / بيروت، الطبعة الأولى 1974 م.

[20] بل قرأت لأحد أخصائي أمراض النساء والتوليد – وهو الدكتور يوسف الدميسي – أن هناك حالات نادرة جدًّا أثبتت إفرازًا لبييضة أو “تفقيس” لها أثناء فترة الحيض، وفي هذه الحالات النادرة جدًّا نظريًّا، يمكن حصول حمل في هذه الفترة لو حصل جماع وشاء الله ذلك، فلاحظ إجابته على الصفحة التالية:
http://www.onislam.net/arabic/health-counsels/8486/71422-2004-08-01%2017-37-04.html

[21] المرأة في سنّ الإخصاب وسن اليأس: 63.

[22] http://arabic.clearblue.com/planning-for-a-baby/fertility-and-conception

[23] الإرشاد: 2 / 16، مناقب آل أبي طالب: 3 / 202.

[24] قال الأستاذ محمد باقر البهبودي – صاحب كتاب (صحيح الكافي) – في تعاليقه على (بحار الأنوار) 44 / 138: (فيه غرابة حيث إن الكبد إذا ذابت أثفلت إلى الأمعاء وخرجت كالدم، وليس تصعد إلى المعدة حتى تقذف بها من الفم. والصحيح ما قد سمعت في سائر الأحاديث أنه كان يوضع تحته طست وترفع أخرى نحو أربعين يومًا، وأنه عليه السلام قال: ” إني لأضع كبدي ” وظاهره خروج الكبد ثافلا، وأظن القصة أنها قد اختلطت على افهام الرواة فنقلوها كذلك، مع ضعف سندها).

[25] قال ابن منظور في (لسان العرب) 3 / 375: (وربما سمي الجوف بكامله كَبِدًا؛ حكاه ابن سيده عن كراع أَنه ذكره في المُنَجَّد).

[26] معاني الأخبار: 64.

[27] ذخائر العقبى: 26.

[28] بحار الأنوار: 43 / 19.

[29] سورة مريم، الآيات: 16 إلى 21.

[30] سورة البقرة، الآية: 222.

[31] عيون الحكم والمواعظ: 552.

[32] عيون الحكم والمواعظ: 431.

[33] سورة يونس، الآية: 36.

[34] عيون الحكم والمواعظ: 95.

[35] عيون الحكم والمواعظ: 21.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1423

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *