المشي إلى مشاهد المعصومين (ع) شعيرةٌ من شعائر الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

    جاء في كلمات بعض المعاصرين ما هذا نصه : ( أمّا ما أجبنا به فكان ناظراً إلى مسألة الزيارة وشدّ الرحال مشياً ، وهي التي كانت مقصودةً بقولنا : لم يرد فيه أيّ نصّ من قبل أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ؛ ولذلك أشرنا في سياق الجواب الذي لم يُنشر كاملاً إلى مسألة « التعب والجهد » التي ترافق المشي ، لا الزيارة كما هو واضح ) .[1]

    وتعليقاً على هذا الكلام ينبغي إيضاح المسألة من خلال عدة جهات :

    1 / الجهة الأولى : كلمات علماء الطائفة ( قدهم ) حول شعيرة المشي .

   ويمكن تصنيف كلمات الأعلام ( قدهم ) الدالة على رجحان المشي إلى زيارة المعصومين ( عليهم السلام ) إلى طائفتين :

    أ – الكلمات الدالة على الاستحباب بالدلالة المطابقية [2] .

    وإليك كلمات بعض مَن عثرتُ على كلماتهم :

  • قال المحدث الفقيه الشيخ الحر العاملي ( قده ) : ويستحب زيارة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ماشياً ، ذهاباً وعوداً .[3]

وقال ( قده ) في موضع آخر : ويستحب المشي إلى زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وغيره .[4]

وكلامه ( قده ) هذا ظاهر في استحباب المشي إلى زيارة جميع المعصومين ( عليه السلام ) ، لا خصوص الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وهو مقتضى الأدلة كما ستعرف في الجهة الثانية إن شاء الله تعالى .

  • وقال فقيه أهل البيت ( عليهم السلام ) الشيخ عبد الله المامقاني ( قده ) : والأفضل زيارته – أي : أمير المؤمنين ( عليه السلام ) – ماشياً ، ذهاباً وعوداً .[5]

وقال ( قده ) في موضع آخر : ويستحب اختيار المشي في زيارة الحسين ( عليه السلام ) على الركوب .[6]

  • وقال الفقيه الكبير الشيخ الميرزا جواد التبريزي ( قده ) : فإذا كان المشي في الإتيان لزيارة أبي عبد الله ( عليه السلام ) أفضل من الركوب … فيكون الثواب في الإتيان لزيارة سائر الأئمة ( عليهم السلام ) مشياً وركوباً كالإتيان لزيارة أبي عبد الله ( عليه السلام ) .[7]

وقال ( قده ) في موضع آخر : فلا يصغى إلى وسوسة بعض الجهلة الذين ينكرون فضل المشي إلى زيارة الإمام الرضا ( عليهم السلام ) ، فإنهم غافلون عن مدارك الأحكام والعبادات المستحبة ومواضع الاستظهار .[8]

    ب – الكلمات الدالة على الرجحان بالدلالة الالتزامية .

    وإليك بعضها :

  • قال المرجع الأكبر السيد أبو الحسن الأصفهاني ( قده ) : لو نذر أن يحج أو يزور الحسين ( عليه السلام ) ماشياً ، انعقد مع القدرة وعدم الضرر .[9]

وقد وافقه على هذه العبارة نفسها عدة من أعلام الفقه ، منهم :

  • السيد الخميني ( قده ) .[10]
  • السيد الكلبيكاني ( قده ) .[11]
  • السيد السبزواري ( قده ) .[12]
  • السيد السيستاني ( دام ظله الشريف ) .[13]

    والوجه في دلالة العبارة المذكورة على رجحان المشي للزيارة ، هو : أنّ من الأبجديات المعروفة في فقه النذر هو : أن متعلق النذر يعتبر فيه أن يكون راجحاً ، كأن يكون صوماً أو صلاة أو حجاً ، وإلا لم ينعقد النذر .

    وهذا يعني بالضرورة أن المشي لزيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) لو لم يكن راجحاً في حدّ نفسه بنظر هؤلاء الأعلام ، لما أفتوا بانعقاد النذر مع توفر القدرة وعدم الضرر .

    وقد نبّه على ذلك السيد الفقيه السيد السبزواري ( قده ) حيث قال : أما أصل الانعقاد فللإطلاق والاتفاق بعد معلومية الرجحان في المنذور .[14]

    2 / الجهة الثانية : أدلة رجحان شعيرة المشي .

    ومن الممكن تصنيف الأدلة إلى مجموعات ثلاث :

    أ – المجموعة الأولى : ما دلّ على استحباب زيارة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) مشياً .

    وهي عدة روايات ، نذكر منها اثنتين :

  • عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” من زار أمير المؤمنين ( عليه السلام )
    ماشياً ، كتب الله له بكل خطوة حجة وعمرة ، فإن رجع ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجتين وعمرتين ” .[15]
  • وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أيضاً : ” يا بن مارد ما تطعم النار قدماً تغبرت في زيارة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ماشياً كان أو راكباً ، يا بن مارد اكتب هذا الحديث بماء الذهب ” .[16]

    ب – المجموعة الثانية : ما دلّ على استحباب زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) مشياً .

    وهي أيضاً عدة روايات ، نذكر بعضها تيمناً :

  • عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ” من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) ، إن كان ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة ، وحطَّ عنه بها سيئة ، وإن كان راكباً كتبَ الله له بكل حافر حسنة ، وحطَّ عنه بها سيئة “.[17]
  • وعنه ( عليه السلام ) : ” من أتى قبر الحسين ( عليه السلام ) ماشياً ، كتب الله له بكل خطوة وبكل قدم يرفعها ويضعها عتق رقبة من ولد إسماعيل ” .[18]
  • وعنه ( عليه السلام ) أيضاً : ” من أتى قبر الحسين ( عليه السلام ) ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة ، ومحا عنه ألف سيئة ، ورفع له ألف درجة “.[19]

    أقول : ولا منافاة بين الخبرين : الأول والثالث ، إذ الاختلاف في تحديد مقدار الثواب إنما هو بلحاظ اختلاف مراتب الزائرين ، فتأمل جيداً .

    ج – المجموعة الثالثة : ما دلّ على رجحان المشي لزيارة سائر المعصومين ( عليهم السلام ) .

    وليس يوجد لدينا نص صريح ضمن هذه المجموعة ، ولكن من الممكن إثبات رجحان المشي لمطلق مراقد المعصومين ( عليهم السلام ) من خلال ضمِّ دليل إلى دليل آخر .

    وتوضيح ذلك : أنه توجد لدينا بعض الروايات التي يستفاد منها أن الثواب المترتب على الإتيان لزيارة مراقد المعصومين ( عليهم السلام ) يماثل الثواب المترتب على الإتيان لزيارة الإمام الحسين ( عليه السلام  ) ، وعليه فإذا كان الإتيان مشياً لزيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) أكثر ثواباً من الإتيان راكباً ، كان الأمر كذلك بالنسبة لبقية مراقد المعصومين (عليهم السلام ) .

    ومن تلك الروايات الدالة على تماثل المعصومين ( عليهم السلام ) من حيث ثواب إتيان مراقدهم : صحيحة الحسن بن علي الوشاء ، قال : ” قلت للرضا ( عليه السلام ) : ما لمن أتى قبر أحد من الأئمة ( عليه السلام ) ؟ قال ( عليه السلام ) : له مثل ما لمن أتى قبر أبي عبد الله ( عليه السلام ) . قلت : ما لمن زار قبر أبي الحسن ( عليه السلام ) ؟ قال ( عليه السلام ) : مثل ما لمن زار قبر أبي عبد الله ( عليه السلام ) ” .[20]

    وقد استفدنا هذا التقريب من كلمات فقيه أهل البيت ( عليهم السلام ) وحامل راية الدفاع عن حريم شعائرهم : الشيخ الميرزا جواد التبريزي ( قده ) في بعض أجوبته الشريفة .[21]

    فتحصل لدينا من خلال المجموعات الثلاث : أن الروايات واضحة الدلالة على رجحان المشي إلى زيارة مطلق مراقد المعصومين ( عليهم السلام ) ، وأن الثواب عليه أكثر من الثواب على الإتيان إليها مع الركوب .

    3 / الجهة الثالثة : اهتمام علماء الطائفة بشعيرة المشي .

    وسوف نقوم – من خلال هذه الجهة – بعرض أسماء مجموعة من أعلام الإمامية ، ممن شاركوا في تفعيل شعيرة المشي إلى مراقد المعصومين ( عليهم السلام ) ، والذين نطمئن بأنهم لا يقدمون إلا على ما يرجون من ورائه الثواب ، وإليك ذكر بعضهم :

    1 – المحدث الكبير والفقيه الجليل الشيخ الميرزا حسين النوري ( قده ) ، صاحب الموسوعة الحديثية المعروفة ” مستدرك الوسائل ” .

    فقد تحدث عنه تلميذه الحجة الشيخ آغا بزرك الطهراني ( قده ) فقال : ” ومما سنّه في تلك الأعوام : زيارة سيد الشهداء ( عليه السلام ) مشياً على الأقدام ، فقد كان ذلك في عصر الشيخ الأنصاري من سنن الأخيار وأعظم الشعائر ، لكنْ تُرِكَ في الأخير وصار من علائم الفقر وخصائص الأدنون من الناس ، فكان العازم على ذلك يتخفى عن الناس لما في ذلك من الذل والعار ، فلما رأى شيخنا ضعف هذا الأمر اهتمّ له والتزمه ، فكان في خصوص زيارة عيد الأضحى يكتري بعض الدواب لحمل الأثقال والأمتعة ويمشي هو وصحبه .

    … وفي السنة الأخيرة – يعني : زيارة عرفة ( 1319 ) – وهي سنة الحج الأكبر ، التي اتفق فيها عيد النيروز والجمعة والأضحى في يوم واحد ، ولكثرة ازدحام الحجيج حصل في مكة وباء عظيم هلك فيه خلق كثير ، تشرفتُ بخدمة الشيخ ماشياً أيضاً ، واتفق أنه عاد بعد تلك الزيارة إلى النجف ماشياً أيضاً ” .[22]

    2 – المرجع الدينى الأعلى للطائفة : السيد أبو الحسن الأصفهاني ( قده ) ، فإنّ المنقول في سيرته : أنه خرج من أصفهان إلى النجف الأشرف ماشياً .[23]

    3 – سماحة آية الله السيد النجفي القوﭼاني ( قده ) ، أحد أبرز تلامذة المحقق الآخوند صاحب الكفاية ( قده )، وصاحب الكتابين الشهيرين : ( سياحة في الشرق ) و ( سياحة في الغرب ) ، فقد تحدث عن نفسه فقال : ” قررنا نحن الاثنين الذهاب إلى كربلاء ، إلا أنَّ حمى شديدة أصابتني فتناولت العشاء ، وكالعادة التحفتُ بعبائتي ونمتُ ، فبدأ الألم يتصاعد في عظامي بشدة ، وانشغلت في عالم الفكر والخيال بالمناجاة القلبية والمحادثة الروحية مع الإمام موسى بن جعفر (ع) قائلاً : لقد قطعت الفيافي والقفار تاركاً حميتي التي كنت أستعين بها في حفظ صحتي ، فلم يصبني أي بلاء أو مرض ، والآن وقد وصلتُ تواً إلى تقبيل قدميك ، والوقوف تحت رايتك ، ودخلت حصن ديارك الحصين ، واسترحت من العناء ، وأمنت من الخوف والرعب في ديار الغربة هذه ، مع ملازمتي للفقر والبؤس والسير على الأقدام غداً ، فعلاوة على أنك لم تخفف شيئاً من أعباء قلبي ، تضيف على أحمالنا حمل هذا الألم ؟!

    فديتك ، لقد أحسنت ضيافتك لنا ، ولو لم تكن لي نية قطع ستة فراسخ من السير على الأقدام غداً ، لم أعبأ بشيء من الألم والحمى ، ولم أتفوه بكلمة اعتراض ، وأنت تعلم مدى قدرتي على التحمل والصبر على الشدائد ، ولكن ما الحيلة في الفراسخ الستة التي ينبغي عليّ أن أمشيها غداً ، إضافة إلى تمريضي الميرزا حسن ، فكّر أنت في أي ظروف أصابتني هذه الحمى ؟

    وبينما كنت غارقاً في أفكاري تصبب العرق مني ، فارتحت لذلك واستولى النوم عليّ ، وفي الصباح نهضنا ، وبعد الزيارة شربنا الشاي ، وودعنا السيد الخطيب الذي غادر إلى سامراء ، بينما نحن اتجهنا إلى كربلاء ، وكنت لخفة روحي ونشاطي أحس كأنني لم أكن مصاباً بالحمى ” .[24]

    4 – سماحة الحجة المتتبع آية الله المعظم الشيخ عبد الحسين الأميني ( قده ) ، صاحب الموسوعة الشهيرة ( الغدير ) ، حيث جاء في ترجمته : وكثيراً ما كان يقصد زيارة سيد
شباب أهل الجنة السبط الشهيد الحسين ” سلام الله عليه ” في كربلاء راجلاً ، طلباً لمزيد الأجر ، ومعه ثلة من صفوة المؤمنين من خلّص أصدقائه ، يقضي طريقه خلال ثلاثة أيام أو أكثر .[25]

    5 – المراجع العظام ، وحجج الملك العلام ، السيد محسن الحكيم ، والسيد محمود الشاهرودي ، والسيد أبو القاسم الخوئي ، والسيد المرعشي النجفي ( عطر الله مراقدهم ، ورزقنا شفاعتهم ) ، حيث جاء في ترجمة الأخير على لسان أحد تلامذته : حدثني يوماً لما كان في النجف الأشرف ، تشرف بزيارة مولانا أبي عبد الله الحسين سيد الشهداء (ع) مشياً على الأقدام خمسة وعشرين مرة .

    وكان يزور مع مجموعة بلغ عددها عشرة أنفار من طلبة العلم آنذاك ، وكانوا متحابين في الله سبحانه ، منهم : السيد الحكيم ، والسيد الشاهرودي ، والسيد الخوئي ، وقال : كلنا أصبحنا من مراجع التقليد … وكانت أعمال السفرة الروحانية توزع علينا ، وكان نصيبي مع آخر أن نجلب الماء للإخوان في كل منزل مهما كلف الأمر ، وكان أحدنا يطبخ الطعام ، والآخر يهيئ الشاي ، وهكذا كل واحد منّا له وظيفته المعينة في السفر إلا السيد الشاهرودي ، فكان يقول : عليّ أن أدخل السرور على قلوبكم خلال المسير ، وأهوّن عليكم مشاق الطريق .[26]

    6 – الفقيه الكبير ، والمفسر الخبير ، والعارف الشهير ، السيد عبد الأعلى السبزواري ( قده ) ، فقد جاء في ترجمته : فالسيد السبزواري وهو في سن العشرين من عمره ، خرج ماشياً على قدميه من مشهد الإمام الرضا (ع) إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين (ع) في النجف الأشرف . والسيد السبزواري كان كثيراً ما يخرج ماشياً على قدميه من أرض النجف الأشرف إلى أرض كربلاء المقدسة لزيارة جده سيد الشهداء (ع) .[27]

    7 – سماحة آية الله العظمى ، عملاق الفكر الأصولي ، المرجع الديني الكبير ، السيد محمد الروحاني ( قده ) ، فإنه –كما يتحدث عنه ذووه– كان كثير الزيارة إلى كربلاء ماشياً ، وهناك صور فوتغرافية عديدة قد التقطت له حال مسيره ماشياً إلى جنة كربلاء المقدسة .

    8 – سماحة الفقيه الكبير ، الشيخ الميرزا جواد التبريزي ( قده ) ، فإنه الآخر ممن حفظت له كاميرات التصوير بعض اللقطات حال مسيره من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة .

    9 – سماحة آية الله المقدس ، العارف الإلهي ، السيد عبد الكريم الكشميري ( قده ) ، حيث جاء في سيرته على لسان ولده : وحتى عندما يمشي في الطريق ، كان ذاكراً لله في كل أوقاته ، لقد كانت المسافة بين دارنا وصحن أمير المؤمنين (ع) طويلة جداً تتراوح بين الثلاث والأربع كيلو مترات ، وكان يقطع هذه المسافة في كل يوم أربع مرات مشياً على الأقدام ، وكان لسانه يلهج بذكر الله في كل خطوة يخطوها .[28]

    10 – سماحة آية الله المقدس ، العارف الإلهي ، الشيخ عباس القوﭼاني ، وسماحة آية الله المقدس ، العارف الإلهي ، السيد محمد حسين الطهراني ( قدهما ) ، حيث جاء في ترجمة السيد هاشم الحداد ( قده ) ما هذا نصه :

    كان متعارفاً بين طلبة النجف الأشرف وفضلائها وعلمائها في أيام الزيارات المخصوصة لمولى الكونين أبي عبد الله الحسين سيد الشهداء ، ( عليه وعلى أبيه وأمه وجده وأخيه والتسعة الطاهرة من أبنائه ، صلوات الله وسلام ملائكته المقربين والأنبياء  والمرسلين ) كزيارة عرفة وزيارة الأربعين وزيارة النصف من شعبان ، أن يذهبوا من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة سيراً على الأقدام ، إما عن الطريق الصحراوي المعبد المستقيم وطوله ثلاثة عشر فرسخاً ، أو عن الطريق المحاذي لشط الفرات وطوله ثمانية عشر فرسخاً .

    وكان الطريق الصحراوي قاحلاً يخلو من الماء والخضرة ، لكنه قصير يمكن للمسافرين أن يطووه بسرعة خلال يوم أو يومين ، على العكس من الطريق المحاذي لشط الفرات الذي كان يتعذر فيه السفر بالسيارة ، فكان ينبغي السير خلاله على الأقدام أو بامتطاء الحيوانات ، وكان هذا الطريق منحرفاً غير مستقيم ، لكنه في المقابل يتميز بالخضرة ويتخلل بساتين الأشجار والنخيل اليانعة ، وتوجد في كل عدة فراسخ أماكن لاستضافة المسافرين – وهي مضائف مصنوعة من الحصير تعود لشيوخ العرب ، يستقبلون فيها القادمين فيضيفونهم مجاناً مهما شاؤوا الإقامة عندهم – وكان الطلبة يسيرون نهاراً ثم يأوون إلى هذه المضائف ليلاً فيبيتون فيها ، وكان سفرهم في هذا الطريق المحاذي للنهر يستغرق غالباً يومين أو ثلاثاً .

    ولم يوفق الحقير خلال مدة إقامته في النجف الأشرف ، والتي دامت سبع سنين ، للسفر إلى كربلاء مشياً على الأقدام إلا مرتين فقط ؛ ذلك لأن الوالدة المرحومة كانت على قيد الحياة ، وبالرغم من عدم ممانعتها للسفر إلا أن الحقير كان يرى آثار الاضطراب عليها ، لذا لم أتقدم الانضمام إلى مواكب المشاة حتى السنة أو السنتين الأخيرتين من إقامتنا في النجف ، حيث رأيت تناقص ذلك الاضطراب عندها من خلال العلاقات مع العوائل النجفية ، لذا فقد أرسلتها إلى كربلاء مع بعض المسافرين والزوار الإيرانيين الذين كانوا قد وفدوا علينا ، وصحبت الرفقاء في مسيرتنا إلى كربلاء .

    وكان الحقير في هذين السفرين في معية سماحة آية الله الشيخ عباس القوﭼاني – أفاض الله علينا من رحماته وبركاته – وكان هناك أيضاً سماحة آية الله المرحوم الشيخ حسن علي نجابت الشيرازي ، وسماحة حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد مهدي دستغيب الشيرازي – الأخ الأصغر للمرحوم الشهيد دستغيب – وقد صحبنا في السفر الثاني أحد الطلبة ممن له معرفة بآية الله القوﭼاني واسمه السيد عباس ينكجي .[29]

    11 – سماحة آية الله العظمى ، الشهيد السعيد ، السيد محمد باقر الصدر ( قده ) ، وهذا العظيم وإن لم يشارك في مسيرات المشي بنفسه ، إلا أنه كان من أشدِّ الداعمين والمؤيدين لها ؛ ولذا لزم ذكر اسمه الشريف ضمن المذكورين ، فقد جاء في ترجمته : يشار إلى أن السيد الصدر ( قده ) كان يقدم المال لزوار الحسين ( عليه السلام ) من المشاة ، وكان منهم – أي : المشاة – السيد محمود الهاشمي ، وكان طلابه يذهبون إلى الزيارة مشياً ، وكان ذلك تحت مرآه ، وكان ( قده ) يشجع على زيارة الأربعين والذهاب إلى الحرم الحسيني المطهر مشياً على الأقدام ، وكان هو يتمنى ذلك ولكن الظروف المحيطة به لم تسمح له أبداً بذلك .[30]

    12 – وفي سنة ( 1397 هـ ) لما منعت السلطة العراقية البائدة مسيرةَ المشي إلى زيارة الإمام الحسين ( ع ) ، وحكمت على بعض من خالف قرارها بالإعدام ، أبرق المرجع الديني الكبير ، سماحة آية الله العظمى ، السيد محمد رضا الكلبيكاني ( قده ) إلى سماحة المرجع الديني الأعلى للطائفة ، السيد أبو القاسم الخوئي ( قده ) البرقية التالي ذكرها :

سماحة آية الله السيد الخوئي

دامت بركاته

    نبأ محكومية الجماعة المشتركين في الشعائر الحسينية أقلقنا والحوزة العلمية ، ننتظر من المسؤولين إعادة النظر في أحكامهم ، ورفع القلق عن الجميع بخاصة ذويهم . أدامكم الله وأيدكم .[31]

    كما أبرق سماحة آية الله العظمى ، المرجع الديني الكبير ، السيد عبد الله الشيرازي ( قده ) برقية أخرى بنفس المناسبة ، وإليك نصها :

سماحة آية الله الخوئي

دامت بركاته

    إن الحوادث الواقعة يوم الأربعين ، وضغط الدولة على الشعائر الحسينية والقائمين بها ، أوجبت تأثرنا واستياء الجميع ، وإنّا سوف لن نقصر في القيام بواجبنا الديني إن شاء الله تعالى ، وما النصر إلا من عند الله ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .[32]

    وكما ترى فإن هذين العلمين الكبيرين ( قدهما ) قد اعتبرا المشي إلى زيارة سيد الشهداء الحسين  ( عليه السلام ) من الشعائر الحسينية المباركة ، وقد نددا بمواجهة السلطة البائدة لاستمرارها والتنكيل بالمهتمين بها .

    4 / الجهة الرابعة : من كرامات المشي إلى زيارة الحسين (ع) .

    في شهر رمضان المبارك من سنة ألف وأربعمائة وثمانية وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة ( 1428هـ ) ، التقيت في مدينة ( أبو ظبي ) بأحد الأطباء من الإخوة العراقيين ، وكان شخصاً متديناً صادق اللهجة ، فحدثني بالحادثة الآتي ذكرها ، وقد طلبتُ منه أن يكتبها بيده ، فكتبها بالنحو الآتي :

    بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد وآله الطيبين الطاهرين .

    إني العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى ، مقيم في دولة الإمارات العربية المتحدة ، وأعمل كطبيب تخدير في صالات العمليات منذ حوالي عشرين عاماً ، ولي خبرة في المجال الطبي العام والباطني والأمراض السارية لا بأس بها ، بالإضافة إلى خبرتي في مجال الجراحة والتخدير الذي هو تخصصي .

    منذ عشر سنوات أُصبت في أسفل قدمي اليسار – بين الأصابع – بأربعة مسامير لحمية ، وحينها كنت مقيماً في اليمن ، وحاولت أن أعالج تلك المسامير اللحمية بعدة طرق : كالجراحة والمراهم وغير ذلك من العلاجات ، وبعد حوالي سنتين انتقلت إلى الإمارات وهي لا زالت كما هي ، تختفي مع العلاج ثم تظهر ثانية وبصورة أكبر ، وقد بدأت العلاج معها مجدداً في الإمارات ، ولكن العلاج لم ينفعني شيئاً .

    إلى أن سافرت إلى العراق سنة 1426 هـ ، وبالتحديد في بداية شهر صفر ، ووفقني الله تعالى لزيارة سيدي ومولاي الإمام الحسين ( عليه السلام ) زيارة الأربعين ، ولقد كان هنالك موكب لمنطقتنا اسمه موكب ( الإحسان ) ، وكان موقعه يبعد عن مشهد الإمام الحسين ( عليه السلام ) حوالي ثمانية عشر كيلو متر .

    فلما وصلنا لموقع الموكب كنت في غاية الجوع ، وكنت أتوقع أن يكون طعام الموكب عبارة عن الأرز والقيمة ، في الوقت الذي كنت أشتهي فيه أكل الأرز مع الفاصوليا ، وكانت المفاجأة أن جاؤونا بالغداء بعد صلاة الظهر وإذا به ما كنت أتمناه وأشتهيه ، فقلت : سبحان الله ، نحن الآن في ضيافة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وكل ما نشتهيه نناله ، وصرت أبكي لذلك .

    وبعد الغداء انطلقنا متوجهين إلى حرم سيد الشهداء ( عليه السلام ) مشياً على الأقدام حتى وصلنا وزرنا ، ثم رجعنا إلى الموكب مشياً أيضاً ، وقد كان ثوبي أسود اللون ، ولكنه قد تحول بنياً لكثرة الغبار والتراب الذي تثيره أقدام الزائرين .

    ولما وصلنا إلى موقع الموكب ، مضيت لغسل رجلي وجسدي عن التراب ، ثم جئت قاصداً أن أريح رجلي المتعبتين بشيء من المساج ، فلم أفتح عيني إلا على الكرامة  الحسينية ، حيث فوجئت بعدم وجود أثر لشيء من تلك المسامير اللحمية ، وقد تحققتُ من الموضوع المرة تلو الأخرى ، حتى تيقنت بأن بركات سيد الشهداء ( عليه السلام ) قد شملتني ، وحينها قلت : الله أكبر ، السلام عليك يا سيدي يا أبا عبد الله الحسين ، ورردت ذلك البيت الشهير :

مولىً بتربتهِ الشفاءُ وتحتَ قبته الدعا مِن كُلِّ داعٍ يُسمعُ

    وشوفيت رجلي من المرض المذكور – الذي عجز عنه العلاج الطبي – ببركة سيدي ومولاي الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

    لقد شرحتُ لكم قصتي مع سيدي ومولاي الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، والله على ما أقول شهيد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

العبد الفقير : شاكر كاظم العامري

الرابع والعشرون من شهر رمضان : 1428 هـ

    كلمة الختام :

    وعند هذه الكرامة الشريفة لا يسعني إلا أن أعتبرها مسك الختام لهذه المقالة المتواضعة ، سائلاً من المولى سبحانه وتعالى أن يرزقنا في الدنيا زيارة الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وفي القبر حضوره ، وفي الآخرة شفاعته .

    وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم أجمعين .

ضياء السيد عدنان الخباز

ليلة الجمعة 7 / 2 / 1429 هـ


[1] http://arabic.bayynat.org.lb/nachatat/bayantawdih.htm .

[2] الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية – الآتي ذكرها – اصطلحان يستخدمان في علمي المنطق والأصول ، وليس الغرض من ذكرهما هنا بيان المقصود من المعنى الاصطلاحي بحسب ما هو مذكور في محله ، بل يكفينا إيضاحهما بما لهما من المعنى العام ، فنقول : إن الدلالة المطابقية عبارة عن دلالة اللفظ أو الجملة على المعنى المقصود بشكل مباشر ، بينما الدلالة الالتزامية عبارة عن دلالة اللفظ أو الجملة على المعنى المقصود لا بنحو المباشرة ، بل بواسطة الملازمة .

[3] بداية الهداية : 1 / 392 .

[4] بداية الهداية : 1 / 398 .

[5] مرآة الكمال : 3 / 156 .

[6] مرآة الكمال : 3 / 172 .

[7] الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية : 130 .

[8] الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية : 130 .

[9] وسيلة النجاة ” مع تعليقة السيد الكلبيكاني ” : 2 / 201 .

[10] تحرير الوسيلة : 2 / 106 .

[11] هداية العباد : 2 / 197 .

[12] مهذب الأحكام : 22 / 301 .

[13] منهاج الصالحين : 3 / 235 .

[14] مهذب الأحكام : 22 / 301 .

[15]وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 380 .

[16] وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 377 .

[17] وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 439 .

[18] وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 441 .

[19] وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 440 .

[20] وسائل الشيعة ( آل البيت ) : 14 / 546 .

[21] الأنوار الإلهية في المسائل العقائدية : 130 .

[22] نقباء البشر في القرن الرابع عشر : 2 547 – 548 .

[23] لاحظ كتاب : ( المرجعية العاملة ) : 179 .

[24] سياحة في الشرق : 189 – 190 .

[25] ربع قرن مع العلامة الأميني : 31 .

[26] قبسات من حياة السيد المرعشي ( قده ) : 24 .

[27] العارف ذو الثفنات : 59 .

[28] لسان الصدق : 45 .

[29] الروح المجرد : 22 – 23 .

[30] محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة : 2 / 280 .

[31] محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة : 3 / 335 .

[32]محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة : 3 / 331 .


قراءة المقال كملف pdf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *