معرفة المعصوم بين الرؤية المادية والرؤية الغيبية

تاريخ المحاضرة: 03/01/1431

نقاط البحث:

  1. بيان أهمية معرفة المعصوم
    • خطورة محذور الغلو
    • خطورة محذور التقصير
  2. بيان أبعاد الرؤية المادية لمعرفة المعصوم
    • آثار الرؤية المادية على فكر الإنسان وسلوكه.
    • تبنّي مدرسة الخلفاء للرؤية المادية وأثر ذلك على فهمها للآيات المرتبطة بالنبي (ص)، كقوله تعالى: {ووضعنا عنك وزرك}، وقوله: {ووجدك ضالًا فهدى}.
  3. بيان أبعاد الرؤية الغيبية لمعرفة المعصوم
    • هل كرّس القرآن الكريم الرؤية المادية في معرفة المعصوم، أم أسّس للرؤية الغيبية؟

المقطع الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

معلومات أخرى:


نص المحاضرة

قراءة المحاضرة كملف PDF

قال اللهُ العظيم: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ}[1].

الحديث حول هذا الموضوع يتمُّ في نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: أهمّية معرفة المعصوم (ع).

عندما نرجع للروايات الواردة عن أهل البيت (ع) نجد في الروايات خطابات مكثّفة وتركيزًا بالغًا على مسألة معرفة المعصوم (ع)، ففي الرواية عن النبي الأعظم (ص): ((مَن منَّ الله عليه بمعرفة أهل بيتي وولايتهم، فقد جمع اللهُ له الخير كلّه))[2].

وفي الرواية عن أمير المؤمنين (ع) قال: ((ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله تعالى إلا بسبيل معرفتنا))[3]، وهذا تصرّيح منه بأنه لا سبيل لمعرفة الله تعالى إلا بمعرفة المعصوم (ع).

وسأل زريق الإمام الصادق (ع) قائلًا: يا بن رسول الله، أيّ الأعمال أفضل بعد المعرفة؟ فقال: ((ما من شيء بعد المعرفة يعدل هذه الصلاة، ولا بعد المعرفة والصلاة شيء يعدل الزكاة، ولا بعد ذلك شيء يعدل الصيام، ولا بعد ذلك شيء يعدل الحج، وفاتحة ذلك كلّه معرفتنا، وخاتمته معرفتنا))[4].

وعن زرارة، عن أبي عبد الله (ع) في حديث ذكر فيه غيبة القائم (ع) قال: فقلت: جعلت فداك، فإن أدركت ذلك الزمان، فأي شيء أعمل؟ قال: ((يا زرارة إن أدركت ذلك الزمان فالزم هذا الدعاء: اللهم عرّفني نفسك، فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني))[5].

والسؤال الذي يطرح نفسه إزاء هذه النصوص وأمثالها، هو: أنه لماذا كل هذا التركيز البالغ على معرفة المعصوم (ع)؟

والجواب عن ذلك: أنَّ أهمّية معرفة المعصوم تكمن في أنَّ إهمالها يلقي بالإنسان في أحد محذورين خطيرين، وهما:

المحذور الأول: محذور الغلو.

ويُراد بالغلو: إعطاء المعصوم ما ليس له، وقد حذّرت منه الروايات، كقول الإمام الصادق (ع): ((احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم؛ فإن الغلاة شر خلق الله))[6].

المحذور الثاني: محذور التقصير.

ويُراد به: سلبُ المعصوم ما هو له، وهو المحذور الأخطر؛ لأنَّ الكثير من الناس يقع فيه، وقد حذّرت الروايات من هذا المحذور أيضًا، ففي الزيارة الجامعة: ((فالراغب عنكم مارق، واللازم لكم لاحق، والمقصّر في حقكم زاهق))[7].

وفي الرواية عن الإمام الحسن (ع) قال: ((وأيم الله، لا يُنقصنا أحد من حقنا شيئًا إلا تنقّصه الله في عاجل دنياه وآجل آخرته))[8].

وفي زيارة عاشوراء المباركة: ((ولعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها))[9].

وجاء في زيارة الإمام الحجة (ع): ((الحمد لله الذي… لم يجعلنا من المعاندين الناصبين، ولا من الغلاة المفوضين، ولا من المرتابين المقصّرين))[10].

ومن الواضح ترتب كلا المحذورين على عدم المعرفة؛ إذ مَن لم يعرف المعصوم (ع) قد يعطيه ما ليس له، فيكون مغاليًا، وقد يسلبه ما هو له، فيكون مقصّرًا، بسبب عدم معرفته به.

وعلى ذلك فإنه لا يصح من المؤمن أن يقف موقف اللامبالاة تجاه معرفة المعصوم، ويكتفي بالإيمان بكونه إمامًا، بل لا بدَّ من معرفته معرفةً تبعده عن الوقوع في المحذورين المتقدمين.

النقطة الثانية: أبعاد الرؤية المادية لمعرفة المعصوم (ع).

في مجال معرفة المعصوم (ع) توجد هنالك رؤيتان:

أ. الرؤية الأولى: الرؤية الغيبية، وهي الرؤية التي تقول: إن المعصوم (ع) كائن بشري، ولكنه متصل بالغيب، فهو لا يخطئ ولا يلهو ولا يسهو ولا يلعب، وله قدرة على التصرّف في أمور التكوين بإذن الله تعالى، كما أنَّ له ولاية على شؤون التشريع.

ب. الرؤية الثانية: الرؤية المادية، وهي الرؤية التي تقول: إن المعصوم (ع) لا يختلف عن غيره من البشر، وليست له أي امتيازات يتميز بها، سوى أنه مبلّغ عن الله تعالى.

ووجهُ التعبير عن الرؤية الأولى بالغيبية، وعن الثانية بالمادية: أن العوالم الوجودية كلها تنطوي ضمن عالمين:

أ. العالم الأول: عالم الحس والمادة، وهو العالم الذي يمكن أن ندركه بحواسنا الظاهرية.

ب. العالم الثاني: عالم الغيب والمعنى والملكوت، وهو: العالم الذي لا يمكن أن ندركه بحواسنا الظاهرية.

وهذان العالمان متداخلان حتى في تركيبة الإنسان؛ لأنَّ الإنسان مركب ثنائي من البدن الذي هو من سنخ عالم المادة، والروح التي هي من سنخ عالم الغيب، ومتى ما طغت نزعة المادة على نزعة الغيب نتج عن ذلك أثران خطيران:

الأثر الأول: صيرورة سلوك الإنسان سلوكًا ماديًا بحتًا، من قبيل أن يكون حريصًا على الدنيا وملذاتها.

الأثر الثاني: الخطأ في فهم الحقائق، بحيث يصبح الإنسان الذي تغلب عليه النزعة المادية لا يفهم الأمور إلا بصورة مادية، فحين تُعرض عليه قضية الآخرة يقول: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}[11]، وما ذلك إلا لأنَّ النزعة المادية قد طغت على أصحاب هذا المنطق فأنكروا المعاد والنبوة ووجود الله تعالى، وكلّما كان الإنسان أكثر إغراقًا في النزعة المادية كلّما كانت الحقائق التي ينكرها أكثر وأكبر، حتى أنه قد يصبح من الإلحاديين، والعكس بالعكس.

إذا عرفت ذلك، فإنَّ الرؤية المادية للمعصوم (ع) تنطلق من غلبة النزعة المادية على النزعة الروحية، والرؤية الغيبية تنطلق من غلبة النزعة الروحية على النزعة المادية.

وهاتان الرؤيتان أصبحتا سمتين للمدرستين المعروفتين عند المسلمين، فالرؤية المادية أصبحت سمة مدرسة الخلفاء، والرؤية الغيبية أصبحت سمة لمدرسة أهل البيت (ع)، ويُعلم ذلك من خلال الآيات القرآنية المرتبطة بالنبي (ص) وكيفية تعامل مدرسة الخلفاء معها، وكذا كيفية تعامل مدرسة أهل البيت (ع) معها.

نماذج لتعامل أصحاب الرؤية المادية مع الآيات القرآنية:

ولا بأس بسَوقِ بعض الأمثلة لإيضاح الفكرة:

أ. المثال الأول: قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}[12]، وقد فسّرت مدرسة الخلفاء الوزرَ الذي وضعه الله عن نبيه (ص) بالذنب والمعصية[13]، لأن النبي بنظرهم كسائر البشر يمكن أن يخطئ، وهذه هي الرؤية المادية التي تعتقد في المعصوم بأنه مجرد مبلّغ لا ميزة له.

وأما مدرسة أهل البيت (ع) فتطرح: أنَّ الوزر بمعنى الحمل الثقيل، كما هو أساس المعنى اللغوي، وإنما سمي الذنب وزرًا لأنه يشكّل حملًا ثقيلًا على صاحبه، ولكنَّ الحمل الثقيل في الآية ليس هو هذا، وإنما هو الوظيفة الإلهية، ويمكن فهم ذلك من خلال مقارنة هذه الآيات بآيات أخرى متقاربة معها مضمونًا، وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[14]، وإذا كان الله تعالى – بمقتضى هذه الآيات – قد شرح صدر نبيه موسى (ع) بأن جعل له وزيرًا، وهو هارون (ع)، فهذا يقرّب أن يكون الله تعالى في تلك الآيات قد شرح صدر محمد (ص)، وأزاح عنه الحمل الثقيل، عندما جعل له وصيًّا يحمل عنه عبء الوظيفة الإلهية، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومن هنا جاء في الرواية عن الإمام الصادق (ع) قال: (({أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} بعلي {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ}، {فإذا فرغتَ فانصب} عليًا))[15].

ب. المثال الثاني: قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى}[16]، والذي تطرحه مدرسة الخلفاء أن النبي (ص) كان على أمر قومهِ في الضلالة والخطأ، فهداه الله تعالى؛ لأنه كبقية البشر الذين يدور أمرهم بين الهداية والضلال[17].

أما مدرسة أهل البيت (ع) فتطرح: أن كلمة الضلال في اللغة العربية لها أكثر من معنى، ومن أبرزها معنيان:

المعنى الأول: الضلال المقابل للهداية، وهذا هو المعنى الذي تطرحه مدرسة الخلفاء.

المعنى الثاني: الضلال بمعنى الضمور والخفوت، كما في الحكمة الشهيرة عن أمير المؤمنين (ع): ((الحكمة ضالة المؤمن))[18]، أي: أنَّها لخفائها وضمورها تُطلب كالضالة الضائعة.

وهذا المعنى هو المقصود من الآية المباركة؛ ولذلك لما سئل الإمام الرضا (ع) عن هذه الآية المباركة قال: (({وَوَجَدَكَ ضَالًا} يعني: عند قومك {فَهَدَى} أي: هداهم إلى معرفتك))[19]، وهو ما أكَّدَ عليه القرآن الكريم في آية أخرى عندما قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}[20].

ج. المثال الثالث: قوله تعالى شأنه: {عَبَسَ وتَوَلَّى * أَنْ جاءَهُ الأَعْمى‏ * وَما يُدْريكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى‏ * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}[21]، فإنَّ الطرح الذي تطرحه مدرسة الخلفاء أنَّ العابِس الذي انزعجَ من مجيء الأعمى له، حتى بدا العبوس على وجهه، وأعرضَ عنه، بينما أدار بوجهه للغني وتصدى له، هو النبي الأعظم (ص)، وما ذلك إلا لأنه كغيره من البشر الذين يتصفون بمحاسن الأخلاق وبأضدادها[22].

وهذا ما ترفضه مدرسة أهل البيت (ع)، وتطرح في المقابل أنَّ العابس ليس هو النبي (ص)، وإنما هو رجلٌ مِن بني أمية.

فعن الإمام الصادق (ع): ((نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (ص)، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذر منه، وجمع نفسه وعبس، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك، وأنكره عليه))[23].

ولشيخ الطائفة الطوسي (طيّب الله تربته) كلامٌ متينٌ حول نظرية مدرسة الخلفاء، قال فيه: ((فقال كثير من المفسرين وأهل الحشو: إن المراد به النبي (ص)، قالوا: وذلك أن النبي (ص) كان معه جماعة من أشراف قومه ورؤسائهم، قد خلا بهم، فأقبل ابن أم مكتوم ليسلم، فأعرض النبي (ص) عنه، كراهيةَ أن تكره القوم إقباله عليه، فعاتبه الله على ذلك.

وقيل: إن ابن أم مكتوم كان مسلمًا، وإنما كان يخاطب النبي (ص) وهو لا يعلم أن رسول الله مشغول بكلام قوم، فيقول: يا رسول الله.

وهذا فاسد، لأن النبي (ص) قد أجلَّ الله قدره عن هذه الصفات، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب، وقد وصفه بأنه {عَلَى خُلُقٍ عَظِيم}، وقال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ}.

ومن عرف النبي (ص) وحسن أخلاقه، وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة، حتى قيل: إنه لم يكن يصافح أحدًا قط فينزع يده من يده، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده، فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام؟! على أن الأنبياء (ع) منزهون عن مثل هذه الأخلاق، وعما هو دونها؛ لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم، ولا يُجَوِّز مثل هذا على الأنبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم))[24].

سؤالٌ مهمٌ:

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ في المقام، هو: لماذا كلُّ هذا الإصرار على تصوير النبي الأعظم (ص) بأنه مجرّد بشر يخطئ كما يخطئ غيره، ويجهل كما يجهل غيره، ويتصف بالرذائل الأخلاقية كما يتصف بها الآخرون من البشر؟

ويجيب عن ذلك الحداثيون المتبنون لنفس الرؤية المادية التي تتبناها مدرسة الخلفاء، فيقولون: إنَّ القرآن الكريم هو المؤسِّس لهذهِ الرؤية، فإنه في العديد من آياته الشريفة يركِّز على الجنبة البشرية عند النبي (ص)، وهي التي تفرض النظر إليه من خلال الرؤية المادية، فالقرآن هو القائل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[25]، وهو القائل أيضًا: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا}[26].

ولا يخفى ما في هذه الإجابة من التمويه؛ وذلك لأنَّ القرآن عندما ركز على الجنبة البشرية للنبي (ص) إنما ركَّزَ عليها في مقام الاحتجاج على الناس ليس إلا، ويمكن فهم ذلك من خلال الإجابة التي يطرحها الكلاميون عن السؤال القائل: لماذا يجب أن يكون النبي أو الرسول من جنس البشر، ولا يصح أن يكون من الجن أو الملائكة؟

حيث يجيبون عنه: بأنَّ ذلك من أجل الاحتجاج على الناس؛ لأنه لو كان الرسول ملَكًا، ثم قال الله تعالى للناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[27]، لاحتجوا بأنَّه من جنسٍ لا شهوةَ له، بينما هم بشر لهم شهوات وملذات، فلا يمكنهم التأسي به، فأراد الله تعالى قطع الحجة عليهم، فبعث الله الرسل لهم من جنسهم؛ وقد أشارَ لذلك بقوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[28]، أي: أنَّ واحدةً من نعم الله الكبيرة على خلقه أن جعل الرسل من جنسهم.

ولأجل نكتة الاحتجاج هذه؛ فإنَّ القرآن الكريم حين يركز على وجود الجنبة البشرية عند النبي، لا بدَّ أن يُركِّز على وجود جنبة أخرى عنده، ولذلك تراه حين يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} يقول أيضًا: {يُوحَى إِلَيَّ}، للتأكيد على أنَّ النبي مركب ثنائي من جنبتين: جنبة المادة وجنبة الغيب.

النقطة الثالثة: أبعاد الرؤية الغيبية لمعرفة المعصوم (ع).

تقدم أنَّ الرؤية التي يطرحها الشيعة تقول: إنه يجب معرفة المعصوم من خلال الرؤية الغيبية، بمعنى أن المعصوم وإن كان بشرًا، إلا أن هذا الكائن البشري ليس كبقية البشر، بل له خصائص يتميّز بها على جميع البشر، فالبشر يخطئون وهو لا يخطئ، والبشر يجهلون وهو لا يجهل، والبشر يلهون ويلعبون وهو لا يلهو ولا يلعب، والبشر عاجز عن التصرّف فيما حوله والمعصوم قادر على التصرّف في الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة بإذن الله تعالى.

والذي ندّعيه: أنَّ القرآن الكريم هو الذي رفض الرؤية المادية وهاجمها وشنّع عليها، وهو المؤسس للرؤية الغيبية، فلدعوانا شقان:

أ. الشق الأول: القرآن يرفض الرؤية المادية.

ويشهد لذلك من الآي القرآني:

  • قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[29].
  • ومثله قوله تعالى أيضًا: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إذن لَخَاسِرُونَ}[30].
  • وكذا قوله تعالى شأنه العالي: {وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[31].

والمتحصّل من هذه الآيات القرآنية: أنَّ الرؤية المادية التي تصوّر النبي على أنه مجرد بشر، قد رفضها القرآن، وشنّع على من يتبناها.

ب. الشق الثاني: القرآن هو المؤسّس للرؤية الغيبية.

وهذا ما نقرأه في قوله تعالى شأنه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[32]، ووجهُ استفادة الرؤية الغيبية من هذه الآية المباركة: أنها قد اختارت للحديث عن نظام الاستخلاف في الأرض لفظ (الخليفة) – دون لفظ الرسول أو النبي أو الإمام وما شاكلها – والخليفةُ لغةً وعرفًا هو: الحائز على صفات المستخلِف، وهذا يعني أنَّ الخليفة هو مَن يُجسِّدُ المُستَخلِف في صفاته وأفعاله، ويكون مرآةً له.

فمثلًا: لو أنَّ شخصًا كان معروفًا بالإيمان والورع والتقوى والسخاء، وكان له ولدان: أحدهما تقي ورع كريم، والآخر فاجر فاسق بخيل، فلا شك أنَّ الولد الأول هو الذي يصح أن يُطلق عليه وصف (خليفة أبيه)؛ لأنه هو من يجمع صفات المستخلف.

ومن هنا نحن نقول: إنَّ أمير المؤمنين (ع) هو خليفة رسول الله (ص) حقًا؛ لأنه هو الذي يجمع صفات الرسول – علمًا وعبادةً وجودًا وشجاعةً وحلمًا وغير ذلك – وأما غيره فيمتنع إطلاق وصف خليفة الرسول عليه قطعًا؛ لأنه لا يحاكيه في شيء من صفاته.

إذا عرفتَ ذلك تعرف أنَّ القرآن عندما استخدم لفظ (الخليفة) في حديثه عن نظام الاستخلاف بقوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} فهو الذي أسّس للرؤية الغيبية؛ لأنَّ خليفته هو مَن يكون مرآة لصفاته، فعلمه مرآة لعلمه، وقدرته مرآة لقدرته، وحكمته مرآة لحكمته، وعصمته مرآة لعصمته، وهكذا، وبعبارةٍ جامعة: إنَّ خليفة الله في أرضه – بمقتضى التعريف اللغوي والعرفي – هو من يكون جامعًا وعاكسًا لصفات الله تعالى، مع فارق أنَّ صفات الخليفة صفات إفاضية، بمعنى أنها مفاضة عليه من قبل الله تعالى، بينما صفات الله تعالى صفات ذاتية استقلالية، بمعنى أنها ثابتة له بالذات والاستقلال.

ومن هذا المنطلق جاء اعتقادنا في كلِّ مَن يتصف بصفة (خليفة الله) – وهو الرسول أو النبي أو الوصي – أنه لا بدَّ أن يكون من مرايا الذات المقدسة في كل صفاته، وهذا ما يوجب تنزيهه عن الجهل والخطأ والاشتباه ونحو ذلك من النقائص، ووصفه بمعالي الصفات، كالعلم الغيبي، والقدرة التكوينية، والعصمة، ونحو ذلك، ولا يكون ذلك – على ضوء هذه الرؤية القرآنية – من الغلو في شيء.

ومن هنا نفهم أيضًا سِرَّ تعريف الإمام علي بن موسى الرضا (ع) للإمامة بقوله: ((إن الإمامة خلافة الله))[33]، كما ويتضح لنا البون الشاسع بين هذا التعريف الدقيق للإمامة – الذي يتناغم مع الرؤية القرآنية – وبين تعريف بعض المتكلمين لها بقولهم: (رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا)، فإنَّ هذا التعريف فيه من التحجيم ما لا يخفى.


الهوامش:

[1] سورة البقرة، الآية: 269.

[2] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج27، ص88، باب ثواب حبهم ونصرتهم وولايتهم، ح36.

[3] المصدر نفسه، ج24، ص253، باب أنهم (ع) أهل الاعراف الذين ذكرهم الله في القرآن، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ح14.

[4] بحار الأنوار، ج27، ص202، باب أنه لا تقبل الأعمال إلا بالولاية، ح71.

[5] بحار الأنوار، ج92، ص326، ما ينبغي أن يدعى في زمن الغيبة، ح2.

[6] بحار الأنوار: 25/ 265، باب نفي الغلو عن النبي والأئمة صلوات الله عليه وعليهم وبيان معاني التفويض وما لا ينبغي أن ينسب إليهم منها وما ينبغي، ح6.

[7] عيون أخبار الرضا (ع): 2/ 306، ما يجزي من القول عند زيارة جميع الأئمة (ع)، ح1.

[8] الأمالي، للشيخ الطوسي (قده): 83، ح121.

[9] بحار الأنوار: 98/ 291، باب كيفية زياراته (ع) يوم عاشوراء، ح1.

[10] بحار الأنوار: 99/ 103، باب زيارة الإمام المستتر عن الأبصار الحاضر في قلوب الأخيار، ح2.

[11] سورة الجاثية، الآية: 24.

[12] سورة الشرح، الآيات: 1 3.

[13] لاحظ ما يلي: الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي، ج20، ص105. وكذلك راجع: جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري، ج30، ص295، بل بالغ بعضهم كما حكى عنه الطبري فقال: لم تكن للنبي (ص) ذنوب a فحسب، بل كانت له ذنوب قد أثقلته، فغفرها الله له.

[14] سورة طه، الآيات: 25 32.

[15] تفسير فرات الكوفي، ص574.

[16] سورة الضحى، الآية: 7.

[17] معالم التنزيل المعروف بتفسير البغوي، 5/ 268.

والمستصفى في علم الأصول، ص140،

وراجع كذلك: الطبقات الكبرى، ج1، ص190، وفي المصدر الأول: أنَّ الله هداه إلى التوحيد، وهذا اتهام له (ص) بأنه كان على الكفر.

[18] نهج البلاغة: 4/18.

[19] الاحتجاج: 2/219.

[20] سورة الشرح، الآية: 4.

[21] سورة عبس، الآيتان: 1 7.

[22] لاحظ: جامع البيان في تفسير آي القرآن، ج30، ص 64، وكذلك الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي، ج19، ص211.

[23] بحار الأنوار: 30/ 175، ح31.

[24] التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص 268.

[25] سورة الكهف، الآية: 110.

[26] سورة الإسراء، الآية: 93.

[27] سورة الأحزاب، الآية: 21.

[28] سورة آل عمران، الآية: 164.

[29] سورة الأنبياء، الآيات: 1 3.

[30] سورة المؤمنون، الآيتان: 33 34.

[31] سورة الشعراء، الآيتان: 186 187.

[32] سورة البقرة، الآية: 30.

[33] تحف العقول عن آل الرسول، ص 438.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1431

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *