أهمية النقد العلمي لأحداث واقعة الطف ومقاييسه

تاريخ المحاضرة: 02/01/1431

نقاط البحث:

  1. بيان أهمية النقد العلمي لأحداث واقعة الطف
    • الرؤية الرافضة ونقدها
    • الرؤية المؤيدة وتبريرها
  2. بيان المقاييس العلمية لنقد أحداث واقعة الطف
    • الالتزام بالمنهج العلمي للنقد
    • وفرة التتبّع وكثرة الاطّلاع
    • القدرة على تحليل الحدث

المقطع الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

 

معلومات أخرى:

  • هذه المحاضرة موجودة في كتاب (وجهًا لوجه بين الأصالة والتجديد، ط1، ص349)، وفي الطبعة الثانية (ج2، ص159).
  • تضمّنت المحاضرة وقفات عديدة مع بعض الأحداث التاريخيّة، منها:
    • سؤال الإمام الحسين (ع) عن اسم أرض كربلاء
    • زفاف القاسم بن الحسن (ع)
    • خطبة أمير المؤمنين (ع) لابنة أبي جهل
    • وجود ليلى أم الأكبر (ع) في كربلاء
    • رجوع ركب السبايا إلى كربلاء يوم الأربعين
    • كثرة عدد قتلى الطف
    • بروز نساء الحسين (ع) من الخدور ناشرات الشعور
    • طلب الإمام الحسين (ع) الماء من أعدائه
  • سؤال مرتبط بهذه المحاضرة

نص المحاضرة

قالت السيدة الحوراء زينب (عليها السلام): ((وينصبون لهذا الطف علَمًا لقبر أبيك سيد الشهداء (عليه السلام)، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورًا، وأمره إلا علوًّا))[1].

والبحث حول هذا الموضوع ينصب في نقطتين:

النقطة الأولى: أهمّية النقد العلمي لأحداث واقعة الطف.

وما نريد أن نتحدث عنه هنا هو: أنَّ أحداث واقعة الطف – التي دونتها كتب المقاتل، ويتلوها خطباء المنبر الحسيني – هل هي قابلة للنقد، أم لا؟

تُوجد لدينا رؤيتان:

الرؤية الأولى: الرؤية الرافضة.

وأصحابُ هذه الرؤية يقولون: إنَّ أحداث واقعة الطف خطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها، ولا يصح نقدها، أو رفض شيءٍ منها؛ لأن ذلك يؤدي لتوهين قضية الطف، بداهة أنه عندما ينفتح باب النقد لأحداثها فإنه يؤدي لإضعاف فاعليتها وإخفاء وهجها.

والذي يُلاحظ على هذه الرؤية: أنها على إطلاقها ليست رؤية صحيحة؛ لأننا عندما نتحدث عن النقد المطلوب لأحداث واقعة الطف لسنا نتحدث عن النقد الارتجالي، وإنما نتحدث عن النقد العلمي، وتوضيح ذلك: أنَّ هنالك نحوين من النقد:

أ. النحو الأول: النقد الارتجالي، وهو: الذي لا يعتمد على أُسس نقدية وضوابط علمية، بل يقوم على مجرد استحسانات ذوقية واستبعادات شخصية، وسيأتي عرض بعض أمثلته.

وهذا النحو من النقد هو الذي ينبغي رفضه؛ للعلة المتقدمة، وهي أنه عندما يُفتح باب النقد الارتجالي، فإنه يوجب توهين قضية الطف والتأثير على فاعليتها؛ لعدم انضباطه.

فمثلًا: يأتي أحدهم ويقول: إن قضية سؤال الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه عندما وصلوا أرض كربلاء عن اسمها قضية غير مقبولة، بحجة أنها تتنافى مع ما نعتقده من علم الإمام (عليه السلام)؛ إذ أنَّ مفادها عدم كونه (عليه السلام) عالمًا باسم أرض كربلاء.

وهذا مصداق واضح للنقد الارتجالي؛ إذ أنَّ أي شخص له إحاطة بسيطة باللغة العربية يعلم أن هناك نوعًا من الاستفهام يعبّر عنه بالاستفهام التقريري، وهو الذي يكون لأجل حمل المسؤول على الإقرار بالجواب، رغم علم المستفهم به، نظير قول الله (سبحانه وتعالى): {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}[2]؛ فإنه لا شك في كون الله (سبحانه وتعالى) عالمًا بما سأل نبيه عنه، ولكنه سأله لأجل حمله على الإقرار بالجواب، لغايةٍ من الغايات، وكذلك الإمام الحسين (عليه السلام) عندما سأل أصحابه لم يكن سؤاله عن جهل، وإنما كان استفهامًا تقريريًا ليسمع الجواب منهم، لمصلحة من المصالح.

فاتضح أنَّ المستفهم عندما يسأل ليس من اللازم أن يكون استفهامه من منطلق عدم علمه، إذ قد يكون عالمًا ولكنه يسأل بهدف التقرير، وبذلك ظهرَ أنَّ النقد المذكور مجرد نقد ارتجالي لا قيمة له، ولو فُتِحَ بابه لما بقيَ حجرٌ على حجر.

ب. النحو الثاني: النقد العلمي، وهو: النقد المبني على الأُسس النقدية والضوابط العلمية التي ستأتي الإشارة إليها، وستتضح لاحقًا وجهة النظر فيه.

الرؤية الثانية: الرؤية المؤيِّدة.

والوجهُ لهذه الرؤية: أنَّ أحداث واقعة الطف كغيرها من الأحداث التاريخية قد تعرّضت للتحريف والتشويه، وهذا ما يقتضي إخضاعها للنقد العلمي بالضرورة.

فمثلًا يروي الطبري في تاريخه: أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد خاطب عمر بن سعد وقال له: ((اختاروا مني خصالًا ثلاثًا: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه، وإما أن تسيّروني إلى أيِّ ثغر من ثغور المسلمين))[3].

وهذا من جملة التحريفات التي طالت واقعة الطف؛ إذ أنَّ مَن يقرأ حركة الإمام الحسين (عليه السلام) وما اقترن بها من الخطابات، يدرك أنه (عليه السلام) كان مصممًا على الشهادة منذ البداية تصميمًا لا رجعة فيه، وهذا يتنافى بوضوح مع الفرية التي نقلها الطبري، كما أنها تتنافى أيضًا مع شعارات الإمام الحسين (عليه السلام) الخالدة، كقوله: ((لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرُّ فرار العبيد))[4].

وعليه فإذا كانت يد التحريف قد طالت واقعة الطف، ونالت من ملامح العظمة والشموخ فيها، لزم أن يكون هنالك علماء نقاد يميّزون الأحداث الصحيحة عن المحرّفة، حتى تبقى نقية عن التحريف؛ لئلا تفقد فاعليتها وقيمتها كما تقدم، ويمكن تقريب الفكرة بالقرآن الكريم، فإنه يمتلك أسمى مكانة عند جميع المسلمين في العالم، ولكنه لو تعرض للتحريف بالنقيصة أو الزيادة، لفقد مكانته السامية، كما فقدت الكتب السماوية الأخرى مكانتها بسبب ما طالها من التحريف والتشويه.

ومن هنا اتضح أنَّ نقد تاريخ أحداث واقعة الطف نقدًا علميًا – لا ارتجاليًا – أمر بالغ الأهمية.

النقطة الثانية: المقاييس العلمية لنقد تاريخ واقعة الطف.

على ضوء ما قدمناه يتضح أنه لا يمكن لأيِّ شخص أن ينتقد أحداث واقعة الطف؛ والوجه في ذلك: أنَّ للنقد العلمي أصولًا ومقاييس، وليست هذه الأصول شرعة لكل وارد؛ ولذا نحتاج أن نركِّزَ عليها في هذا المقام، حتى يتبين صدق ما ذكرناه، وهي ثلاثة مقاييس:

أ/ المقياس الأول: الالتزام بالمنهج العلمي للنقد.

مما لا خفاء فيه أنَّ العلوم متعددة ومختلفة، إلا أنَّ الذي قد يخفى أن المنهج العلمي للنقد يختلف من علم لآخر؛ ولذلك فإنَّ الناقد لأحداث واقعة الطف يحتاج أن يكون ملمًّا بالمنهج العلمي لنقد علم التاريخ، ويميّز بينه وبين مناهج نقد العلوم الأخرى.

وعلى ذلك فإنَّ النقد لأحداث واقعة الطف لا يتسم بالعلمية، إلا إذا كان على ضوء منهج النقد التاريخي، وهذا ما يفتقده نقد بعض النقّاد، فإنهم يناقشون في بعض روايات أحداث الطف من جهة إرسالها مثلًا، فيتعاملون معها كما يتعامل الفقهاء مع الروايات الفقهية، مع أنَّ ذلك على خلاف المنهج العلمي لنقد التاريخ، وهذا ما يُفقد نقدهم قيمته العلمية، ويجعله أشبه بالنقد الارتجالي في عدم القيمة.

وتوضيحُ ذلك: أنَّ المنهج العلمي لقبول الخبر التاريخي هو الوثوق بوقوعه، ومن البيّن أنَّ حالة الوثوق هذه كما تحصل بوصول الخبر معنعنًا عن طريق الثقات، كذلك تحصل من خلال تراكم الاحتمالات، واجتماع القرائن، وسنشير إلى بعضها:

القرينة الأولى: ورود الخبر التاريخي في بعض المصادر القريبة من زمان وقوع الحدث.

القرينة الثانية: وثاقة مؤلف الكتاب الناقل للحدث، ومعروفيته بالتثبت والضبط.

فإنَّ المؤلف إذا كان خبيرًا ماهرًا متثبتًا، أورث ذلك منقولاته قوةً ومتانة؛ لأنَّ مثله يُجلّ ويُنزّه عن الكذب، كما أنَّ نسبة الخطأ غير العمدي والاشتباه بالنسبة له تكون ضعيفة.

ومن هنا فإنَّ مجموعة من علماء الطائفة (طابت نفوسهم الشريفة) لم يحكموا على قضية زفاف القاسم بن الحسن (عليه السلام) في كربلاء بالضعف، ولم يردوها؛ وما ذلك إلا لأنَّ هذه القضية قد وردت في مؤلفات بعض العلماء المعتمدين، ومنهم:

  • الشيخ الطريحي (أعلى الله مقامه) في كتابه (المنتخب)[5]، وهو لغوي ورجالي وفقيه مجتهد، من أجلاء علماء الطائفة المحقة.
  • الشيخ الدربندي (أعلى الله مقامه) في كتابه (أسرار الشهادة)[6]، وهو أيضًا فقيه مجتهد، بل هو أحد مراجع الطائفة في زمانه.
  • الشيخ حبيب الله الكاشاني (أعلى الله مقامه) في كتابه (تذكرة الشهداء)[7]، وهو أيضًا من كبار علماء الطائفة ومجتهديها.

ومن الواضح أنَّ كلَّ واحد من هؤلاء يجسِّد قامة من قامات العلم والاجتهاد، ومنارة من منارات الورع والتقوى، فورودُ القضية في كتبهم يورث الاطمئنان بعدم كذبها.

القرينة الثالثة: عدم وقوع أحد الرواة المعروفين بالكذب في سلسلة سند الخبر؛ إذ أنه إذا كان أحد الرواة معروفًا بالكذب كان ذلك من موجبات عدم الوثوق بالخبر، وأما إذا لم يكن معروفًا بالكذب لم يمتنع الوثوق بخبره.

ومن هنا جاء رفضنا لقضية خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنة أبي جهل[8]، فإنها مضافًا إلى عدم ورودها في مصدر معتمد، إنما اشتهر نقلها عن المسور بن مخرمة، وهو ممن أصرَّ في الشورى على ترشيح عثمان على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبعد قتل عثمان انتقل إلى مكة وانضمَّ لابن الزبير، حتى قُتِلَ في واقعة رمي الكعبة بالمنجنيق وهو يقاتل دون ابن الزبير، وإلى جانب ذلك فإنه ما كان يذكر معاوية بن أبي سفيان إلا ويصلي عليه، كما كان الخوارج يغشونه وينتحلونه، وهذا يكفي لعدم الاعتماد على روايته فيما يرتبط بأمير المؤمنين (عليه السلام).

القرينة الرابعة: ورود الخبر عمّن ليس من صالحه نقله، وإن لم يكن في نفسه من الثقات، فإنه يُشكّل إحدى القرائن العقلائية على صدق الخبر ووقوعه، نظير نقل أعداء الإمام الحسين (عليه آلاف التحية والثناء) لبعض أحداث واقعة كربلاء التي تدينهم، فإنه من مورثات الاطمئنان بالوقوع؛ إذ ليس من المتصور في عاقلٍ من العقلاء أن يختلق خبرًا يدينه، ويوجب ذمه وإسقاطه.

وممّا يجدر الالتفات إليه والتيقّظ له: أنَّ القرائن الموجبة للوثوق بالخبر التاريخي لا تقف عند هذه فقط، بل هي عديدة وكثيرة، وتختلف تبعًا لاختلاف الموارد، وما هذه إلا نماذج ليس إلا، وتظهر براعة الباحث أو المحقّق في كيفيّة تتبّع القرائن وجمعها بالمستوى الذي يولّد الوثوق والاطمئنان بالحدث التاريخي.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه: أنَّ المنهج العلمي لقبول الخبر التاريخي ورفضه يختلف عن منهج النقد في العلوم الأخرى، وعليه فلا يسوغ لشخص أن يرفض بعض أحداث كربلاء بحجة أنَّ أسانيدها غير صحيحة، والحال أنَّ هذا المنهج النقدي يختص ببعض العلوم الأخرى كعلم الفقه، ولو أننا أعملناه في علم التاريخ لم يبقَ حجر على حجر؛ لأنَّ الكثير من أحداث التاريخ قد وصلت إلينا مِن غير أن يذكر لها إسناد، أو من طريق أشخاص لم تثبت وثاقتهم.

ومن جملة فصول التاريخ: أحداث كربلاء، فإنَّ بعضها قد وصلنا عن طريق أعداء الإمام الحسين (عليه السلام)، والبعض الآخر قد وصل عن طريق الإمام السجاد (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) ونساء سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، وعليه فلو أعملنا منهج النقد الفقهي فيها طبقًا لمقاييس التصحيح السندي لكانَ القسم الأول منها محكومًا بالضعف، ولكننا ذكرنا أنَّ منهج النقد التاريخي منهج مختلف، وهو يقضي الحكم بصحة هذه الروايات، كما أوضحناه.

ب/ المقياس الثاني: وفرة التتبّع وسعة الاطّلاع.

والوجه في كون وفرة التتبع مقياسًا من مقاييس المنهج العلمي للنقد التاريخي، له مبرران:

المبرِّر الأول: التتبّع من آليات الوصول إلى الواقع.

وتوضيح ذلك: أنَّ بذل الجهد القليل من البحث لا يكفي للأخذ بيد الباحث أو الناقد إلى خفايا الواقع، وبالتالي فإذا كان الناقد ذا تتبع ضعيف لأحداث كربلاء، لم يكن نقده لأحداثها نقدًا علميًا؛ إذ أنه بسبب قلة تتبعه قد تغيب عنه الكثير من القضايا، فيتصور أنها مكذوبة، والحال أنها قد تكون مذكورة في المصادر الأساسية.

فمثلًا: قضية وجود السيدة ليلى أم علي الأكبر (عليه السلام) في كربلاء، من القضايا التي أنكرها البعض وبالغَ في تكذيبها، بحجة أنها لا أساس لها، وما هذا إلا بسبب قلة التتبع، وإلا فإنَّ مَن يرجع إلى كتاب (مناقب آل أبي طالب) لابن شهرآشوب (طيّب الله تربته)، وهو من العلماء المتقدمين، وكتابه المناقب من أمهات المصادر التاريخية، يجده يصرّح في كتابه بوجودها، حيث يقول: ((فطعنه مرة بن منقذ العبدي على ظهره غدرًا، فضربوه بالسيف، فقال الحسين (عليه السلام): على الدنيا بعدك العفا، وضمه إلى صدره، وأتى به إلى باب الفسطاط، فصارت أمه شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم))[9].

وهذا النص صريحٌ جدًا في حضور والدة علي الأكبر (عليهما التحية والثناء) في كربلاء، ولا ملاحظة عليه سوى أنه قد سبقَ إليه اسم والدة علي بن الحسين زين العابدين (عليه آلاف التحية والسلام) عوضًا عن اسم والدة أخيه علي بن الحسين الأكبر (عليه التحية والثناء)، ولا يضر ذلك بأصل المدّعى.

ومما ذكرناه اتضح أن وفرة التتبع إنما صارت مقياسًا من مقاييس النقد العلمي؛ لأنها أداة من أدوات الوصول للواقع.

المبرِّر الثاني: التتبّع من آليات رفع الاستبعاد.

مما يؤسف له: أن عملية النقد لأحداث كربلاء في كثير من صورها مبنية على مجرد الاستبعاد، كما سيتضح من الأمثلة اللاحقة، وهنا يأتي دور وفرة التتبع في دفع حالة الاستبعاد؛ إذ أنه يأخذ بيد الباحث إلى معرفة الكثير من الأشباه والنظائر للقضية التي استبعدها، فيتسنى له أن يستقرب ما استبعد، وينكشف له خطأ نقده، ولا بأس أن نسوق مثالين لأجل إيضاح الصورة:

أ. المثال الأول: حدث رجوع نساء الحسين (عليه السلام) لأرض كربلاء يوم العشرين من شهر صفر، فإنَّ هذا الحدث مما أنكره بعض الناقدين لمحض الاستبعاد، بدعوى أن المسافة الزمنية التي بدأت بتحرك ركب السبايا من أرض الشام منتهية بيوم العشرين من صفر؛ لضيقها لا تتسع لاستيعاب حدث رجوع السبايا إلى كربلاء.

ويمكن التعليق على هذا الطرح: بأنه محض استبعاد، ولو كان صاحبه متتبعًا للنظائر والأشباه في التاريخ، لوجد أن استبعاده في غير محله، وأنَّ الركب يمكنه الوصول إلى كربلاء خلال المدّة المذكورة، ولا بأس بسوق بعض الشواهد:

الشاهد الأول: إنَّ المختار بن عبيدة الثقفي لما حبسه ابن زياد بعد أن سيطر على الكوفة، كان له زوج أخت معروف بالوجاهة عند السلطان والدولة، وهو الراوي المعروف عبد الله بن عمر، فاستشفع له عند ابن زياد، فوافق واشترط عليه أن يأتيه بكتاب من يزيد بن معاوية، وكان عبد الله بن عمر في الكوفة، فأرسل رسولًا إلى الشام، فذهب ورجع في أحد عشر يومًا يحمل كتابًا من يزيد بإطلاق سراح المختار الثقفي[10].

الشاهد الثاني: إنَّ بسر بن أرطأة حينما وليَ البصرة مِن قبل معاوية بن أبي سفيان، أراد قتل بني زياد، فاستأجله أبو بكرة ليذهب إلى معاوية، فأجّله أسبوعًا ذاهبًا وراجعًا، فقطع المسافة بين البصرة والشام ذاهبًا وراجعًا في سبعة أيام فقط [11].

الشاهد الثالث: إنَّ أبا حنيفة سعيد بن بيان سابق الحاج، قد رأى هلال ذي الحجة وهو في القادسية، فما كان يوم التاسع من شهر ذي الحجة إلا وهو في عرفة[12].

ومن مجموع هذه الشواهد وأمثالها نصل إلى أنَّ رجوع السبايا إلى كربلاء يوم الأربعين أمر غير مستبعد؛ وذلك لأنهم دخلوا الشام في اليوم الأول من صفر، وبقي ركبهم فيها سبعة أيام، فتكون المدة المتبقية إلى يوم الأربعين ثلاثة عشر يومًا، وهي مدة كافية – بمقتضى الشواهد المتقدمة – لاستيعاب الحدث المذكور، ويتأكد ذلك بملاحظة التالي:

  • إنَّ الطريق الذي سلكه آل البيت (عليهم السلام) ذهابًا هو الطريق المسمى بالطريق السلطاني، وهو الذي يحاذي الفرات ثم ينعطف نحو حلب ومنها إلى دمشق، ويستغرق هذا الطريق قرابة أسبوعين، وأما في العودة فقد سلكوا طريقًا آخر، وهو طريق بادية الشام، وهو أخصر من طريق الذهاب، وقد عمد يزيد إلى تغيير الطريق؛ لأنه خشي انقلاب الوضع عليه بعد أن بدرت بعض البوادر، وقد حُكيَ عن السيد الأمين (رحمه الله تعالى): أن هذا الطريق كان موجودًا إلى زمانه، وهو الطريق الذي يسلكه بعض أعراب البادية من الشام إلى الكوفة في سبعة أيام[13]، وبالتالي فرجوعهم في الفترة المذكورة لا مانع يمنع منه.
  • إنَّ رجوع الركب الحسيني إلى كربلاء يوم الأربعين قد ذكره عدةٌ من الأعلام والمؤرخين في عدة من المصادر القديمة، ومنهم: أبو ريحان البيروني – المتوفى سنة 440 هـ – في كتابه (الآثار الباقية)[14]، وابن طاووس (طيّبَ الله تربته) في (اللهوف)[15]، والسيد ابن نما الحلي (رحمه الله تعالى) في (مثير الأحزان)[16].

ب. المثال الثاني: كثرة عدد القتلى الذين قتلهم أبطال أهل البيت (عليهم السلام) في كربلاء، كسيد الشهداء (عليه السلام) والعباس (عليه السلام)، حيث بلغ عددهم الآلاف على بعض الإحصائيات.

فقد استبعد بعض الباحثين ذلك، بحجة أنَّ المعركة لم تكن إلّا ساعات محدودة، وبما أنَّ كل عملية قتل بالسيف مع التحرك من قتيل إلى آخر، تحتاج لجزء من الزمان ولو كان صغيرًا، لم يمكن لتلك المدة الصغيرة أن تستوعب قتل كلِّ ذلك العدد الكبير.

ولا يخفى أنَّ منشأ هذا الاستبعاد – كسابقه – هو قلة التتبع، وإلا فإنَّ من يتتبع تاريخ الحروب، ويقرأ عن الفنون القتالية، يجد أنَّ واحدًا من فنون القتال هو ما يعبّرون عنه بـ(صيحة الحرب) أو (صرخة الغيظ)، وهي من الفنون المشهورة في ساحات القتال، وأثرها إما هو إدخال الفزع والخوف على قلوب المقاتلين، وإما إرباك الخيول التي تُقلهم، وإما إماتة بعض المحاربين الذين تفزعهم شدة الصيحة[17].

وقد اشتهر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبطال بني هاشم بهذه الصيحة، ومن هنا نقرأ في سيرته (عليه السلام) قول المؤرخ البكري: ((فصرخ فيهم الإمام صرخة الغيظ المشهورة في القتال))[18]، وقوله أيضًا: ((ثم التفت الإمام إلى غمام، وجرّد سيفه، وقد وقف من دونه الرجال، فصرخ فيهم صرخته المعروفة عنه، ففرقتهم يمينًا وشمالًا))[19]، وجاء أيضًا في سيرته المباركة (عليه السلام): ((فأخذ المسلمون السلاح فحملوا على قريش حملة رجل واحد، فحملت عليهم قريش فانهزموا من بين أيديهم، يقع بعضهم على بعض في الهزيمة، وتبعتهم قريش، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك عليًا (عليه السلام) أن يلقي قريش فيردها، فقام علي (عليه السلام) في وجوه قريش فصاح بهم فارتعدوا))[20].

وقد حُكيَ أنَّ سيد الشهداء الحمزة (عليه السلام) كان يحصد المئات من المشركين بصرخة واحدة مدوية، حيث كان يفاجئ الفرسان بصرخة مفزعة تقشعر لها الأبدان، فإذا سمعتها الخيل ضرب بعضها بعضًا، فيتساقط بعض الفرسان من على ظهورها، وتطؤهم حينئذ بحوافرها، ويتراجع بعض الفرسان منذهلين، فيصطدم كلُّ واحد منهم بالآخر، مما يتسبب في سقوطهم من على ظهور جيادهم، ووطء بعضهم لبعض.

وعلى ذلك فمن الممكن أن يتمَّ حصد العشرات بل المئات في لحظات معدودة، من خلال هذا الفن القتالي الذي يقودنا إليه تتبع التاريخ، ولا يتوقف الأمر دائمًا على إعمال السيف حتى يصح استبعاد إحصائيات قتلى يوم الطف.

ومن مجموع ما ذكرناه ظهر لنا: أنَّ من أهمِّ أسس ومقاييس منهج النقد العلمي في مجال التاريخ: وفرة التتبع وسعة الاطلاع؛ إذ أنها من ناحية تقود إلى الواقع المجهول، ومن ناحية أخرى فإنها تساهم كثيرًا في تقريب بعض الأحداث التي يتمُّ استبعادها، من خلال الاطلاع على الأشباه والنظائر.

ج/ المقياس الثالث: القدرة على تحليل الحدث.

من جملة مقاييس منهج النقد التاريخي وأهمها: القدرة على تحليل الحدث التاريخي؛ إذ أنَّ الناقد حتى لو كان متوفرًا على المنهج العلمي لنقد التاريخ، وكان ذا تتبع كثير لأحداث التاريخ وجزئياته، قد ينتقد بعض الأحداث بلا مبرر إن لم يكن قادرًا على تحليل الحدث.

ولأجل إيضاح هذه الفكرة نحتاج أن نسوق بعض الأمثلة:

أ. المثال الأول: ورد في زيارة الناحية المقدسة: ((برزن من الخدور، ناشرات الشعور))[21]، وقد رفضَ عدة من الناقدين هذا النص، بحجة منافاته لجلال العلويات، وما عُلِمَ من سموِّ حجابهنَّ وشدةِ عفافهنَّ، فلا يتصوّر فيهن أنهن برزن ناشرات للشعور أمام الأعداء.

والذي نلاحظه على هذا النقد: أنه لا يرتقي إلى مستوى تحليل الحدث؛ وذلك لإمكان تحليله بأحد تحليلين، وعلى ضوء كلٍ منهما يمكن توجيهه بما لا يتنافى مع جلال العلويات.

التحليل الأول: النشر في قبال الضفر؛ إذ لشعر المرأة حالتان، إحداهما الضَفْر – وهو عقد الشعر وطيه – والأخرى النشر، فهي إما أن تجعل شعرها معقودًا على هيئة ضفيرة، وإما أن تجعل شعرها منشورًا.

وبما أنَّ من عادة النساء في بعض المجتمعات العربية – حتى يوم الناس هذا – نشر الشعر عند المصيبة، فمن المحتمل جدًا أن يكون النص المذكور بصدد بيان شدة تفاعل نساء الحسين (عليه السلام) مع مصيبته، وأنهنَّ بعد أن كانت شعورهن معقودة قد عمدن إلى نشرها حين عرفن بمقتل سيد الشهداء (عليه السلام)، ومن الواضح أنَّ هذا العمل يمكن أن يتحقق ولو كان الحجاب فوق رؤوسهن، وعليه: فلا يكون هنالك أدنى تنافٍ بين مؤدى النص وجلال العلويات الطاهرات.

التحليل الثاني: النشر في مقابل السَتْر، أي: أنه بمعنى إظهار الشعر وإبرازه، وليس بمعنى حلّه بعد عقده، كما هو المعنى المتقدم، إلا أنَّ ذلك لم يكن بمرأى الأعداء، والوجه في ذلك: أن الإمام الحسين (عليه السلام) لما أمرَ بنصب الخيام، خططَ لأن تكون خيمته وخيمة نسائه في وسط خيام أنصاره وأهل بيته، كما يشهد بذلك قول ابن أعثم الكوفي: ((فنزل القوم وحطوا الأثقال ناحية من الفرات، وضربت خيمة الحسين لأهله وبنيه، وضرب عشيرته خيامهم من حول خيمته))[22]، وإذا كانت خيمة النساء محاطة بالخيام الأخرى، فهذا يعني أنَّ خروجهنَّ ناشرات الشعور من خيمتهن لا يستلزم رؤية الأعداء لهنَّ؛ لحيلولة الخيام الأخرى بينها وبين الأعداء، ولا يوجد في النص ما يشير إلى خروجهنَّ على ذلك الحال حتى وصولهنَّ إلى مصرع سيد الشهداء الحسين (عليه السلام).

ب. المثال الثاني: طلب الإمام الحسين (عليه السلام) للماء من أعدائه، حيث ورد عنه (عليه السلام) قوله: ((اسقوني شربة من الماء، فقد نشفت كبدي من الظمأ))[23]، فقد رفضَ ذلك بعض الناقدين بحجة أنه مظهر من مظاهر الذُّل والاستكانة، وهو يتنافى مع ما جسّده الإمام الحسين (عليه السلام) من معاني العزة والكرامة والكبرياء.

والذي يُلاحظ على هذا النقد: سطحيته وعدم قدرته على تحليل واقع الحدث؛ إذ من الواضح أن طلبه (عليه السلام) للماء ليس لأجل تحقيق حاجته الذاتية؛ لأنه يعلم بانتهاء حياته عطشًا، وهذا يقضي بأنَّ طلبه للماء إنما كان لوجهٍ آخر، وليس هو إلا إقامة الحجة على القوم، حتى لا يبقى عذرٌ لمعتذر بأنه لم يكن يعلم بحال الإمام الحسين (عليه السلام)، كما ويحتمل أن يكون ذلك من أجل إيصال الصورة المأساوية – بكلِّ ما تنطوي عليه من معاني المظلومية – لكلِّ الأجيال اللاحقة؛ فإنَّ هذا كان واحدًا من أهداف الإمام الحسين (عليه السلام) التي سعى لتحقيقها يوم كربلاء، كما سيتضح لاحقًا إن شاء الله تعالى.

ج. المثال الثالث: محاولة القوم لخديعة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد ورد أنه (عليه السلام) حين وصل للماء، وغرف منه ليشرب، ناداه أحدهم: يا أبا عبد الله تتلذذ بشرب الماء وقد هتكت حرمك؟! فنفض الماء من يده، وحمل على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة[24].

وقد رفضَ بعض الناقدين هذا الحدث، بحجة تنافيه مع المعتقد الشيعي في علم الإمام (عليه السلام)؛ فإنه قائم على كونه عالمًا بالخفيات، وهذا ما يمنع من انطلاء خديعة القوم عليه.

ولا يخفى أنَّ هذا النقد كسابقيه في قشريته ونأيهِ عن التأمل والتحليل؛ وذلك لأن المتتبع لأحداث كربلاء يجد أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) منذ أول خطوة تحرّكها قد أولى الجانب الإعلامي لمأساته عناية فائقة جدًا، فرّكزَ في خطاباته على هذا الجانب، حيث قال: ((إنّ الله قد شاء أن يراهن سبايا))[25]، وأصرَّ على أخذ النسوة معه، رغم علمه بكلِّ ما سيجري عليهنَّ، وما ذلك – في أحد وجوهه – إلا لأنَّ الحسين (عليه السلام) كان يخطط لاستمرار المسيرة الإعلامية التي بدأها مِن خلالهنَّ.

ومن أجل أن يكون الجانب الإعلامي لنهضته المباركة حيًّا ومؤثرًا كان (عليه السلام) يركّز على صنع الأحداث المأساوية، فلم تكن الأحداث تصدر منه بصورة عفوية، بل كان يخطط لكل خطوة يخطوها، فمثلًا: حين جاءت له السيدة زينب (عليها السلام) تحمل رضيعه ليطلب له الماء، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم بأنه سيموت على كلِّ حال، أي: سواء أخذه للمعركة أم تركه في المخيم، فرأى الإمام الحسين (عليه السلام) أن يجعل لقتل الرضيع (عليه السلام) قيمة، ويستفيد من حدث موته؛ ولذلك أقبل به يحمله على يديه ليقتل ويكون ذلك مؤثرًا في تحريك الجانب الإعلامي.

وعلى نفس هذا النسق جاءَ موقفه (عليه السلام) حين قيل له: أتتلذذ بشرب الماء، وقد هتكت حرمك؟! فإنه إنما رمى الماء؛ لأنه يعلم بأنه مقتول على كل حال، أي: سواء شرب الماء أم لم يشرب، فأراد أن يجعل من هذا الحدث منطلقًا للإثارة الإعلامية، ليبيّن للناس لؤم وصلافة أجلاف بني أمية، وكيف أنَّ بشاعة إجرامهم قد بلغت إلى حدِّ منعهِ من شرب الماء ولو عن طريق الخديعة والمكر، فأقدم على ذلك من أجل تحريك الجانب الإعلامي وإشعال فتيله.

وبالجملة: فإنَّ وجود هذه الأحداث المأساوية في واقعة الطف لم يكن اتفاقيًا، وإنما كان الإمام الحسين (عليه السلام) يختار تلك الأحداث بصورة دقيقة؛ ليرسم منها صورة متكاملة بديعة خلّاقة، وبفضل ذلك بقيت واقعة كربلاء متوهجة ومؤثرة وملفتة للأنظار، وهذا ما يغفل عنه الكثيرون ممّن تصدوا لدراسة أحداث الطف ونقدها.


الهوامش:

[1] بحار الأنوار: 28/ 57.

[2] سورة طه، الآية: 17.

[3] تاريخ الأمم والملوك: ج4/ 313.

[4] مثير الأحزان: 37.

[5] المنتخب في جمع المراثي والخطب المعروف ب (الفخري)، ج2، المجلس السابع، الباب الأول، ص373.

[6] إكسير العبادات في أسرار الشهادات: ج 2، ص387.

[7] تذكرة الشهداء، الصفحة: 229.

[8] صحيح مسلم، ج7، ص141.

[9] مناقب آل أبي طالب، ج3، ص257.

[10] مع الركب الحسيني في الشام، ج6، ص311.

[11] تاريخ الأمم والملوك المعروف بتاريخ الطبري، ج 4، ص127.

[12] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص292، ح2493.

[13] مع الركب الحسيني في الشام، ج6، ص310.

[14] الآثار الباقية عن القرون الخالية، ص331.

[15] اللهوف على قتلى الطفوف، ص114.

[16] مثير الأحزان، ص86.

[17] مما يجدر ذكره: أنَّ الموت بسبب الصيحة مما يتعرض له الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم) عادة في كتاب (الديات)، ويفصّلون الكلام حوله من حيث استلزامه للقَوَد والدية وعدمه، فلاحظ على سبيل المثال ما ذكره المحقق الخوئي (طيّب الله تربته الزكية) في: تكملة منهاج الصالحين في أحكام القضاء والشهادات والحدود والقصاص والديات، السيد أبو القاسم الخوئي، ص99، مسألة: 232.

[18] سيرة الإمام علي (عليه السلام)، ص37.

[19] المصدر نفسه. ص101.

[20] الاستغاثة في بدع الثلاثة، ج2، ص70.

[21] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج98، ص322، باب كيفية زيارته (عليه السلام) يوم عاشوراء.

[22] كتاب الفتوح، ج5، ط1، ص84.

[23] موسوعة كلمات الإمام الحسين (عليه السلام)، ط3، ص596.

[24] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج45، ص51، باب سائر ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد بن معاوية إلى شهادته صلوات الله عليه.

[25] اللهوف على قتلى الطفوف، ص40.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1431

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *