تساؤلات حول الفكر الحشوي

س: بالنسبة لمحاضرة الليلة السابعة والتي كان عنوانها (الاتجاه الحشوي وخطره على التشيع) فقد وجدت أن أغلب المتابعين لما يطرح على الساحة الفكرية ربطها بشكل مباشر بما يدعو إليه الشيخ عبدالحليم الغزي، وكوني من المتتبعين لبرامج هذا الرجل وجدت أن في ما طرحتموه عن سمات الاتجاه الحشوي اختلافاً كبيراً عن منهجه. وحسب ما بينتم في جوابكم على رسالتي البارحة أفهم أن بين المنهجين عموماً وخصوصاً من وجه حسب نظركم، وكذلك هو نظري القاصر.

على ذلك، اسمح لي سماحة السيد بإثارة بعض التساؤلات المتعلقة بنقاط الالتقاء بين المنهجين، لا من باب الدفاع عن الاتجاه الحشوي الذي لا أعرف عنه الكثير، وإنما طرحاً لوجهة نظر ثالثة يتبناها الغزي وأتباعه من شأنها أن تشكّل نسخة معدّلة عن المنهج الحشوي. وأرجو أن يتسع صدركم ويسمح وقتكم بالرد عليها.

النقطة الأولى: أشكلتم على الحشوية قبول جميع الروايات بغض النظر عن سندها ورفض علم الرجال، وما يترتب على ذلك من اضطراب في البنية المعرفية.

لكن السند (بغض النظر عن إشكالية مدخليته في قبول الرواية من الأساس) فهو قطعاً ليس الطريق الوحيد للحكم بصدور الروايات من عدمه. فالغزي مثلاً يتبنى ما يسميه منهج “لحن القول” والذي يقوم على تقييم البنية اللفظية والمعنوية للنص بعيداً عن سنده. وبعض علمائنا كما لا يخفى عنكم يتبنون ما يقارب ذلك في قبول الروايات ذات “المضامين الأعلائية” وما أشبه. إضافة إلى أنهم (الحشويون والغزي) حتى لو قبلوا جميع الروايات فإن ذلك لا يسلتلزم النتائج التي ذكرتموها بالضرورة. فالحكم بصدور جميع الرويات لا ينافي أن تكون عرضة للدراسة في مقام الحجية والاعتبار. فالجميع يسلم بأن التعارض موجود بين الروايات، على اختلاف في أصل نشوئه وطرق دفعه. فالغزي يحيل التعارض غالباً إلى المعصوم نفسه لغايات لا تخفى عنكم منها التقية ومنها مراعاة مقام الحال والسائل وغير ذلك. أما درء التعارض فيدفعه بقوانين الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه في الرواية، وهذه القوانين وإن اختلفت مع قواعد علم الأصول إلا أنها تعمل بشكل متداخل معها وكثيراً ما تتطابق في النتائج.

النقطة الثانية: قلتم إن الاتجاه الحشوي يفتح المجال للاتجاهات الفاسدة والمنحرفة، واستشهدتم بدجال البصرة وتوظيف رواية المهديين الاثني عشر.

أعتذر منكم سيدنا لاستخدام هذا الأسلوب ولكني أطرح الإشكال التالي – مع ما أكنه من تبجيل شديد لجهود علمائنا واحترام كبير لمقامكم – طلباً للاستزادة المعرفية ولكونه مطروحاً بالفعل من قبل الغزي وآخرين.

الجواب النقضي على ذلك: فإن المنهج الحوزوي الأصولي فتح الباب لانحرافات لا تقل سوءاً. ولعل من أبرز العينات أحمد الكاتب الذي أنكر ولادة صاحب الأمر عليه الصلاة والسلام ورفض نظرية الإمامة اعتماداً على تضعيف روايات ولادة الإمام. كما خرج علينا حسين المؤيد الناصبي الذي يعبر عنه بعض الفضلاء بأنه “متيقن الاجتهاد”، وهو يقوم بتوظيف القواعد الحوزوية في محاربة إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام وعقائد الإمامية. كما أن هناك العشرات من الذين وقعوا في زلات فادحة وإن بقوا في الخط الإمامي العام كالسيد فضل الله والسيد الحيدري والسيد أحمد القبانجي.

أما الجواب الحلي: فإن الرواية المذكورة واضحة الشذوذ من ناحية البنية اللفظية والمضمون. وحتى لو حكمنا بصدورها فإنها تدخل في حيز المتشابهات التي لا بد من ردها للمحكمات المتوافرة المتضافرة الحاكمة بالتوقف على الأئمة الاثني عشر عليهم الصلاة والسلام. وأنا لا اطلاع لي على رأي الحشويين، ولكن الغزي له كلام في نبذ حركة دجال البصرة وأمثاله، وذلك يدل على أن تطبيق قواعد منهجه لا توصلنا إلى تلك الدرجة من السوء. وهذا الجواب ينسحب أيضاً على حديث سماحتكم عن موضوع الشذوذ الفكري، فإن تحكيم أمثال هذه القواعد يجعل الشذوذ العقدي والفقهي محدوداً ولا يتعدى الدائرة المتعارفة لاختلاف العلماء في الغالب.

النقطة الثالثة: ذكرتم أن العلماء وعلى رأسهم سيدنا الخوئي رضوان الله عليه ما فرطوا في أحاديث أهل البيت، بدلالة جهودهم في جمعها ونشرها.

يرد على ذلك أولاً: أنكم ما ذكرتم بعض الجوانب المظلمة من محاولات طمس بعض حديث أهل البيت كما حصل ولا زال يحصل في الجمهورية لأجزاء المطاعن من بحار الأنوار.

ثانياً: أن عناية العلماء بنصوص الروايات لا ينافي إبعاد مضامينها عن الساحة المعرفية. على سبيل المثال: ألم تتغير فتاوى سيدنا الخوئي بعد تغير رأيه حول توثيق رواة كامل الزيارات؟ فالسيد وإن حافظ على الحديث لفظاً ولكنه أسقط ثماره المعرفية. ولعل السيد فضل الله من أوضح الأمثلة على ذلك من الناحية العقائدية، فجل تشكيكاته في مقامات وظلامات أهل البيت منشؤها الابتعاد عن الروايات الشريفة وتحطيم قيمتها المعرفية. وفضل الله وإن كان حالة متطرفة إلا أنه ليس ظاهرة شاذة، وحواضن فكره موجودة في صميم المنهج الحوزوي.

النقطة الرابعة: قلتم إن التوقيع الذي ورد فيه إباحة الخمس ظني الصدور لا يدفع اليقين المتحصل من أدلة وجوب الخمس.

المعذرة منكم مرة أخرى للتطفل في غير اختصاصي. أنا مقلد للفقهاء بطبيعة الحال وأدرك تماماً أن هذه الشبهة وأمثالها لا تسقط التكاليف الشرعية.

أنا أقل من أن أناقشكم في حجية خبر الواحد، وسماحتكم من أهل الخبرة بمباني العلماء، وبحسب اطلاعي المحدود فإن بعضها قد يقودنا إلى حجية هذا التوقيع واعتبار صدوره. وبالنسبة لما ذكرتم من استصحاب وجوب الخمس، فإن الجمع بين روايات الإباحة العديدة التي قبلها أغلب من اطلعت على آرائهم من العلماء وناقشوا مداليلها يزعزع هذا الاستصحاب. لنفترض أن بعض العلماء قطع بأن الخمس أبيح في فترة من فترات الحضور بمقتضى بعض تلك الروايات، أفلا ينبغي أن يكون دليل استئناف الإيجاب هنا قطعياً؟ لا أقول إن ذلك يجعل الأصالة للإباحة، ولكن كثرة روايات الإباحة وكثرة روايات الإيجاب تؤكد ظاهرة تبدل الحكم، مما يجعل الحكم مشكوكاً في أي مقطع زماني لم نقطع بأن رواية إباحة أو إيجاب تسري فيه تعيينا. وعلى مسلك قبح العقاب بلا بيان فلماذا لا يمكن أن يحكم بأصالة البراءة، خصوصاً مع وجود دليل معتبر (التوقيع الشريف) على الإباحة في زمن الغيبة؟ مع ملاحظة أن هذا التوقيع بالذات محل قبول عند كثير من العلماء ويشيع استعمال بعض فقراته كفقرة “الحوادث الواقعة” بينهم، ورأيت البعض منهم يركز نقاشه على مدلول التوقيع ولا يناقش في ثبوته.

نقطة خامسة أخيرة من محاضرة الليلة الثانية عشرة، أوردها لصلتها بالكلام: استشهدتم على كون البترية من غير الشيعة الإمامية بكلام الكشي عليه الرحمة الذي ذكر عقائدهم الزيدية وكذلك فتاوى علمائنا التي تخرجهم من الشيعة في مسألة الوقف.

قد يقال: إن مصطلح البترية وإن كان أول ما استعمل بحسب الروايات في جماعة من الزيدية من قبل زيد نفسه رضوان الله عليه، فإن زيداً إنما أطلقه عليهم لأنهم خلطوا ولاية أهل البيت صلوات الله عليهم بولاية أعدائهم عليهم اللعنة، لا لأنهم قالوا بإمامة كل من خرج بالسيف من آل محمد صلى الله عليه وآله. فعلى هذا يكون مناط التسمية متحققاً في بعض الإمامية الذين ضيّعوا عقيدة البراءة، وهم كما لا يخفى عنكم متواجدون بين طلبة النجف الأشرف وغيرها.

ونقل تسمية جماعات من طوائف أهل الخلاف إلى جماعات من الإمامية شائع كثيراً، كما في رواية جنازة عبدالله بن أبي يعفور التي ورد فيها لفظ “مرجئة الشيعة”. وقد ذكرتم سماحتكم شبه ذلك في سياق تعريف الحشوية في الليلة السابعة.

هذا تمام التعليقات، بعضها نقلتها من الغزي مباشرة وبعضها نشأ من حصيلة فهمي لمنهجه الفكري واطلاعي المحدود في هذه المواضيع. شخصياً لا أتبنى أغلب هذه الآراء ولا أرتب عليها نتائج عملية، ولكن فيها ما هو موضع اهتمامي وبحثي.

أشكركم على سعة صدركم.. ودمتم في حفظ المولى صاحب الزمان صلى الله عليه وعلى آبائه.

الجواب

ج: ابتداءً بما أن ما تفضلتم به يتضمن نقاطاً أساسية وأخرى فرعية، فسوف أركز على الأولى دون الثانية إلا ما ألمس ضرورة المرور به.

النقطة الأولى: لم أقل بأن السند هو الطريق الوحيد للحكم بالصدور، كيف وقد أشرت في النقطة الثالثة من الموضوع إلى مسلك الوثوق، وصرحت بأن أصحابه يكتفون بالوثوق بالخبر، ولا يشترطون وثاقة الراوي.

وأما منهج (لحن القول) – بالتفسير الذي يطرحه الشخص المذكور – فهو منهج ظني وغير منضبط بضابطة، ولا يعدو كونه تخرصاً بالغيب، ولا يصح قياسه على ما عليه العمل عند علمائنا من التمسك بعلو المضامين، فإنه مقصور على بعض النصوص الشريفة التي يمكن تحصيل القطع أو الاطمئنان بصدورها، كزيارة الجامعة ونهج البلاغة في الجملة، وليس منهجاً سيّالاً.

وأما عدم التلازم بين القول بصدور الجميع والحجية، فهو من الواضحات التي لا شك فيها، إلا أن كلامي في النقطة الأولى كان مجرد عرض لسمات المنهج الحشوي، فقلت بأنه القبول بكل رواية، ثم أوضحت في النقطة الثانية ما قد يترتب على ذلك من الشذوذ الفكري ونحوه، بمعنى أن المنهج المذكور يهيئ الأرضية لمثل ذلك، سيما فيما إذا لم يكن للنص معارض، كما هو ظاهر.

النقطة الثانية: كل من أشرتم إليهم في إشكالكم النقضي لديهم خلل واضح في تطبيق المنهج الأصولي، فهم قد عولوا على الدراسة السندية، وأغفلوا آلية التواتر الإجمالي وآلية الاطمئنان وآلية التسالم ونحوها، وخلط بعضهم بين الفقهيات والتاريخيات، وهكذا، مما يعني أن الخلل ليس في المنهج، وإنما في فهمه أو تطبيقه قصوراً أو تقصيراً.

وأما ما ذكرتموه في جوابكم الحلي فهو توجيه للرواية، ولسنا في مقام النزاع في إمكان توجيهها وعدمه، بل في مقام بيان مساوئ الاتجاه الحشوي وما يترتب عليه، ولذلك تبناه نفس الگواطع، لكي يبرروا تمسكهم بالرواية المذكورة ونحوها من الروايات الشاذة.

النقطة الثالثة: أنا أدافع عن موقف أعلام الطائفة، ولا يصح النقض عليّ بغيرهم، ولذلك سأتجاوز إيرادكم الأول والثاني، وأما ما أشرتم إليه من تغير فتاوى سيدنا الخوئي طاب ثراه بعد تغير نظره في كتاب كامل الزيارات فهو لم يشمل إلا فتواه بإجزاء الغسل المستحب لزيارة الحسين عليه السلام، فأين هي الثمرة المعرفية التي أسقطها؟ ثم لا يخلو كلامكم عن المغالطة، فأنتم تقولون بأنه أسقط الثمرة المعرفية للمضامين، والحال أن كونها كذلك – مع عدم ثبوت حجيتها – أول الكلام.

النقطة الرابعة: كما تفضلتم، فإن بعض الأعلام قد قالوا بحجية الحديث المذكور، وقد عرضت ذلك في مجلسي الأول بالقديح في نفس الليلة، وقلت إن من قال بحجيته فقد عالجه دلالياً.

ولم أكن بصدد الاعتراض على ذلك، وإنما بصدد توهين ما يقوم به الحشوية من إلزام الناس به، بزعم أنه قول المعصوم عليه السلام، وتصوير مخالفة الفقهاء عملاً وفتوى له، والحال أنه عند مَن يقصدونهم من الفقهاء خبر ظني، والأصل فيه عدم الحجية.

وبعبارة أخرى: لقد كان مقصودي هو بيان التلاعب الفكري الذي يقوم به الحشوية، حيث يصورون للناس مخالفة الفقهاء للنصوص، والحال أنها بالنسبة لهم ظنون لم تثبت حجيتها.

وبذلك يظهر أنني لا أحتاج للتعليق على بقية ما فرعتموه على هذه النقطة.

النقطة الخامسة: وأما بالنسبة إلى البترية فإننا نحتاج أن نتجاوز عواطفنا قليلاً ها هنا، ونتعامل مع الموضوع بمنطق علمي جاد.

فنقول: إن الرواية التي ورد فيها لفظ البترية واردة عن الإمام الباقر عليه السلام، وهو معاصر لأخيه زيد رضوان الله عليه، فمن البعيد جداً أن يكون للفظ المذكور اصطلاح آخر غير المنقول عن زيد الشهيد، بل الذي يساعد عليه الاعتبار هو وحدة الاصطلاح، نظراً لمعاصرتهما معاً للبترية المنحرفة.

وعليه فلا يسعنا إلا الالتزام بأن البترية هم من قالوا بولاية غير أمير المؤمنين عليه السلام، وخلطوا ولايته عليه السلام بولايتهم، مضافاً إلى القول بإمامة كل علوي خارج بالسيف.

وبذلك يظهر أن عنوان البترية لا ينطبق على من التزم بإمامة الاثني عشر عليهم السلام دون سواهم.

ودعوى تنقيح المناط لا تخلو عن غرابة ومجازفة، فإن الدخيل في تحقق عنوان البترية – بحسب ما ظهر – عبارة عن ثلاثة عناصر:

  • القول بالإمامة العلوية.
  • القول بإمامة غاصبيه، ولازم ذلك عدم البراءة منهم.
  • القول بإمامة كل علوي يخرج بالسيف.

وإذا كان الأمر كذلك، فإلغاء جميع هذا العناصر الثلاثة، واعتبار المناط هو لازم العنصر الثاني فقط، يحتاج لمراكمة القرائن والشواهد، وإلا فهو رجم بالغيب والعياذ بالله وافتراء على المعصوم عليه السلام.

ولا يصح قياس ما ذكر بمثل مصطلح الحشوية ونحوه؛ إذ أن لفظ البترية وارد في كلام المعصوم عليه السلام، ولا يجوز التصرف فيه توسعة وتضييقاً إلا بدليل، وإلا كان كذباً عليه وافتراءً.

وختاماً: أسأل الله لي ولكم تمام التوفيق والسداد، وأشكركم على هذه المذاكرة، ودمتم موفقين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *