هل الإيمان بالغيب له آثار سلبية؟

س: سيدنا هناك بعض الباحثين والمفكّرين من الحداثيين والعلمانيين يثيرون شبهةً حول الإيمان بالغيب مفادها أن الإيمان بالغيب يستلزم التخلف! ولذلك نجد أنّ الشعوب العربية والإسلامية متخلفة جدًا بالنسبة إلى الشعوب الأوروبية ؛ لأن عقلية الأولى غيبية قدرية مستسلمة بينما عقلية الأخرى سببية منفتحة خلّاقة!! ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما يتم فيما لو اعتقدنا بالجبر كما هو مذهب الأشاعرة، أما إذا اعتقدنا بالأمر بين الأمرين فإن المحذور المذكور لا يرد علينا ولكن هناك آية قرآنية تقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ثم يقول تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فكأنّما علّل وجود القضاء والقدر بمنع الإنسان من الأسى على ما فات والفرح بما هو آت، وهذا ما تحدثتم عنه في إحدى محاضراتكم بتاريخ (3/1/1427) بعنوان: ثقافة التسليم بالقضاء والقدر.

سيّدنا الكريم ألا ينسجم مضمون هذه الآية المباركة والمضامين التي ذكرتموها في المحاضرة المذكورة مع عقيدة الجبر ، وبالتالي يكون كلام الناقدين الاجتماعيين حول سبب تخلف المسلمين شاملاً لنا نحن الشيعة أيضًا؟!

كيف نستطيع أن نتصور وجود أسباب غيبية من قبيل: “الدعاء” و”الصدقة” و”الاستخارة” و”البركة” و”الحسد” وغيرها من العناوين التي تجعل الإنسان يعتقد بأنّ مصيره مرهونٌ بقوىً ماورائيّة لا يستطيع مجابهتها ، وبين ما نراه بالوجدان من تقدم غربي رغم كون الغربيين كفارًا؟!

كثيرًا ما يعزي بعضُ الناس – خصوصًا النساء – سبب الإخفاقات الحياتية إلى التقادير الإلهية أو إلى الحسد ونحو ذلك، أو يقولون بأن النجاح لا يتحقق إلا بالدعاء والتوسل ونحو ذلك، في حين يرى العقل الغربي أن النجاح له أسبابه المادية التي متى ما تحققت تحقق ولا صلة له بالأسباب الغيبية، ونحن نرى بالوجدان أن للغرب نجاحاتٍ ماديةً باهرةً رغم كفرهم، فهل للأسباب الغيبية مدخليّةٌ فعلاً في النجاح والفشل والتقدم والتخلف أم لا؟! وهل النصر حقٌ إلهيٌ للمؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} أم هو حقٌ طبيعيٌ له أسبابه الموضوعية التي متى تحققت – سواءً من قِبَلِ المسلمين أو الكافرين – تحقق كما يُنْسَبُ للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره)؟

 

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، وبمدد أوليائه أستعين

بما أنَّ السؤال قد اشتمل على مجموعة من الإثارات المبعثرة ؛ لذلك سوف أسعى للملمتها ، بالإجابة عنها من خلال عرض مجموعة من النقاط :

النقطة الأولى : إنَّ عنوان ( التخلف ) المذكور في السؤال يقابله عنوان ( التقدم ) ، ووصفُ المجتمعات الإسلامية بالعنوان الأول في قبال المجتمعات الأوروبية ، يعني وصف الأخيرة بالعنوان الثاني ، ومن الواضح أنَّ استخدام هذا العنوان على إطلاقه مغالطة فاضحة ؛ لوضوح أنَّ التقدم والتخلف تارة يتعلقان بالأمور المادية المحضة وأخرى بالأمور المعنوية ، وهذا يقتضي أن يكون إطلاق اللفظ من موجبات التمويه والتلبيس ؛ إذ حتى لو سلمنا بتقدم المجتمعات الأوروبية فيما يرتبط بالشؤون المادية فإننا لا نسلم بتقدمها فيما يرتبط بالشؤون الدينية والأخلاقية ، ولا برهان أقوى من الوجدان ، وهل من العدل والإنصاف والموضوعية أن نصف مجتمعاً بوصف التقدم على إطلاقه ، وهو يعيش درجات من التخلف فيما يرتبط بحياته الروحية ،  وعلاقاته الاجتماعية ، وصفاته الأخلاقية ؟!!

 

النقطة الثانية : إنَّ السؤال قد افترض أنَّ السبب في تقدم المجتمعات الأوروبية وتقهقر المجتمعات المسلمة هو إيمان الأخيرة بعالم الغيب ، حيث جعل منها ذات أفق منغلق ، بينما عدم التسليم بالغيب جعل من الأولى عقلية منفتحة خلاقة ، وهذا الافتراض – بعقيدتي – من مصاديق دس السم في العسل ؛ إذ هب أنَّ المجتمعات الإسلامية قد تقهقرت ، والمجتمعات الأوروبية قد تقدمت في المجالات المادية ، إلا أنَّ ذلك لا يرجع إلى مسألة الإيمان بالغيب والكفر به ، وإنما يرجع إلى قوة النهوض العلمي وضعفه ؛ إذ الذي نعتقده أنَّ عصب الحضارات المادية – على مدى الزمان والمكان – هو العلم ، فكلُّ مجتمع اهتمَّ به تقدم ، وكل مجتمع استخف به تراجع وتقهقر وتخلف ، وهذا هو سر شموخ الحضارة المادية الغربية ، وتراجع الحضارة الإسلامية الكبرى ، فإنَّ الأولى لم يكن لها وجود قبل ما يُعرف عندهم بـ ( عصر النهضة ) ، والذي تمخضت عنه ثورة علمية عملاقة لم تزل تتكامل حتى اليوم ، بينما الثانية – كما يشهد التاريخ – كانت ذات حضارة جبارة فائقة ، ولكنها انتكست بسبب ضعف الاهتمام العلمي .

وليس يعود هذا الضعف إلى مسألة الإيمان بالغيب ؛ إذ من الواضح أن الأجيال الأولى من المسلمين ، والذين بنيت الحضارة الإسلامية على أيديهم ، لم يكونوا أقلّ من الأجيال اللاحقة في إيمانهم بالغيب ، إن لم يكونوا أقوى منهم إيماناً وأرسخ يقيناً ، وإنما يعود الضعف المذكور إلى اهتمام حكام المسلمين وملوكهم بمناصبهم وعروشهم ، مما جعلهم يهدرون كل الطاقات البشرية والمالية في حروب طاحنة مستعرة ، في سبيل حفظ كراسيهم ومناصبهم ، وبذلك قلَّ الاهتمام العلمي ، فتراجعت الحضارة الإسلامية إلى الحضيض .

وكل ذلك يرجع في سببه الأساس إلى غصب الخلافة من أصحابها الإلهيين ( عليهم آلاف التحية والثناء ) ، وإلا لو أنَّ الأمة قد اتفقت كلمتها عليهم ، ولم تخالف فيهم أمرَ الله ( تعالى شأنه ) ، لم يصل بها الحال إلى التخاصم والتناحر على الكراسي والمناصب ، فتفكر – عزيزي – فيما أنتجه غصب الخلافة من أصحابها من ويلاتٍ ومآسٍ على جميع الأصعدة وفي مختلف الشؤون ، حينها ستدرك معنى ما نطقَ به روحُ القدرس على لسان دعبل الخزاعي ، حين قال :

ولو قلدوا المُوصى إليهِ أمورَهم  . . . . لَـزُمَّتْ  بمأمـونٍ من العثـرَاتِ

النقطة الثالثة : إنَّ الإشكالية التي يطرحها هؤلاء – على ضوء أساس مغلوط ، كما تبيّن – لا تقف عند القول بالجبر فقط ، بل هي مرتبطة بالإيمان بالغيب بشكل مطلق ، سواء كان المؤمن به جبرياً أم لا ؛ إذ أنَّ الفكرة التي تؤسس لها هذه الإشكالية تقرر أنَّ تعويل المسلم على الماورئيات ، واعتقاده أنَّ لها ثمة نحو من الارتباط بحياته ، يجعله يبرمج حياته على ضوء إيمانه الغيبي ، وإن لم يكن معتقداً بكونه مطوعاً له بشكل قهري – كما يعتقد المجبرة – ونفس هذه البرمجة تجعله يعيش الحياة متخلفاً عن ركب الواقع ؛ لأنَّ الغيب لا واقعية له بنظر هؤلاء اللادينيين ، مما يتسبب في التقهقهر والتخلف ، بخلاف مَن يضرب بالغيب وراء ظهره ، وينظر للحياة بمنظار واقعي ، فإنَّ أمره بشكلٍ طبيعي يؤول إلى التقدم والتطور .

النقطة الرابعة : وأما بالنسبة لقوله ( تباركَ وتعالى ) : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } وما يدل عليه من تعليل عدم الأسى والفرح على الفائت والآتي بسبق الإبراء الإلهي ، فهو لا يدل على ما يعتقده المجبرة إلا لمن فكك بين هذه الآية والأدلة الأخرى ، وإلا فإنَّ من ينظر إلى مجموع الأدلة يذعن ويدرك أنَّ الآية ناظرة إلى خصوص التكوينيات التي لا اختيار للمكلف في قبالها ، لا إلى مطلق الأمور التكوينية والحوادث الخارجية ، والمقدرة في علم الله الأزلي على ضوء اختيار الإنسان ، فإنَّ التفويت الاختياري لهذه المقدرات التكوينية من موجبات الأسى بلا شك ولا شبهة .

وحتى تتضح لك الفكرة بشكلٍ أكبر ، لك أن تتصور حالتين :

الحالة الأولى : أن يبذل الإنسان كل جهده ، ويستنزف كل طاقته ، في سبيل تحصيل الرزق من مظانه المشروعة ، ولكنه – ولأسباب خارجة عن إرادته ، كالتلف السماوي مثلاً – يخسر كل أمواله وثروته ، ويبقى يعيش أزمة مادية حادة .

الحالة الثانية : أن يقبع الإنسان في زوايا بيته ، ولا يكون له أدنى اهتمام بتحصيل الرزق وتحسين حالته المادية من خلال الطرق الطبيعية ، فيعيش حالة اقتصادية متردية .

وإذا تصورت هاتين الحالتين يتجلى لك بشكل واضح : أنَّ الآية المباركة ناظرة إلى الحالة الأولى ، وليست ناظرة لمثل الحالة الثانية ، فتدبر جيداً وفقك الله تعالى .

النقطة الخامسة : إنَّ النجاحَ والتفوق في الحياة فيما يرتبط بأبعادها المادية ، كالنجاح في الدراسة أو الوظيفة أو المشاريع التجارية ، وإن كان لا يتوقف على القوى الماورائية ، ولكنها بدون أدنى شك عوامل مساعدة ، وليس يخفى على كل شخصٍ طرقَ أبواب التوسل والدعاء مدى مدخليتهما في تحقيق الإنسان لأهدافه ووصوله إليها بنحوٍ غير متوقع .

كما أنَّ الإخفاقات الحياتية هي الأخرى كذلك ، ففي بعض الأحيان وإن كانت مسببةً عن بعض الأسباب المادية ، ولكنها في أحايين أخرى وليدة أسباب خفية كالحسد ونحوه ، وقد عايشنا – كما عايش غيرنا – الكثير من القضايا التي عجزَ الطب بكل فنونه عن علاجها ، وبقي حائراً إزاءها ؛ لكونها مُسبَبةً عن أسباب خفية لا تدخل ضمن سيطرة العلوم الطبية ، وهذا ما يؤكد قصور النظرة المادية عن تفسير جميع الظواهر الخارجية من خلال إدراك أسبابها الواقعية .

 إلا أنَّ المشكلة كلَّ المشكلة ترجع إلى ما ذكرناه في النقطة الثانية ، ولو تسنى للمسلمين – شعوباً وحكومات – أن ينهضوا نهضة علمية كبرى على ضوء رؤيتهم الكونية المستوعبة للعالمين المادي والغيبي ، لشيدوا أكبر حضارة عالمية في الوجود .

النقطة السادسة : إنَّ ما نفهمه من قوله ( تعالى ذكره ) : ﴿ وكانَ حقاً علينا نصرُ المؤمنين ﴾ أنَّ النصر الإلهي من الأمور الغيبية ، ويشهد لذلك أمران :

الأمر الأول : إضافة النصر من جهة الفاعل إلى الله تعالى ؛ إذ من الواضح أنَّ النصر الواقعي – لا خصوص النصر المادي – لو كان وليد الظروف الموضوعية والعوامل الطبيعية ، لكانت إضافته إليها أولى من إضافتها إلى الله عزَّ وجلَّ ، كما أنه على هذا سيكون كلُّ نصر – ولو كان مادياً فقط – مضافاً إلى الله تعالى ؛ ولهذا لوازم شنيعة لا يمكن الالتزام بها ، أجلاها أن يكون الانتصار المادي الذي حققه يزيدُ الكفر والمجون على حسين الطهر والفضيلة ( عليه آلاف التحية والثناء ) انتصاراً إلهياً ، وهذا كما ترى في مدى شناعته !! .

 الأمر الثاني : إضافة النصر من جهة القابل إلى المؤمنين ؛ إذ لو كان النصر الواقعي وليدَ الأسباب المادية فحسب ، لم تصح إضافته لخصوص المؤمنين ؛ إذ الأسباب المادية كما تخضع لسيطرة المجتمع المؤمن كذلك تخضع لسيطرة المجتمع الكافر .

­­­­­­­­­­­­والحاصل : فإنَّ ما تشير إليه الآيات المباركات التي تحدثت عن النصر الإلهي ، ليس هو النصر المادي فحسب ؛ لِيُقال : بأنه خاضعٌ لأسبابه الموضوعية ، وإنما هو النصر الواقعي – والذي يعني في جملة ما يعني انتصارَ الفكر والمبادئ والأهداف – وهو وليد العوامل الماورائية بدون أدنى شك ، فتدبر في ذلك حق التدبر تدرك حقيقة ما ذكرناه ، والحمد لله ربِّ العالمين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *