السؤال الأول
س: لماذا يجب على المكلف أن يقلد مرجعًا واحدًا على الرغم من أن دون تحديد الأعلم خرط القتاد باعتبار أن كلمات أهل الخبرة متباينة ومختلفة جدًا في ذلك؟!
ج: إنَّ تحديد الأعلم وإن اشتهر في لسان عامة الناس كونه أمراً متعسراً أو متعذراً، إلا أنه –بحسب واقع الأمر– ليس كذلك، بل هو أمرٌ غايةٌ في السهولة لأهل الخبرة المطّلعين على أطراف الشبهة، ولكن بما أنَّ المكلف –عادةً– لا قدرة له على تمييز الأعلم؛ لذلك فوظيفته هي الرجوع لأهل الخبرة من العلماء الذين لا يصعب عليهم تمييز الأعلم، وهم يتكفّلون له بتحديد الأعلم وتشخيصه.
وعلى فرض تعارض الشهادات وتباينها، فإنه من الممكن ترجيح بعضها على الآخر فيما لو كان أحد الخبيرين أقوى وأكثر خبرويةً من الآخر، وإن لم يكن أحدهما كذلك تعيّنَ تقليد مَن كان احتمال الأعلمية فيه أقوى منه في الآخر، وإنْ لم يكن هذا الاحتمال متوفراً أيضاً تخيّرَ المكلف بينهم، وبما ذكرناه ظهرَ أن اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد لا تترتب عليه أيُّ مشكلة عملية.
السؤال الثاني
س: إن السيرة العقلائية ليست قائمة على التشدّد في تعيين الأعلم والرجوع إليه، بل إن العقلاء يكتفون بالرجوع إلى من يطمئنون إلى خبرته وإن لم يحرزوا أعلميته، ففي مجال الطب مثلاً لا يعقل أن يبحث الإنسان عن الأعلم من بين الأطباء لكي يذهب إليه، بل يكتفي بإحراز خبرة من يريد الرجوع إليه!
ج: للإجابة عن السؤال المذكور ينبغي الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول: إنَّ اعتبار الأعلمية في مرجع التقليد إنما هو في صورة العلم –ولو إجمالاً– بالاختلاف بين المراجع الذّين يدور أمر التقليد بينهم، وأما مع عدم العلم بالمخالفة فالمكلف يتخير بينهم.
الأمر الثاني: إنَّ جريان السيرة العقلائية على عدم الرجوع إلى الأعلم من الأطباء مثلاً إنما هو في صورة الاطمئنان بعدم الاختلاف بينهم، أو في صورة عدم أهمية القضية، وأما مع العلم بالاختلاف، وكون القضية بالغة الأهمية –كما لو كانت عملية جراحية خطيرة مثلاً– فلا ريب في جريان سيرتهم على البحث عن الأعلم.
إذا عرفت ذلك تعرف أنَّ اعتبار الأعلمية في مرجع التقليد مما تقتضيه السيرة العقلائية بالضرورة؛ لوضوح أنَّ أمر الدين هو أهمُّ الأمور وأخطرها على الإطلاق، فمتى ما علم المكلف ولو علماً إجمالياً بالمخالفة بين المراجع، لزمه البحث عن الأعلم بينهم بمقتضى سيرة العقلاء.
السؤال الثالث
س: لماذا لا يرجع المكلف إلى أي مرجع ممن تدور حولهم شبهة الأعلمية ويقلد من شاء فيما شاء في حال التعارض بين فتاواهم؟! خصوصًا وأن التوقيع الشريف قال: “ألا ومن كان من الفقهاء … فللعوام أن يقلدوه” من غير أن يذكر صفة الأعلمية والأفقهية؟!
ج: ما دامَ يمكن تقليد الأعلم فهو المتعين؛ ولا يصح تقليد غيره بمقتضى السيرة العقلائية الممضاة –وغيرها من الأدلة المذكورة في محلّها– التي تقتضي تقليد الأعلم.
وأما التوقيع الشريف –الذي أشرتم إليه– فإنما يصح الاستناد إليه لنفي اعتبار شرط الأعلمية، فيما لو كان هو الدليل الوحيد لمشروعية التقليد، وأما مع وجود الأدلة الأخرى فلا بدَّ أن تُلاحظ النسبة بينها، ويُحمل المطلق على المُقيِّد، والخاص على العام، ثم يُعلم اعتبار الشرط المذكور أو عدم اعتباره، وإلا لكان التمسك به أشبه بالتمسك بقوله تعالى: {إنَّ الله يغفر الذنوب جميعاً} من غير الالتفات إلى قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يُشرك به}.
السؤال الرابع
س: وعلى ذكر هذا التوقيع يثير البعض على دلالته على وجوب التقليد إشكالية مفادها أنّ الإمام قال: فللعوام، ولم يقل: فعلى العوام، وبالتالي فهذا يدل على جواز التقليد لا على وجوبه!
ج: يمكن أن يُجاب عن ذلك بالالتفات لأمرين:
الأمر الأول: إنَّ الحديث المذكور ليس هو الدليل الوحيد لمشروعية التقليد، حتى يكون ما يدل عليه هو الحجة، وعليه فلا ينبغي للباحث أو الناقد أن يتمسك بمدلوله، ويتغافل عن مدلول الأدلة الأخرى.
الأمر الثاني: إنَّ تعبير الحديث: “فللعوام أن يقلدوه” ظاهرٌ في التخيير، وهو الموافق لمقتضى القواعد والأدلة الأخرى؛ إذ المكلف مخيّر بين الاجتهاد والتقليد والاحتياط، على ما هو مقرّرٌ في محلّه، فإن رامَ أن يقلِّد فذلك له، وإلا فعليه أن يجتهد أو يحتاط إن كان متمكّناً منهما.
والحاصل: فإنَّ أقصى ما يستفاد من الحديث هو التخيير، وأما أفراد التخيير –وهي الاجتهاد والاحتياط والتقليد– فتُعْلَم من مجموع الأدلة.