أسئلة حول تنزيه نساء الأنبياء عن الفاحشة

س: تعرّضتم في ليلة 11 من شهر رمضان المبارك إلى مسألة نزاهة نساء الأنبياء (ع) عن الفاحشة، وقد أثار بحثكم في ذهني عدّة تساؤلات:

1/ هل وردت هذه المسألة في روايات عن أهل البيت (ع)، أم أن مدركها العقل فقط؟

2/ بالنسبة إلى الدليل العقلي الذي ذكرتموه، ما هي ضابطة المنفِّر الذي يجب تنزيه الأنبياء (ع) عنه؟ لا أكاد أرى ضابطة واضحة، خصوصًا إذا كان المنفِّر ليس في ذات النبي وإنَّما في بعض ما يرتبط به كأهله مثلًا، فإنَّ الأدلة العقلية التي لها حجّية في باب العقائد لا بدَّ أن تكون أدلة قطعية يقينية، وليست مجرد استحسانات ذوقية ظنية، ودعوى أنَّ عرض النبي إذا كان مدنّسًا فإنَّ ذلك يمنع الناس من قبول قوله -وبالتالي ينتقض الغرض من بعثته- لا تبدو لي مسألة عقلية قطعية، بل قد يُنْقَض عليها بالكفر الذي أثبته القرآن الكريم لامرأتي نوح ولوط (ع)، فيقال: كما أن الناس ينفرون إذا كانت زوجة النبي فاجرة، كذلك ينفرون منه إذا كان كافرة أيضًا، فلهم أن يقولوا: إذا كان حتى أهلك -الذين هم أقرب الناس إليك- لم يصدّقوك ولم يؤمنوا بك فكيف تتوقع منا نحن أن نؤمن بك ونصدّق بقولك؟!

وعلى ذلك فإنَّ مسألة تنزيه أزواج الأنبياء وأبنائهم هي أقرب لما يعبِّر عنه علماء الكلام باللطف المقرِّب منها للطف المحصِّل؛ إذ لا يتوقف الغرض من بعثة الأنبياء (ع) على كون أزواجهم وأبنائهم صالحين، وإنما قد يكون ذلك مقرّبًا للغرض، فإنَّ النبي إذا كان ينتمي إلى أسرة معروفة بالنزاهة والشرف كان ذلك مساهمًا في مقبوليته عند مجتمعه، وتزداد هذه المقبولية إذا آمن به أهله وصدّقوه.

3/ مما يزيد معيارية المنفّر الممتنع على الأنبياء ضبابيةً وغموضًا أن الجرم الصادر من زوجة لوط (ع) كان شنيعًا جدًا، إذ هو إذا لم يكن داخلًا في عنوان (القيادة) المحرّم شرعًا -من جهة تقوّمه برضا الطرفين- فهو أقبح منه وأشنع، لأنها كانت تخزي لوطًا (ع) في ضيوفه، والظاهر من ذلك أن قومها كانوا يحاولون الاعتداء عليهم بنحو الاغتصاب، وعلى ذلك فخيانتها كانت في غاية القبح، ومع ذلك لم تدخل -بحسب نظر المتكلمين- في عنوان المنفّرات التي يجب تنزيه ساحة الأنبياء عنها، في حين أنه قد يدّعى أنه لا فرق بين قيام الزوجة بالفاحشة وكونها “قوّادة” من جهة التنفير، بل إذا كان الناس سيرفضون كلام النبي لأنه متزوج بفاجرة تقوم بالفاحشة، فكذلك سيرفضون كلامه إذا كان متزوجًا بفاجرة تقوم بالقيادة.

الجواب

1/ لم أقف في مسألة تنزيه أزواج الأنبياء (ع) على رواية صريحة واردة عن أهل البيت (ع)، نظير ما روي عن ابن عبّاس: (ما بغت امرأة نبي قط)، ولكن من خلال روايات حادثة الإفك وما تضمّنته يمكن استفادة كبرى كلية، ففي بعضها مثلًا لما أمر النبي (ص) بالتحقّق ممّن اتُّهِم في هذه الحادثة وأخبره أمير المؤمنين (ع) بأنه أجب، قال (ص): (الحمد لله الذي نزّهنا أهل البيت عمّا يرمينا به أشرار الناس من السوء)[1]، وهذه وإن كانت مرتبطة بالحادثة إلّا أنَّها ظاهرة في أنَّ الله سبحانه وتعالى قد نزّههم (ع) عن مثل هذا السوء الذي يرميهم به أشرار الناس. بل في بعضها ورد التعبير بصيغة الفعل المضارع الدال على الاستمرار: (الحمد لله الذي يصرف عنّا أهل البيت)[2].

فمن مثل هذه الروايات يمكن أن تُستظهَر كبرى تنزيه نساء الأنبياء (ع)، وكذلك من روايات أخرى لكنها أقلّ صراحة، نظير رواية زرارة مع الإمام الباقر (ع) حين تحدّث معه عن مشكلة تأخّره في الزواج، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (ع): ((قلت له: فما تقول في مناكحة الناس فإني قد بلغت ما تراه وما تزوّجت قط؟ فقال: وما يمنعك من ذلك؟ فقلت: ما يمنعني إلا أنني أخشى أن لا تحل لي مناكحتهم فما تأمرني؟ فقال: فكيف تصنع وأنت شاب أتصبر؟ قلت: أتخذ الجواري… فقلت له: فما ترى أتزوج؟ فقال: ما أبالي أن تفعل، قلت: أرأيت قولك: ما أبالي أن تفعل، فإن ذلك على جهتين، تقول: لست أبالي أن تأثم من غير أن آمرك، فما تأمرني أفعل ذلك بأمرك؟ فقال لي: قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوج وقد كان من أمر امرأة نوح وامرأة لوط ما قد كان، إنهما قد كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين. فقلت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس في ذلك بمنزلتي إنما هي تحت يده وهي مقرة بحكمه، مقرة بدينه. قال: فقال لي: ما ترى من الخيانة في قول الله عز وجل: {فخانتاهما} ما يعني بذلك إلا الفاحشة؟!))[3].

ففي هذه الرواية، حين أراد الإمام (ع) الاحتجاج على زرارة استشهد له في ضمن ما استشهد بزواج النبيين نوح ولوط (ع)، فبيّن له أنَّ المخالفة بين زوجتيهما  وبينهما كانت مخالفة دينية، ومع ذلك لم تمنعهما أن يتزوجا بهما، ولكن زرارة فرّع على كلام الإمام (ع) بقوله: (إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس في ذلك بمنزلتي إنما هي تحت يده وهي مقرة بحكمه، مقرة بدينه)، وهذا يعني أنَّه يرى أنَّ من كنَّ عند الأنبياء (ع) لم يكن مخالفات لهم في الدين، وحينها أنكر عليه الإمام (ع) فهمه للخيانة فقال له: (ما ترى من الخيانة في قول الله عز وجل: {فخانتاهما} ما يعني بذلك إلا الفاحشة؟!)، وهذا استفهامٌ إنكاريٌ في مقام إتمام الحجة على زرارة، أي أنَّ الإمام (ع) في هذه الرواية يقول لزرارة: إنَّ المراد من هذه الخيانة إنما هو الخروج عن الدين والطاعة للنبي، وليس المراد بها الفاحشة.

2/ وأما مسألة لزوم تنزيه الأنبياء (ع) عن المنفِّر، ومن ذلك فاحشة الأزواج، والنقض على ذلك بمسألة الكفر والانحراف الاعتقادي، فيبدو أنه من القياس مع الفارق، باعتبار أنَّ مسألة الزنا تنسحب على الزوج وعلى الأسرة، نظرًا لكون ذلك ممجوجًا ومنبوذًا حتى عند الكفار أنفسهم، بينما الكفر ليس كذلك، فهم يرون ما عليه من الكفر هو الحق، فكون المرأة كافرة في نفسه لا ينفِّر من الإصغاء إلى كلام زوجها، بخلافه فيما لو كانت عاهرة والعياذ بالله، فإنَّ ذلك ممّا يمسّ شرفه ويطال عرضه، وذلك يوجب التنفير منه.

وهذا المعنى أشار إليه بعض الأعلام، فمثلًا: يقول الشيخ ابن شهرآشوب: (إلا أن الفاحشة لا تجوز على أزواجهم فإنها لازمة لهم)[4]، وقوله: (لازمة لهم) يعني به أنَّ ما تتسبّب به الفاحشة من القبح يطال الأزواج ويمسّهم. ويقول السيد نعمة الله الجزائري: (ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور لأنه سمجٌ في الطباع، نقيصةٌ عن كلّ أحد، بخلاف الكفر، فإنَّ الكفّار يسمّونه حقًا) [5].

ولنا أن نقول بأنَّ الناس في زمن الأنبياء (ع) فئتان: فئة آمنت بهم وفئة لم تؤمن، فالفئة التي آمنت تعلم حينئذ بأنَّ كفر زوجات الأنبياء أو أبنائهم إنما هو لخبث فيهم، ولا يطال ذلك ساحة النبي، سيما مع علمهم بما يبذله النبي من الجهود في التبليغ والهداية والإرشاد، كما كان يصنعه نوح (ع)، فهذا لن يوجب تنفيرًا لهم.

وأما الفئة الأخرى فهي لا ترى أيضًا في ذلك عيبًا، بل ترى أنَّ ذلك هو الحق المبين ومقتضى الاستقامة، وعلى ذلك فإنَّ وجود زوجات وأبناء هكذا لن يمنع من الإصغاء إلى النبي فيما يبلّغ، بخلافه فيما لو كانت زوجته والعياذ بالله عاهرة، فإنَّ هذا مذمومٌ عند الفئتين معًا، ولا شكّ في أنّه يوجب التنفير عند شريحة كبيرة من الناس، فيغمزون ويهمزون ويرون في ذلك عيبًا وشنارًا يطال العرض والشرف ويمسّ الأسرة، وأقل ما يقال أنَّ هذه الأسرة أسرة غير محترمة وغير شريفة، فلا يقاس الذنب الذي لا ينسحب على النبي بالذنب الذي ينسحب عليه، بل بينهما بونٌ شاسعٌ.

3/ وأما ما ذكرتموه من أمر امرأة لوط فكأنكم ذهبتم بها عريضة! إذ أننا لا نحرز ما الذي كانت تقوم به تلك المرأة، ومن المقطوع به أنَّ ضيوف لوط ما كانوا راضين بمثل هذه الأمور، ولو كانوا راضين لما حلّوا ضيوفًا عليه، فحلولهم ضيوفًا عليه ينبئ بأنه يرتضيهم ويرتضونه، ومن يرتضونه لا يرتضون تلك الفاحشة.

ثم إنَّ غاية ما كانت تصنعه تلك المرأة هو الإخبار عن وجود الأشخاص، وأما هل كان ذلك يصل إلى مستوى إجبارهم على ذلك سواء في بيت لوط أو عندما يخرجون منه فهذا لا يمكن أصلًا استظهاره من أي شيء من الأدلة، وكون قومه يخزونه في ضيوفه يكفي فيه أنهم يؤذون ضيوفه بما يعبّر عنه في لغة اليوم بالتحرش، فهو ليس اعتداء وإنما هو مشاكسة، والحال أنَّهم كانوا ضيوفًا ينبغي احترامهم وتكريمهم، فالتعرض لهم ولو بهذا المقدار ممّا يخزي.


هوامش:

[1] رسالة حول خبر مارية، الشيخ المفيد: ص17.

[2] بحار الأنوار: ج22، ص168.

[3] الكافي: ج4، ص174.

[4] متشابه القرآن ومختلفه: ج1، ص205.

[5] تفسير عقود المرجان: ج5، ص165.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *