س: لقد ورد في زيارة العباس (عليه السلام): «أشهد لك بالتسليم… والنصيحة لخلف النبي المرسل»، فما معنى نصحه للإمام الحسين (عليه السلام)، مع أنّ النصيحة تسلتزم أن يحيط الناصح بما لم يحط به المنصوح علمًا، وهذا يتنافى مع مقام المعصوم وعلمه وعصمته؟
الجواب
ج: لقد استفاض في الأخبار والزيارات الشريفة وصفُ سيدنا العباس بن أمير المؤمنين (عليهما السلام) بوصف (الناصح)، فقد جاء في بعضها: «أشهد لَقَدْ نَصَحْتَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأخِيكَ فَنِعْمَ الاَخُ المُواسِي»، وجاء في بعضها الآخر: «أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل»، وجاء في بعضها الثالث: «وأشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود».
وربما يُتوهم أنّ المراد من اللفظ المذكور هو المُتبادر منه إلى الذهن، وهو إسداء المشورة إلى الغير، أو نصحه وتوجيهه، فيأتي حينئذ الإشكال الذي ذكره الأخ السائل (وفقه الله تعالى) في سؤاله.
ولكنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ هذا التبادر ليس إلا لأنس الذهن في هذه الأزمنة بالمعنى المذكور، والحال أنَّ الأمر لم يكن كذلك في زمن النص، فإنّ لفظ النصيحة ومشتقاته كان يستخدم حينها بمعانٍ أخرى غير هذا المعنى، ومما يشهد لذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله): قال الله (عزّ وجلّ): «أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي»، فإنّ النصح لله تعالى لا يمكن إطلاقًا أن يكون بمعنى إسداء المشورة له تعالى.
وهكذا هو قوله (صلى الله عليه وآله): «من ضمن لي خمسًا أضمن له الجنة: النصيحة لله عز وجل، والنصيحة لرسوله، والنصيحة لكتاب الله، والنصيحة لدين الله، والنصيحة لجماعة المسلمين»، ومثله قوله (صلى الله عليه وآله): «من لم يُصبِحْ ويُمسِ ناصحًا لله ولرسولِه ولكتابِه ولإمامِه ولعامةِ المسلمين؛ فليسَ منهم»، فإنّ النصيحة لكتاب الله تعالى في الحديثين لا يمكن أن تكون بالمعنى المتبادر في هذا الزمان.
مما يعني أنّ النصيحة تأتي بمعنى آخر هو المتعيّن والمقصود في مثل هذه النصوص الشريفة، ويمكن استيضاحه من خلال الرجوع إلى معاجم اللغة العربية وتتبع الاستعمالات، ومحاولة تصيّد المعنى الرئيسي للكلمة، وهذا المعنى المدّعى هو (الإخلاص والصفاء)، حيث يقال: «نَصَحَ الْجَوُّ» بمعنى: صَفَا، ويقال: «نَصَحَ الْمَعْدنُ»: بمعنى: خَلَصَ، ويقال: «نَصَحَتْ تَوْبَتُهُ» بمعنى: خَلَصَتْ مِن شَوَائِبِ العَزْمِ عَلَى الرُّجُوعِ، ويقال: «نَصَحَ قَلْبُهُ» بمعنى: خَلَا مِنَ الغِشِّ، ويقال أيضًا: «نَصَحَ العَمَلَ» بمعنى: أَخْلَصَهُ، ويقال: «نَصَحَ العَسَلَ»: بمعنى صَفَّاهُ، ويقال: «نَصَحَ لَهُ الوُدَّ»: بمعنى: أَخْلَصَهُ، ومَحَضَهُ إِيَّاهُ.
وإنما أُطلق (النصح) على التوجيه والإرشاد والمشورة، لكونها تنبعث عن الإخلاص في العلاقة بين الناصح والمنصوح.
وإذا اتضح أنّ معنى النصح هو ما ذكرناه اتضح معنى النصح لله تعالى، فهو الإخلاص التام له تعالى وعدم الشرك به، وتنقية القلب من جميع الشوائب التي تكدّر صفو العلاقة النقية معه تبارك وتعالى، كما اتضح بذلك معنى صفة النصح التي تحلّى بها مولانا وسيدنا العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنّ نصحه لأخيه سيد الشهداء (عليه السلام) بمعنى إخلاصه التام في محبته والاعتقاد بإمامته، والتفاني المطلق في خدمته وطاعته، وتحقيق ذلك بأعلى مراتبه ومستوياته، وهذا هو معنى «وأشهد أنك قد بالغتَ في النصيحة» فإنّ مبالغته في النصيحة تعني تحقيقه الإخلاص لسيد الشهداء (عليه السلام) بأعلى الدرجات وأرقى المستويات، ونظرًا لذلك فقد أشاد أئمة الهدى (عليهم السلام) بوصفهِ هذا في النصوص المتقدمة، بل جعلوه متعلقًا للاعتقاد، كما تشفُّ عن ذلك كلمة (وأشهد).
والحمد لله ربِّ العالمين
النصح بمعنى إبداء المشورة مكرر في الاستعمال القرآني وش اهده كثيرة منها : فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ .
و كذلك في قوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .
مع أنها وردت بالمعنى الثاني أيضا والذي ينسجم مع التفسير المذكور في الجواب .
لاحظوا قول سماحة السيد في الجواب: (وإنما أُطلق (النصح) على التوجيه والإرشاد والمشورة، لكونها تنبعث عن الإخلاص في العلاقة بين الناصح والمنصوح)، ولاحظوا أن النصح في الآيتين قد تعدى باللام (نصحت لكم، أنصح لكم).
هناك فرق لغوي بين نصحه ونصح له.
فمعنى نصحه : هو وجَّهَهُ وأبدى له صدق المشورة والرأي.
أما نصح له: فهو بمعنى محضه العقيدة وإبداها علانية وسرا ودعى إليه وبذل نفسه فداء له بعزيمة وإصرار.
فنصح له: محضه الإخلاص ولم يشرك معه آخرين.
ود خالص لا يشابهه ود آخر، إخلاص محض لا يشابهه إخلاص آخر.
بمعنى صريح أنه لا مثيل لإخلاصه ووده.