وقفاتٌ مع عبارة (بالرفاه والبنين)

بسم الله تعالى أبدأ ، وبمدد أوليائهِ أستعين

من جملة تعاليم المعصومين ( عليهم السلام ) : نهيهم عن الدعاء للمتزوج بعبارة ( بالرفاه والبنين ) ، واستبدالهم لها بعبارة : ( على الخير والبركة ) .

وقد عرضتُ هذا التعليم المبارك من خلال المنبر الشريف ، وقلتُ في توجيهه : إنَّ الدعاء الأول دعاء بمطلق البنين والحياة المرفهة ، في الوقت الذي ينبغي أن يدعوَ فيه الداعي بالبنين الصالحين والرفاهية الشرعية المحللة ، وهذا ما يؤديه الدعاء الآخر الذي استحدثه المعصومون ( عليهم السلام ) ، وهو أن يُقال : ( على الخير والبركة ) .

غيرَ أنَّ بعضهم لم يرق له هذا التوجيه ، فأثارَ مجموعة من الإثارات حول ما طرحته ، رغمَ أنّي لم أتفرد به [1]، وسوف أقوم – من خلال هذا المقال المختصر – بعرض تلك الإثارات ، وبيان وجه الوهن فيها .

1 / الإثارة الأولى : إنَّ النهي المذكور لم يرد من طريقنا ، وإنما وردَ عن طريق العامة فقط .

وهذه الإثارة في غاية الغرابة ، إذ قد وردت رواية من طريق الكافي الشريف ، وهي مرفوعة البرقي قال : لما زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة ( عليها السلام ) قالوا : بالرفاه والبنين ، فقال : لا ، بل على الخير والبركة [2].

وقد اعتمدها غير واحدٍ من الأعلام ، ومنهم العلامة المجلسي ( قدس سره ) ، حيث قال في شرحه للكافي الشريف : ” ويدل على كراهة القول الأول ، واستحباب القول الثاني ” [3].

2 / الإثارة الثانية : إنَّ المعصومين ( عليهم السلام ) أنفسهم قد استخدموا الدعاء المذكور .

 وهذه الدعوى مجازفة جريئة ؛ لأنها نسبة فعل للمعصوم ( عليه السلام ) قد وقعَ متعلقاً لنهيه ، مع أنه – رغم التتبع الكثير – لم أعثر ولا على رواية واحدة تدل على ذلك ، فعهدة الدعوى على مدّعيها .

3 / الإثارة الثالثة : إنَّ الدعاء وإن لم يقيّد الرفاهية بالحليّة ، والبنين بالصلاح ، إلا أنَّ ذلك هو ما ينصرف له ، بقرينة كون الداعي في مقام الدعاء ، فليس يدعو إلا بالخير .

ويمكننا التعقيب على هذه الإثارة ببيان أمرين :

الأول : إنَّ هذه المعاني مما لا يلزم أن يلتفت لها كلُّ داعٍ ؛ ولذا لزم إلفات نظره إلى ما ينبغي أن يدعو به ، حتى يكون في دعائه متوجهاً للمعاني التي يدعو بها ، وقاصداً لما يتمنى تحققه وحصوله .

الثاني : إنَّ المتتبع لطريقة الشارع الأقدس في صياغة الأدعية ، يلمس أنه لا يعتمد لغة القرائن ، بل يعتمد لغة التصريح .

ويشهد لذلك :

  • ما رواه الشيخ الطوسي ( قده ) في الأمالي : من أنَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما سمعَ رجلاً يقول : اللهم إني أعوذ بك من الفتنة . قال : أراك تتعوذ من مالك وولدك ، يقول الله تعالى : ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) ، ولكن قل : اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن [4].
  • وكذلك : ما ورد من أنَّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سمع رجلاً يدعو لصاحبه ، فقال : لا أراك الله مكروهاً ، فقال : إنما دعوت له بالموت ، لأنَّ من عاش في الدنيا لا بدَّ أن يرى المكروه [5].

فإنَّ من الواضح جداً أنَّ الداعي بالدعاء الأول لا يقصد المال والأولاد ، كما أنَّ الداعي بالدعاء الثاني لا يقصد الدعاء بالموت قطعاً ، إلا أنَّ ذلك لم يمنع الشارع من تنبيههما على ضرورة صياغة الدعاء بما يتوافق مع الغرض الذي ينبغي قصده والتوجه له .

وما نحنُ فيه من هذا القبيل ، فتأمل جيداً .

4 / الإثارة الرابعة : إنَّ تفسير ( الرفاه ) بالرفاهية ليس في محله ، بل هو بمعنى الالتئام والاتفاق .

والذي يبدو أنَّ هذه الإثارة – كسابقاتها – إثارة ارتجالية ، لم يسبقها تتبع ولا مراجعة ، وإلا فإنَّ من راجع كلمات اللغويين لن يخفى عليه : أنَّ مفردة ( الرفاه ) تستخدم كثيراً بمعنى الرفاهية والعيش الرغيد ؛ إذ أنَّ الراء والفاء والهاء – في مادة ( رفه ) – أصل واحد يدل على نعمة وسعة مطلب ، كما عن المقاييس [6].

وقد استخدمت هذه المادة في معناها هذا عبر الاشتقاق المذكور ، حتى في كلمات الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) ، ومن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أنه قد خاطبَ أهل العراق لما أصابتهم أزمة في العيش ، فقال : ” أيها الناس أبشروا ، فوالله إني لأرجو أن لا يمرّ عليكم إلا يسير حتى تروا ما يسركم من الرفاه واليسر ” [7].

ومن هنا ، فإنَّ عدة من الأعلام ( قدِّست أسرارهم ) لم يكتفوا في تفسير ( الرفاه ) أو ( الرفاء ) بالوفاق والالتئام ، بل فسروه أيضاً بالنماء والبركة [8]، مما يتناسب مع سعة النعمة والتوسع في العيش .

5 / الإثارة الخامسة : إنَّ هذا الدعاء قد وردَ في كلمات السيدة خديجة ( عليها السلام ) بمحضر رسول الله الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم ينهها النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه ، فيستكشف من ذلك إمضاؤه وتقريره .

وقبل تسجيل ملاحظتنا على هذه الإثارة نقول : إنَّ الرواية المُشار إليها قد ذكرها الشيخ الصدوق ( قده ) في ( الفقيه ) ، فقال : دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على خديجة وهي لما بها ، فقال لها : « بالرغم منّا ما نرى بك يا خديجة ، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهن السلام » فقالت : من هنّ يا رسول الله ؟ فقال : « مريم بنت عمران ، وكلثم أُخت موسى ، وآسية امرأة فرعون » فقالت : بالرفاء يا رسول الله ” [9].

وتعليقاً على الاستناد لهذه الرواية نذكر ما يلي :

أ – إنَّ العلامة المجلسي الأول ( قده ) قد أفادَ في شرحه الفارسي على ( من لا يحضره الفقيه ) : أنَّ من المحتمل صدور هذا الدعاء منها ( عليها السلام ) قبل صدور النهي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) [10]، وبالتالي فلا يصح الاستناد إليه .

ب – إنَّ الرواية محفوفة بقرينة يضعف معها ثبوت الإمضاء ، وهي : أنَّ السيدة خديجة ( عليها السلام ) قد دعت بذلك في ساعة الاحتضار ، ولعلَّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم ينهها في تلك الساعة ؛ لعدم ملائمة الظرف المذكور ، أو لعدم ثمرة النهي – كما أشار لذلك العلامة المجلسي الأول في شرحه العربي[11] – إذ الغرض من النهي ليس إلا منع المكلف عن الوقوع في المنهي عنه مرة أخرى ، وبما أنَّ الفرض أنَّ السيدة خديجة ( عليها السلام ) لاحقة بربها ، فيكون نهيها لغواً .

ج – إنَّ العبارة في بعض النسخ قد جاءت ( بالوفاء يا رسول الله ) [12]، وعلى ضوئها تكون العبارة أجنبية عمّا نحن فيه .

6 – الإثارة السادسة : إنَّ رواية النهي عن قول ( بالرفاء – أو بالرفاه – والبنين ) قد تظافر نقلها في كتب العامة ، ومقتضى ما دلّت عليه الروايات الشريفة مِن ” أنَّ الرشد في خلافهم ” هو المحافظة عليها ، لا الاجتناب عنها .

وهذه الإثارة مثيرة للعجب والاستغراب جداً ؛ إذ أنه من الواضحات في مباحث التعارض من علم الأصول أنَّ مخالفة العامة إنما هي من المرجحات ، التي يتمسك بها لترجيح أحد الخبرين المتعارضين ، وبما أنه قد اتضح سابقاً أنَّ الخبر الوارد من طريقنا ليس إلا خبر النهي ، ولا يوجد خبر يعارضه ، فالتمسك بمخالفة العامة حينئذ لا وجهَ له .

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين


[1] قال المحقق الكجوري ( قده ) في كتابه ( الخصائص الفاطمية ) 1 / 443 : ” « بالرفاء والبنين » : كلمة معروفة في الجاهلية تقال للعرسين عند الزواج ، وقد نهى عنها النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في زواج فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وقال : « بارك الله لكما وطيّب نسلكما وجمع بينكما في خير » ولعلّه نهى عنها لأنّها ناظرة إلى العيش الدنيويّ ” .

والظاهر من كلامه ( قده ) : أنَّ النهي عن الدعاء المذكور إنما هو لكونه ناظراً لكيفية ومستوى المعيشة الدنيوية ، وهذا إنما يتلاءم مع حمل الرفاهية والبنين على مطلق البنين والرفاهية ، وإلا فمع كون البنين صالحين فإنَّ هذا يمتد حتى إلى العوالم الأخرى ، ولا يكون مقصوراً على هذا العالم ، كما لا يخفى .

[2] الكافي : 5 / 568 .

[3] مرآة العقول : 20 / 425 .

[4] الأمالي : 580 .

[5] شرح نهج البلاغة : 20 / 289 .

[6] معجم مقاييس اللغة : 2 / 419 .

[7] إحقاق الحق : 32 / 272 .

[8] منهم : العلامة المجلسي ( قده ) في ( بحار الأنوار ) 19 / 24 ، و ( مرآة العقول ) 20 / 425 .

[9] من لا يحضره الفقيه : 1 / 136 .

[10] لوامع صاحبقراني : 2 / 208 .

[11] روضة المتقين : 1 / 364 .

[12] أشارَ لذلك العلامة الطريحي ( قده ) في ( مجمع البحرين ) 1 / 192 ، حيث قال : ” قَالَتْ : بِالرِّفَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : بِالْوَفَاءِ” .


قراءة المقال كملف pdf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *