جدّي المقدّس في مرآة والدتي

كلمةٌ في البدء :

في جلساتي مع الوالدة الجليلة ( حفظها الله تعالى وأدامَ بقاءها ) لا بدَّ أن تعود بها ذاكرتها – بين الحين والآخر – إلى ما سلفَ من الزمان ، فتتحفني بالحديث عن والدها المقدَّس ، سماحة الحجّة الكبير ، العالم العامل ، الشيخ فرج العمران ( أعلى الله درجته ) ، وبما أنّ الكثير مما كانت تتحدث به لم تجرِ سيرة أصحاب التراجم على رصده وتناوله ، لأنَّ أغلبه حديث من داخل البيت والحياة الخاصة ؛ لذلك آثرتُ توثيقه إبرازاً للجانب الخفي من حياته الشريفة ، وبِرّاً به ، وشكراً لبعض أياديه ، فإنني – وكلُّ أفراد وفروع أسرته المباركة – مدينون له بكلِّ خيرٍ ننعمُ فيه .

وسوف أترك الحديث حوله ها هنا لوالدتي المكرّمة ، ولن يكون لي من دورٍ فيه إلا بمقدار نقل ما سمعته منها وإعادة صياغته وترتيبه ، وأرجو أن أكون قد وفقتُ في ذلك ، ومنه تعالى أستمد السداد والتوفيق .

🔹️ الولادة والاسم :

وُلدَ والدي في سنةٍ كان فيها الوباء يخيّمُ على أرجاء القطيف ونواحيها (١) ، فأسماه أبوه المرحوم ( الملا حسن ) ب ( أحمد ) كاسم أبيه ، غير أنّ الوباء قد ارتفع عن القطيف بعد ولادته بفترة وجيزة ، فأبدلَ والده اسم وليده من ( أحمد ) إلى ( فرج ) تيمناً بالمولود وتوثيقاً للتاريخ .

🔹️ الهجرة إلى النجف الأشرف :

بعد أسبوعين من ولادتي هاجر والدي إلى النجف الأشرف ، مصطحباً معه والدتي وإخوتي ، ليكمل مسيرته العلمية في رحاب مدينة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولكنّه لم يستطع المكث في النجف الأشرف أكثر من سنتين ، وذلك نظراً لشدّة ما كان يعيشه من الفاقة وضيق ذات اليد ، وقد بلغَ بهِ الفقر حدّاً أنْ ألجأه هناك لبيع ما كان في رجلي من ( المقاليد ) (٢) ، وهي نوع من الحلّي يشبه الخلاخيل (٣) .

🔹️ علاقته بأسرته وأولاده :

كان والدي ( رحمه الله ) رقيق القلب ، مرهف المشاعر ، وقد انعكس ذلك على علاقته بأولاده ، فكان قلبه الطاهر يفيض بالرأفة والحنان عليهم رغم صعوبة حياته وكثرة مشاغله ، فلا أنسى أنّه إذا رأى أحدنا نائماً في فصل الشتاء بلا غطاء ، يدنو منه ويمدُّ عليه الغطاء بيديه المباركتين ، لئلا نشعر بقسوة برد الشتاء القارص .

ومتى ما مرضَ أحدنا كان ( رضوان الله عليه ) يشتري علب الأناناس (٤) ويطعمنا إياه ، فكان ذلك مما يساعد على سرعة البرء والشفاء ، إذ أنه – مضافاً لما له من الآثار العلاجية المعروفة – كان نفس تولّي الشيخ لعملية الإطعام يشعرنا بالدفء ويغمر قلوبنا بالسعادة ونفوسنا بالطمأنينة .

🔹️ علاقته بجيرانه :

وأما علاقته بجيرانه فقد كانت علاقة مميزة للغاية ، ومليئة بالألفة والمحبّة والحميمية ، حتى أنّه كان متى ما أُهديت له هدية قابلة للتوزيع – كالتمر والفواكه والخضار ونحو ذلك – لا يهنأ له عيش حتى يأمر بتقاسمها مع الجيران .

ومتى ما سافر إلى الحج أو العمرة أو الزيارة لم يأتِ منها إلا مُحمّلاً بالهدايا ، فكان يوزعها على أطفال الجيران ، كما أنه إذا أراد السفر يوزِّع عليهم نقوداً رمزية بنية السلامة ، وكان لذلك بالغ الأثر في نفوس جيرانه رجالاً ونساءً وكباراً وصغاراً .

🔹️ حلمه وعفوه عن المسيئين :

كأيِّ عالم دين لم تكن تمضي حياته دون أن يتعرض للانتقاد والتهجم والإيذاء ، ولكنّه كان يقابل ذلك برحابة الصدر وجمال العفو ، ولا زلت أتذكر أنَّ بعض إخوتي في حداثة سنّهم قد جاؤوا إليه في يومٍ من الأيام ، وعلامات الانزعاج بادية على وجوههم ، فقالوا له : ” إنَّ فلاناً من الناس يشتمك وينال منك ” ، فابتسم ( رحمه الله ) وقال : ” خذوا هذا المقدار من المال ، وقدِّموه هديةً له ، في قبال ما أهداني من الحسنات ، بسبب شتمهِ لي ونيله مني ” ، وبهذه العبارة الوجيزة امتصّ غضبهم ، ونمَّى في نفوسهم مبدأ مقابلة الإساءة بالإحسان .

🔹️ اهتمامه بتفقيه النساء :

كان المستوى الثقافي للنساء آنذاك – فيما يرتبط بالشأن الديني – دون المستوى المطلوب ، وقد أخذَ والدي على نفسه أن يرفع من مستوى معرفة المرأة بدينها وأحكام شريعتها ، وبذلك ساهم في تصحيح العديد من المفاهيم الخاطئة السائدة حينها .

فكنَّ النساء يأتين إلى بيت والدي ، وتستقبلهنَّ والدتي الجليلة خادمة أهل البيت ( عليهم السلام ) المرحومة أم محمد ، ثمَّ يبدأنَّ بطرح أسئلتهن الشرعية على والدي من وراء حجاب ، وكان الشيخ يجيبهنَّ ، وقد صحح لهنَّ مجموعة من المفاهيم الخاطئة ، ومنها : أنه كان شائعاً آنذاك بين النساء أنّ الحائض في شهر رمضان لا يجب عليها قضاء ما يفوتها من الصيام ، بزعم أنّ ملكاً من الملائكة يصوم عنها ، وقد أوضح الشيخ خطأ هذا الاعتقاد ، وإني أعرف الكثير من النساء قد قضين ما عليهنَّ من صيام الأيام الفائتة ببركة توجيه الشيخ ( أعلى الله مقامه ) (٥).

🔹️ الشيخ في وجدان الناس :

ونظراً لما كان يتمتع به من الصفات الفاضلة ، ويقوم به من الأدوار الجليلة ، فقد كان للناس اعتقادٌ شديدٌ به ، حيث كانوا – في كثيرٍ من الأحيان – إذا مرض لهم مريض يطرقون باب بيت والدي وقت الظهيرة ، ويطلبون قليلاً من الطعام من يد الشيخ ليأكله المريض ، وكان بعضهم يطلب فاضل ماء وضوئه ، فكان المريض – إذا أكل من ذلك الطعام أو مسح جسده بذلك الماء – يتماثل للشفاء ويتحسن حاله ، حتى أنَّ بعض الأسر كان يتكرر منها ذلك كلّما نال المرض من أحد أفرادها .

🔹️ لقطةٌ من اللقاء الأخير :

في آخر لقاء به قبيل وفاته بيومين ذهبتُ – مع إحدى أخواتي – للسلام عليه ومصافحته ، فأثارني بتصرفٍ غير معهود منه ، حيث قام بالضغط على يدي بكفهِ الطاهرة ، ولم يكن يفعل ذلك من قبل ، وقد شعرتُ في نفس اللحظة بأنَّ هنالك رسالةً مّا يريد الشيخ أن يوصلها إلى قلبي ، حتى أنني لشدّة ما ملكني من الشعور بادرتُ لسؤال أختي – بمجرد خروجنا من بيت والدي – هل صنعَ أبوكِ معكِ مثلَ ما صنعه معي ؟! فقالت : نعم ، وكانت متعجبة ومندهشة مثلي ، فما مضى إلا يومان حتى انفكَّ الرمز وفهمنا الرسالة حين سمعنا الناعي يقول : ( لقد مات الشيخ فرج .. لقد مات والد القطيف ) (٦) .

هذه شذرات ممّا التقطته من حديث الوالدة الجليلة ( أدام الله بركتها ) حول والدها المقدّس ( أعلى الله في الخلد درجته ، ورزقنا شفاعته ) ، وقد استحسنتُ نشرها في ذكراه الرابعة والأربعين ، فإلى روحه الطاهرة الفاتحة مع الصلوات .

والحمد لله ربِّ العالمين

ضياء الخباز

الاثنين ٢٣ / ٣ / ١٤٤٢


(١) وُلد ( طيّبَ الله ثراه ) في شهر شوال من سنة ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة ( على مهاجرها وآله السلام والتحيّة ) ، وكان حينها وباء الطاعون منتشراً في القطيف ، قادماً إليها من الهند .

(٢) المقاليد كلمة شعبية عربية فصيحة ، وهي مأخوذة من القلادة ، وقد تمَّ التوسع فيها فأُطلقت على كل ما أحاط بشيء .

(٣) بل إنني سمعتُ من خالتي المرحومة الخطيبة الحسينية الجليلة أم نادر ( رحمها الله ) – وهي كبرى بنات الجدّ المقدّس – أنّ سوء الحال قد بلغ بهم إلى الحدّ الذي كانت فيه والدتها ( رحمها الله ) تضع فيه القدر على النار خالياً من كلّ شيء إلا الماء ، لتوهم أولادها اشتغالها بإعداد الطعام لهم ، وكلما سألوها عن وقت الانتهاء من طبخه كانت تصبّرهم حتى يغلب عليهم النوم ، وهم يتضورون جوعاً .

(٤) ويبدو أنها حينها كانت عزيزة وغير مبتذلة ، كما عليه الحال في زماننا .

(٥) ومن مآثره ( طيب الله ثراه ) في هذا المجال تأليفه لكتاب ( من واجب المرأة المسلمة ) ، الذي بسط فيه أحكام الدماء الثلاثة وبعض ما يرتبط بها .

(٦) وقد ارتقت روحه الطاهرة إلى جنان الخلد في يوم الخميس الموافق للثاني والعشرين من شهر ربيع الأوّل سنة ١٣٩٨ من الهجرة النبوية الشريفة ، وكان يوم وفاته في بلده القطيف يوماً مشهوداً .

4 تعليقات على “جدّي المقدّس في مرآة والدتي”

  1. رحم الله روحه المقدسة الطاهرة..
    و الشكر موصول إليك سيدنا الفاضل على النشر و المشاركة

  2. الف رحمة على هذا البحر بل المحيط. وقدس الله تربته الشريفة وجعلني الله في الجنه معه ننعم بنعم الله التي لا يبلغ عدها العادون

  3. الف رحمه عليه العلامه والعلم الزاخر من علوم ال بيت محمد عليهم السلام بالفعل كان منارا من العلم يضاء به سماء القطيف الحبيبه حفظ الله ذريته المباركه وسقاهم من حوض علمه الزاخر والي جنات النعيم مع محمد وال محمد عليهم السلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *