المعارف العقدية بين الثبات والتغيّر

تاريخ المحاضرة: 13/01/1434

نقاط البحث:

  • الفرق بين الثابت والمتغيّر
  • هل جميع ما هو ثابت الآن كان متغيّرًا، وبالتالي فجميع المعارف قابلة للاجتهاد وتعدّد النظر؟
  • ضرورة وجود الثوابت
  • عوامل عدم وضوح العقيدة الشيعيّة في زمن الأئمة وبداية الغيبة
    1. ظروف المحنة والتقيّة
    2. عدم وجود المؤهّل لحمل المعارف العالية
    3. تعدّد المراكز الشيعيّة وعدم التواصل بينها

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

اليوتيوب:

معلومات أخرى:


نص المحاضرة

المعارف_العقدية_بين_الثبات_والتغير.pdf

قال تعالى في كتابه الكريم: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ}[1].

لا يخفى أنَّ المعارف العقدية على قسمين:

  • الثابت.
  • والمتغيّر.

والفرق بينهما هو: أنَّ (المتغير) هو “ما يقبل الاجتهاد وتعدد النظر”، بينما (الثابت) هو: “ما لا يقبل الاجتهاد وتعدد النظر”، فمثلًا: عصمة الأئمة (ع) معرفةٌ عقديةٌ ثابتةٌ؛ لأنَّها لا تقبل الاجتهاد وتعدد النظر، ولكن ثبوت الولاية التشريعية لأهل البيت (ع) – بمعنى تخويل الله تعالى للمعصوم (ع) أن يشرّع قوانين للناس – تندرج ضمن المتغيّر؛ ولذا أثبتها بعض العلماء، ونفاها البعض الآخر، وفصَّل فيها البعض الثالث.

ويترتب على التقسيم المذكور عدم صحة الاجتهاد في القضايا الثابتة، بل الخروج عن المذهب بإنكارها في بعض الصور.

شبهةٌ حول الثوابت العقدية:

ولكن في مقابل هذا التقسيم تُوجد شبهةٌ مطروحةٌ في الوسط الشيعي، وحاصل هذه الشبهة: أنَّ المعارف العقائدية لا يوجد فيها ثابت أصلًا، بل جميع المعارف العقدية متغيرةٌ، وحتى ما هو ثابتٌ عندنا الآن فهو في الحقيقة من المتغير؛ إذ أنَّنا لو تتبعنا جذوره وأرجعناه إلى أصله لوجدناه من المتغير الذي يقبل تعدّد النظر، غايته أنه صار من الثابت في زماننا بسبب التراكم، حيث أتى الشيخ المفيد (قده) – مثلًا – وطرح رأيًا عقائديًا، ثم أتى الشيخ الطوسي (قده) من بعده وتبناه، ثم تبناه العلامة الحلي (قده) وهكذا، حتى أصبح المتغيّر ثابتًا بسبب التراكم جيلًا بعد جيل.

وحتى تتضح الفكرة جيّدًا نضرب مثالين:

المثال الأول: سهو النبي (ص).

فعندما يُطرح السؤال التالي: هل النبي (ص) يسهو أم لا؟ نجد كلمة علماء الشيعة في عصرنا متّفقةً على تنزيه النبي عن السهو، بمعنى أنَّ هذا من الثابت الذي لا يقبل تعدّد النظر، ولكن لو أرجعنا هذا الثابت إلى جذوره لوجدناه من المتغير، فإننا عندما نرجع إلى الوراء نلتقي بقول الشيخ الصدوق (قده): “وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه الله يقول: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله، ولو جاز أن تُرد الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن ترد جميع الأخبار، وفي ردها إبطال الدين والشريعة، وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي صلى الله عليه وآله والرد على منكريه إن شاء الله تعالى” [2].

ومما يجدر ذكره في المقام كجملةٍ معترضة بين قوسين: أنَّ الشيخ الصدوق (قده) عندما طرح مسألة سهو النبي (ص) لم يطرحها كما طرحتها مدرسة العامة، فإنَّ نفس طبيعة النبي (ص) – على مباني مدرسة الخلاف – معرّضة للسهو وللغفلة وللخطأ، بينما الذي يراه الشيخ الصدوق هو: أنَّ طبيعة النبي ليست معرّضة للسهو، وإنّما الذي يحصل للنبي هو الإسهاء، أي: أنَّ الله تعالى يسهيه لأجل مصلحة من المصالح [3].

وهذا يعني أنَّ الشيخ الصدوق (قده) قائلٌ بالإسهاء لا بالسهو، وإن كان علماؤنا لا يقبلون ذلك على كل حال.

وعودة لما كنّا فيه، فإنَّ الشيخ المفيد (قده) لما جاء بعد الشيخ الصدوق (قده) قال: “وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد – رحمه الله – لم نجد لها دافعًا في التقصير، وهي ما حكي عنه أنه قال: أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (ص) والإمام (ع) فإن صحت هذه الحكاية عنه فهو مقصر، مع أنه من علماء القميين ومشيختهم”[4]، وهذا يعني أنَّ مسألة السهو من المتغير، حيث قال الصدوق فيها شيئًا، ثم قال فيها الشيخ المفيد شيئًا آخر، ولكنها الآن في زماننا قد أصبحت من الثابت، مما يعني أنَّ الثابت لو أرجعناه إلى جذوره لوجدنا من المتغير.

المثال الآخر: ثبوت مقام الشهادة للمعصومين (ع).

فحين يُسأل أي شيعي في زماننا: هل مات الأئمة (ع) شهداء – أي: خرجوا من الدنيا مسمومين أو مقتولين في سبيل الله – أم لا؟ فإنه يجيب بما اشتهر عنهم (ع): “ما منا إلا مسموم أو مقتول” [5]، حيث صار هذا الشيء من المسلّمات عند الشيعة.

ولكننا حين نرجع إلى جذور هذا الثابت نجده متغيرًا، حيث صرّح الشيخ الصدوق (رحمه الله) بأنَّ جميع المعصومين (ع) قد قُتلوا، فقال في كلامٍ له: (واعتقادنا في ذلك – أي: قتل المعصومين (ع) – أنه جرى عليهم على الحقيقة، وأنه ما شبه للناس أمرهم، كما يزعمه من يتجاوز الحد فيهم، بل شاهدوا قتلهم على الحقيقة والصحة، لا على الحسبان والخيلولة، ولا على الشك والشبهة. فمن زعم أنهم شبهوا، أو واحد منهم، فليس من ديننا على شيء، ونحن منه براء.

وقد أخبر النبي (ص) والأئمة (ع) أنهم مقتولون، فمن قال إنهم لم يقتلوا فقد كذبهم) [6].

ثم أتى الشيخ المفيد (قده) من بعده وقال: “فأما ما ذكره الشيخ أبو جعفر – رحمه الله – من مضي نبينا والأئمة (ع) بالسم والقتل، فمنه ما ثبت، ومنه ما لم يثبت، والمقطوع به أنَّ أمير المؤمنين والحسن والحسين (صلوت الله عليهم) خرجوا من الدنيا بالقتل، ولم يمت أحدهم حتف أنفه، وممن مضى بعدهم مسمومًا: موسى بن جعفر (ع)، ويقوى في النفس أمر الرضا (ع)، وإن كان فيه شك، فلا طريق إلى الحكم فيمن عداهم بأنهم سموا، أو اغتيلوا، أو قتلوا صبرًا، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف، وليس إلى تيقنه سبيل” [7]، ممّا يؤكّد أنَّ المعارف العقدية الثابتة إذا أرجعناها إلى جذورها وجدناها متغيرة.

وعليهِ فإذا كانت جميع المعارف العقدية متغيرةً تتعدد فيها الأنظار، فإنَّ النتيجة المترتبة على ذلك هي أنه لا يصح الحكم على أحد بالخروج عن المذهب إذا أنكر قضية من القضايا الثابتة، كما لو أنكر عصمة الأئمة (ع)، أو وجود الإمام المهدي (عج) مثلًا، فإنه كما أنَّ المعتقد بوجود الإمام المهدي (عج) شيعي الهوية، كذلك المنكر لوجوده محكومٌ بأنه شيعي أيضًا، وكما أنَّ المعتقد بعصمة الأئمة (ع) يُعدُّ من الشيعة، كذلك المنكر لعصمتهم (ع) أيضًا؛ لأنَّ جميع القضايا العقدية متغيرةٌ تقبل تعدّد الأنظار.

الجواب عن الشبهة:

وهذه الشبهة – التي تُطْرَح في الوسط الشيعي – بالغة الخطورة، ولذلك لا بُدَّ من الوقوف عندها وبيان فسادها وانحرافها، وحتى نبيّن زيفها نحتاج أن نركّز على أمرين:

الأمر الأول: ضرورة وجود ثوابت في المعارف العقدية.

إنَّ المعارف العقدية لا يمكن أن تكون كلها متغيرة، بل لا بُدَّ أن يكون فيها ثابتٌ لا يقبل التغير، والوجهُ في ذلك: أنَّ الله تعالى قد كلَّف الإنسان باتّباع دين معيّن وشريعة خاصة، فقال مثلًا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [8].

وبما أنَّ الدين عبارة عن منظومة متكاملة، فمن الواضح أنه لا يمكن تحققه ما لم تكن له أجزاء ثابتة لا تتغير؛ إذ حاله في هذه الجهة كحال أيّ مدرسة فكرية، وأيّ مذهب ديني، فإنهما لا يمكن تحققهما ما لم تكن لهما معالم ثابتة وخطوط فكرية عامة.

وزيادةً في إيضاح هذه الفكرة نقول: إنَّ المنظومة العقدية للدين بمثابة البيت، وهذا البيت العقائدي يتكوّن من شيئين: أساسٌ، وبناءٌ، وإذا لم يوجد الأساس لم يمكن أن يوجد البناء.

وعلى ضوء ذلك نقول: إنَّ المعارف العقدية تنقسم إلى قسمين:

  • معارف عقدية تأسيسية، وهي: التي تؤسّس للمنظومة العقدية.
  • ومعارف عقدية بنائية، وهي: التي تبنى على ذلك الأساس.

فمثلًا: عقيدة الإمامة عقيدة تأسيسية، بينما عقيدة علم الأئمة (ع) بالغيب عقيدة بنائية، بمعنى أننا إذا أثبتنا الإمامة لأهل البيت (ع) أمكن أن نثبت لهم علم الغيب، وأمّا إذا لم نثبت لهم الإمامة فلا يمكن إثبات مثل علم الغيب لهم، والعصمة، والولاية التكوينية ونحو ذلك، فإنَّ هذه كلها عقائد بنائية مبنية على أساس عقيدة الإمامة.

إذا عرفتَ ذلك، فمن الواضح أنَّ هذه العقائد التأسيسية لا يمكن أن تكون من المتغير؛ إذ لو كانت هي الأخرى متغيرةً لم تبقَ حينئذ للدين منظومة عقائدية أو فكرية، وما لم تبقَ منظومة عقدية لا يبقى دين ولا مذهب؛ إذ ما الذي يميّز المسلم عن غيره، والشيعي عن غيره، وغيرهما عنهما، إذ لم تكن هنالك خطوط عامة ومعارف ثابتة يمتاز بها كل دين ومذهب عن الآخر؟!

ويؤكّد ما ذكرناه: أننا حينما ندقق في آيات القرآن الكريم نجدها تركّز على أصول العقائد – كالتوحيد والنبوة والمعاد – تركيزًا بالغًا، ولكنّها لا تركّز على تفاصيل هذه الأصول إلا قليلًا؛ وسرُّ ذلك: أنَّ القرآن كان في مقام تأسيس القاعدة للبناء العقائدي، فكان يركز على الأصول حتى يتهيّأ للنبي وللأئمة (ع) أن يبنوا عليها.

وهنا توجد رواية جميلة جدًا تؤكد أيضًا فكرة الثوابت، ونصها: أنَّ السيد الجليل عبد العظيم الحسني (رض)([9]) قد دخل على الإمام الهادي (ع)، فقال له الإمام: مرحبًا بك يا أبا القاسم، فأنت ولينا حقًا. فقال له: يا بن رسول الله، إني أريد أن أعرض عليك ديني([10])، فإن كان مرضيًّا ثبتُّ عليه حتى ألقى الله عزّ وجل. فقال: هات يا أبا القاسم. فقال: إني أقول: إنَّ الله تعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج من الحدين: حد الإبطال، وحد التشبيه، وإنه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسم الأجسام، ومصور الصور، وخالق الأعراض والجواهر، ورب كل شيء ومالكه وخالقه، وجاعله ومحدثه، وإنَّ محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأنَّ شريعته خاتمة الشرائع، فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة.

وأقول: إنَّ الإمام والخليفة وولي الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم أنت يا مولاي.

فقال علي (ع): ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال: فقلت: وكيف ذاك، يا مولاي؟ قال: لأنه لا يرى شخصه، ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.

قال: فقلت: أقررت. وأقول: إنَّ وليهم ولي الله، وعدوهم عدو الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله.

وأقول: إنَّ المعراج حق، والمسألة في القبر حق، وإن الجنة حق، والنار حق، والصراط حق، والميزان حق، وإنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وإنَّ الله يبعث من في القبور.

وأقول: إنَّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال علي بن محمد (عليهما السلام)، يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) [11].

وكما رأيت، فإنَّ الإمام (ع) بعد أن عدّد السيد عبد العظيم أصول المعارف والشريعة، التفت إليه وقال له: (هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة)، ومن قوله: (فاثبت عليه) يظهر أنَّ هنالك ثوابت لا تقبل تعدّد النظر، ويجب التمسّك بها على الجميع.

الأمر الثاني: إمكان تحوّل المتغير إلى ثابت، واستحالة العكس.

وهذا الأمر مهمٌّ جدًا، وهو الذي يتوقف عليه علاج الشبهة المطروحة، وخلاصته قبل تفصيله: إنَّ المعرفة العقدية المتغيرة يمكن أن تتحول إلى معرفة عقدية ثابتة، ولكن المعرفة العقدية الثابتة لا يمكن أن تتحول إلى معرفة عقدية متغيرة، وهذا يعني أنَّ هنالك دعويَيْن لا بدُّ من إثباتهما:

الدعوى الأول: إنَّ المعرفة العقدية المتغيرة يمكن أن تترقى وتتطور، فتتحول إلى معرفة عقدية ثابتة.

ويمكننا أنْ نضربَ مسألة أفضلية الأئمة (ع) على الأنبياء (ع) مثالًا لذلك، فإنَّنا عندما نرجع إلى كلمات العلماء القدامى نجد قسمًا منهم كانوا يقولون بأفضلية الأئمة (ع)، بينما يوجد قسم كانوا يقولون بأفضلية الأنبياء (ع)، وكان هناك قسم ثالث يرى التفصيل بين أولي العزم وغيرهم، فكانوا يقولون بأنَّ الأئمة أفضل من جميع الأنبياء ما عدا أولي العزم (ع)، مما يعني أنَّ هذه العقيدة كانت من المتغير الذي يقبل تعدّد الآراء.

ولكنَّ نفس هذه العقيدة قد أصبحت من الثابت، حيث سئل شيخ المحققين الشيخ النائيني – أستاذ السيد الخوئي (قدهما) – عن ذلك، فأجاب: “أما أفضلية أئمتنا المعصومين (ع) من جميع الأنبياء السابقين (ع) عدا نبينا (ص) فالظاهر أنه من قطعيات مذهب الإمامية الاثنا عشرية، بل لا يبعد أن يكون في الأعصار المتأخرة من ضروريات المذهب” [12].

ومن جوابه (قده) قد ظهرَ أنَّ هذه المسألة التي كانت تقبل تعدد الآراء قد أصبحت في زماننا من الثابت، وهذا قد يثير تساؤلًا مفاده: أنَّ العقيدة المتغيرة كيف تصبح عقيدةً ثابتةً؟

وجواب هذا التساؤل هو: أنَّ العقيدة المتغيرة قد تصبح ثابتةً إذا زالت الموانع التي تمنع من ثبوتها، ويمكن إرجاع العوامل – التي تمنع من وصول العقيدة إلى مرحلة الثابت – إلى ثلاثة عوامل:

العامل الأول: ظروف المحنة والتقية التي كان يعيشها الأئمة (ع).

حيث لم يكن المجال مفتوحًا أمامهم ليتحدثوا عن أي عقيدة يريدون، بل كانوا يعيشون ظروف محنة وشدة، حتى كان بعض الجواسيس يجلسون معهم في مجالسهم، ويحصون عليهم كل صغيرة وكبيرة، فكان يحول ذلك دون بيانهم لبعض المعارف العقدية.

ولعلّ المتتبع للروايات الشريفة يدرك بعض ملامح تلك المحنة، فقد ورد في معتبرة سليمان بن خالد، قال: قال الإمام الصادق (ع): (يا سليمان إنكم على دينٍ مَن كتمه أعزّه الله، ومن أذاعه أذلّه الله)[13]، بل ورد عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال لعثمان بن عيسى: (يا عثمان، إن كان في يدك هذه شيء – أي: شيء من معارفنا – فإن استطعت أن لا تعلم عنه هذه فافعل)[14]، فأي تقية أعظم من هذه التقية؟!

العامل الثاني: عدم وجود المؤهل لحمل المعارف العقدية العالية.

مما لا خفاء فيه أنَّ المعارف المرتبطة بشؤون المعصومين (ع) وكمالاتهم ثقيلة وعالية جدًا، حتى ورد أنّها مما لا يحتمله إلا نبي أو وصي نبيٍ أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان.

ولعلّها هي المقصودة لأمير المؤمنين (ع) في قوله: (بل اندمجتُ على مكنون علم، لو بحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة)[15]، والمقصود بالطوي البعيدة: البئر العميقة جدًا، والأرشية هي الحبل الذي يوضع في البئر، وقد شبّه أمير المؤمنين (ع) حال الناس لو أطلعهم على مكنون علمه بحال الحبل في البئر العميقة، فكما أنَّ الحبل حينما يوضع في البئر العميقة لا يقف ولا يستقر، بل يضطرب اضطرابًا شديدًا يمينًا وشمالًا، كذلك الناس أيضًا لو اطّلعوا على مكنون العلم العلوي، وهذا ما تسبّب في كتمانه عن أكثرهم.

وهذه كانت من المحن التي واجهت الأئمة (ع)، ولذا فإننا عندما نحاول أن نقارن بين زماننا وزمان المعصومين (ع) تشكل علينا عملية المقارنة؛ إذ يُوجد في زماننا – بحمد الله – أفراد مؤهلون لقبول معارف الأئمة (ع) وحملها، بينما كان بعض الشيعة في زمن المعصومين لا يتحّمل المعارف العقدية المرتبطة بهم، فكان الأئمة ينتقون ويتخيّرون بعض شيعتهم لإلقاء المعارف إليهم.

ومن هنا ورد في الرواية عن الإمام زين العابدين (ع): (والله، لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله)[16]، فمع أنَّ أبا ذر كان صحابيًّا جليلًا يستسقى به الغمام، وقد قال عنه النبي (ص): (ما أظلّت الخضراءُ ولا أقلّت الغبراءُ على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)[17]، إلا أنّه لا يقاس بسلمان المحمدي؛ فإنَّ (سلمان منا أهل البيت)[18].

وروايةُ “أنَّ أبا ذر لو علم بما في قلب سلمان لقتله” تحتمل معنيين:

الأول: أنَّ علم سلمان المحمدي لو وُضِع في قلب أبي ذر لقتله؛ لأنَّه لا يتحمله، فيكون الضمير في (قتله) راجعًا للعلم.

الثاني: أنَّ أبا ذر سيقتل سلمانَ لو علم بما في قلبه؛ ولعلّ ذلك لأنَّه سيتهمه في دينه، وهذا هو ما عبّر عنه سلمان بقوله: ” قد أُوتيت العلم كثيرًا، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: مجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان” [19].

وعلى كلا المعنيين فإنَّ الرواية ظاهرة جدًا في أنَّ معارف أهل البيت (ع) لا يمكن الإفصاح عنها لكلّ أحد.

العامل الثالث: تعدّد المراكز العلمية للشيعة، وعدم التواصل بينها.

ففي ذلك الزمان كانت المراكز العلمية التي كان الشيعة يستقون منها متعدّدةً، إذ كانت الكوفة مركزًا، والمدينة مركزًا آخر، وبغداد مركزًا ثالثًا، والرّي مركزًا رابعًا، وقم المقدسة مركزًا خامسًا، وهكذا، ولم يكن بين هذه المراكز العلمية تواصلٌ دائم وبشكلٍ مفتوح، مما أوجب أن يكون لكل مركز من هذه المراكز خصائص تميّزه، وعلى إثر ذلك كان علماؤنا والرواة وأصحاب الأئمة (ع) يفرزون بعضهم البعض، ويقولون: هذا قمي، وذاك بغدادي، والثالث كوفي، وهكذا.

وقد كان تلامذة الأئمة (ع) يقصدونهم من هذه المراكز، فكان بعضهم يأتيهم من الرّي، والبعض الآخر يأتيهم من قم، والبعض الثالث يأتي من الكوفة، وهكذا، وكانت مجالس التعليم العامة للأئمة (ع) متاحة للجميع، ولكنَّ المعارف العقدية العالية لم تكن كذلك، بل كانت تدور مدار أهلية المتلقّي، فقد يأتي الكوفيّ ذو الأهلية فيتلقى منها بمقدار وعائه، ثم يأتي القمي الذي لا أهلية فلا يتلقى منها شيئًا، وحين يرجع كلٌ منهما إلى مركزه يبدأ بنشر ما تلقاه من الإمام (ع)، ومن هذا نشأ الاختلاف بين المراكز العلمية فيما يرتبط بالمعارف العالية، وصارت كل مدرسةٍ منها تتميّز عن الأخرى بخصوصيات ليست عند غيرها.

نتيجة هذه العوامل:

وكيف كان، فقد تسبّبت هذه العوامل الثلاثة في عدم وضوح العقيدة الشيعية آنذاك بشكلٍ تام، وعدم تبلور الثوابت منها عن المتغيرات، فنتج عن ذلك نتيجةٌ مأساويةٌ، وهي أنَّ المعارف العقدية لم تصل إلى جميع الشيعة بنحو واضح، إلى درجة أنَّ الإمام الجواد (ع) كان جالسًا على نهر دجلة، ومعه أحد شيعته، فقال هذا الشيعي: (إنَّ شيعتك تدعي أنك تعلم كل ماء في دجلة ووزنه؟ فقال (ع): يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قال: نعم، يقدر، فقال: أنا أكرم على الله تعالى من بعوضة ومن أكثر خلقه)[20].

ولك أن تقيس بين هذا المستوى من المعرفة عند هذا الشيعي، وهو يحظى بصحبة الإمام (ع)، وبين مستوى المعرفة عند عامة الشيعة في زماننا، فإنك الآن لو سألت أصغر شيعي: هل يعلم الإمام (ع) أو لا يعلم؟ لأجابك بضرس قاطع: يعلم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة.

وأين هذا المستوى المعرفي الشامخ مما كان عليه ذلك الرجل، ومما ينقله الشيخ المفيد (رحمه الله) عن القميين آنذاك، حيث يقول: (وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصّرون تقصيرًا ظاهرًا في الدين، وينزّلون الأئمة (ع) عن مراتبهم، ويزعمون أنهم كانوا لا يعرفون كثيرًا من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم، ورأينا من يقول إنهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدّعون مع ذلك أنهم من العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه)[21]، أي: كما أنَّ أبا حنيفة كان يحتاج إلى الظنون، كذلك أيضًا هو حال الإمام (ع) بنظر بعض القميين آنذاك.

والحاصل: فإنه نتيجة لتلك العوامل الثلاثة أصبحت المعارف العقائدية غير واضحة بهذا المستوى من الوضوح الموجود في زماننا، ولذا كانت بعض العقائد من المتغيرات بالنسبة إليهم؛ لأنَّ الأدلة لم تصل إليهم كما وصلت للأجيال اللاحقة، فإنه بعد ذلك قد ارتفعت الموانع الثلاثة، حيث انتهى زمن التقية، وانفتحت المراكز العلمية على بعضها البعض، واطّلعت كل مدرسة على ما عند المدرسة الأخرى من المعارف، فما كان من المعارف العقدية غير واضح أصبح واضحًا، وما كان متغيرًا أصبح ثابتًا.

مما يعني: أنَّ المعارف المتغيرة يمكن أن تتحول إلى معارف ثابتة، فيما لو زالت الموانع، واطّلع الشيعة على الأدلة بعد أن كانت محبوسةً عنهم، وهكذا أصبح ما كان عندهم متغيرًا تختلف فيه الآراء ثابتًا واضحًا لا مرية فيه في زماننا هذا.

ب/ الدعوى الثانية: إنَّ المعرفة الثابتة لا تتحول إلى معرفة متغيرة.

ومحصّل هذه الدعوى: أنَّ المعرفة الثابتة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، بحيث تتحوّل بالاجتهاد فيها إلى معرفة متغيرة، والسرُّ في ذلك: أنَّ تعدد الآراء والاجتهاد في المعرفة العقدية إنَّما يكون في ظرف الجهل بالواقع، وأما في ظرف الوصول إلى الواقع فلا يبقى مجالٌ للاجتهاد، ولذلك نقول بأنَّ المعارف الثابتة ليست مسرحًا للاجتهاد ما دام الواقع فيها – بعد كونها ثابتةً بحسب الفرض – معلومًا.

ولتقريب الفكرة نضرب مثالًا، فنقول: في مسألة حكم تقليد الميّت توجد هنالك ثلاثة آراء: رأي لا يجوّز تقليد الميت مطلقًا، ورأي يجوّزه مطلقًا، ورأي يفصّل بين التقليد الابتدائي والتقليد الاستمراري، وهذا يعني أنَّ هذه المسألة من الفقه المتغير الذي يقبل تعدّد الأنظار، بينما مثل مسألة وجوب الصلاة والصيام والحج ليست كذلك؛ إذ وجوب العبادات المذكورة من الثابت لا المتغير.

وإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن أن يأتي فقيهٌ ويقول: إنَّ الحج ليس واجبًا، والصلاة ليست واجبة، بحجة أنه اجتهد فتوصل إلى عدم وجوبهما؟! من الواضح أن ذلك غير ممكن؛ لأنَّ الثابت في الفقه لا يقبل الاجتهاد ولا التقليد، وسرُّ ذلك كون الواقع فيه معلومًا، ولذا فإنه لا يوجد تقليد في مسألة وجوب الصلاة مثلًا؛ لأنَّ التقليد عبارة عن متابعة الجاهل للعالم، والمكلّف بالنسبة لوجوب الصلاة ليس جاهلًا، بل هو عالمٌ بوجوبها كالمرجع، فلا مجال له للتقليد في ذلك.

وكذلك الحال في الاجتهاد أيضًا؛ لأنَّ الاجتهاد عبارة عن بذل الجهد من أجل الوصول إلى الواقع المجهول، كما لو كان الفقيه لا يدري هل يجوز تقليد الميت أم لا يجوز؟ فيبذل جهده في الأدلة، ويفحص ويناقش من أجل أن يتوصل إلى واقع المسألة المجهول، بينما وجوب الصلاة واقع معلوم بحسب الفرض، فلا يصح بذل الجهد من أجل الوصول إليه؛ إذ لازمه تحصيل الحاصل، مما يعني أنَّ الثوابت الفقهية لا اجتهاد ولا تقليد فيها.

وهذا لا يختصّ بالفقه فقط، بل جميع الثوابت في سائر العلوم هكذا، فلو قال مثلًا أحد علماء الفلك الكبار: أنا أفكر في أنْ أجتهد لأرى هل الشمس موجودة فعلًا أم لا! لاتهم بالجنون ونقص العقل؛ لوضوح أنَّ الاجتهاد والبحث ليس الغرض منه إلا الوصول إلى الواقع، فإذا كان الواقع معلومًا – كما هو الفرض – فلا مجال للاجتهاد.

وقياسًا على ذلك نقول: إنَّ الواقع في المعرفة العقدية المتغيرة ليس معلومًا، ولذا فمن الممكن الاجتهاد فيها وتعدد النظر، بخلاف المعرفة العقدية الثابتة فإنَّ الواقع فيها معلوم، فلا مجال للاجتهاد وتعدّد النظر فيها، ولازمُ هذا – كما هو واضح – أنَّ المعارف العقدية الثابتة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء وتصبح عقائد متغيرة.

وبعد كل ما ذكرناه نرجع إلى أصل الشبهة المطروحة – والتي يزعم أصحابها أنه لا توجد لدينا معرفة عقدية ثابتة؛ لأنَّنا متى ما رجعنا إلى الجذور وجدناها معارف متغيرة – فنقول: إنَّ كون جذور المعارف متغيرة لا يوجب أن تعود المعارف الثابتة – بعد ثبوتها بسبب وضوح الأدلة – معارف متغيرةً، بل من المستحيل إرجاع المعارف الثابتة – بعد وصولها إلى مرحلة الثبوت – بالاجتهاد فيها إلى معارف متغيرة؛ لأنَّ الواقع المجهول قد وصلنا إليه بحسب الفرض، وما دمنا قد وصلنا إليه فقد انتهى البحث.

ولا بأس هنا أن يُشار إلى أنَّ ما يتشدّق به البعض – من اختلاف الشيخ المفيد مع الشيخ الصدوق (قدهما) في بعض العقائد المعدودة عندنا الآن من الثوابت، لإثبات أنَّ جميع المعارف متغيرة وقابلة لتعدد الاجتهادات – لا يجدي نفعًا؛ لأنه يرجع إلى ما ذكرناه من أنَّ منظومة المعارف لم تكن في ذلك الزمان بهذه المثابة من الوضوح، وأما الآن فقد اتضحت معارف أهل البيت (ع) بما لم تتضح في ذلك الزمان، وعليه فلا مجال للاجتهاد فيما وصل منها – بسبب وضوح الأدلة وغير ذلك من العوامل الدخيلة – إلى مرحلة الثبوت.


الهوامش:

[1] سورة إبراهيم: الآية 27.

[2] من لا يحضره الفقيه: 1 / 360.

[3] قال (قده) – في (من لا يحضره الفقيه) 1 / 360 – ما هذا نصه: (وليس سهو النبي صلى الله عليه وآله كسهونا؛ لأنَّ سهوه من الله عز وجل، وإنما أسهاه ليُعلم أنه بشر مخلوق فلا يُتخذ ربًا معبودًا دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة صلوات الله عليهم سلطان ” إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ” وعلى من تبعه من الغاوين).

[4] تصحيح اعتقادات الإمامية: 135.

[5] بحار الأنوار: 27 / 217.

[6] الاعتقادات في دين الإمامية: 99.

[7] تصحيح اعتقادات الإمامية: 131.

[8] سورة آل عمران، الآية: 85.

[9] هو أحد علماء وفقهاء مدرسة أهل البيت (ع)، وهو المعروف بالشاه عبد العظيم الحسني، المدفون في الرّي بطهران، والذي وردت الرواية في حقه عن الإمام الهادي (ع): “أما إنك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين بن علي (ع)”. وسائل الشيعة: 14 / 575

[10] وفي هذا لفتة تربوية دينية مهمة لعموم الشيعة، فإنَّ هذا رغم كونه عالمًا فقيهًا إلا أنه مع ذلك قد قصد الإمام (ع) ليعرض عليه دينه، بينما لا يكاد أحد يفكّر في أن يعرض دينه على عالم من العلماء ليتأكد من سلامته من الأخطاء والشبهات، مع أنَّ الزمن زمن فتن عقائدية ودينية.

[11] الأمالي، للشيخ الصدوق (قده): 419.

[12] الفتاوى: 3 / 556.

[13] الكافي: 2 / 222.

[14] الكافي: 2 / 225.

[15] نهج البلاغة: 1 / 41.

[16] الكافي: 1 / 401.

[17] علل الشرائع: 1 / 177.

[18] عيون أخبار الرضا ع: 2 / 70.

[19] بحار الأنوار: 22 / 387.

[20] بحار الأنوار: 50 / 100.

[21] تصحيح اعتقادات الإمامية: 135.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1434

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *