سجال الشعائر الحسينية ظاهرة غير مبرّرة

تاريخ المحاضرة: 02/01/1438

نقاط البحث:

  1. بيان خطورة ظاهرة السجال
    • إضعاف التلاحم الشيعيّ
    • توهين الشعائر الحسينيّة
  2. نقد مبرّرات هذه الظاهرة
    • النهي عن المنكر
    • إرشاد الجاهل
    • تنبيه الغافل
    • الإلزام بحكم الحاكم الشرعيّ

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

 

اليوتيوب:

حسينية الزين بالقديح

حسينية عمارة بالربيعية

حسينية بن جمعة بالكويكب


مواضيع ذات صلة:


نص المحاضرة

من جملة الظواهر المؤسفة التي يشهدها العالم الشيعي في كلّ عام: ظاهرة السجال والنزاع حول بعض مظاهر الحزن الحسيني، حيث ينقسم الشيعة في موسم عاشوراء من كلّ عام إلى فريقين: فريق مؤيّد وفريق معارِض، ويتسبّب ذلك في إيجاد حالة من الاحتقان والصراع باسم الحسين (عليه السلام) حول بعض مظاهر حزنه، وقد تستمر هذه الظاهرة المتجدّدة إلى ما بعد شهر محرّم الحرام من كلّ عام.

ولنا مع هذه الظاهرة المقلقة ثلاث وقفات:

الوقفة الأولى: أسباب ظاهرة السجال الشعائري.

ويمكن إرجاعها إلى سببين:

السبب الأول: اختلاف الرؤية الفقهية.

حيث يوجد اختلاف بين المراجع العظام حول شعيرية بعض مظاهر الحزن، ونتيجة ذلك ينقسم المقلِّدون إلى قسمين: قسم يؤيِّد بعض مظاهر الحزن ويعتبرها من الشعائر، وقسم يعارض تلك المظاهر ويحاربها ويعتبرها من غير الشعائر.

ولكنّ هذا السبب لا ينبغي أن يكون سببًا للنزاع؛ لأنَّ المؤمنين يختلفون في كثير من المسائل الفقهية نتيجة اختلاف فتاوى مراجعهم فيها، ومع ذلك نرى كلّ واحد منهم يعمل بفتوى مرجعه في ظلّ حالة من الوداد والتفاهم والتلاحم، من غير أن يتسبّب ذلك في أيّ نزاع وسجال، وبالتالي فالاختلاف الفتوائي في بعض مظاهر الحزن الحسيني لا ينبغي تحويله إلى حالة خلاف وصراع بين محاربين ومؤيّدين.

السبب الثاني: ظاهرة اختراق الشعائر الحسينية.

حيث بدأنا في السنوات الأخيرة من خلال وسائل التواصل والإعلام نفتح أعيننا على ظاهرة مقلقة جدًا في عالم الشعائر الحسينيّة، وهي ظاهرة تحريف بعض الشعائر والدسّ فيها.

فنرى مثلًا موكبًا عزائيًا يضجّ بالموسيقى الصاخبة، مع أنها موسيقى محرّمة باتفاق الفقهاء.

أو نرى مقطعًا عزائيًا يشتمل على رقص جماعة من الرجال، مع أنَّ الرقص من المحرّمات قطعًا.

وهكذا يتمّ تحريف الشعائر من داخلها لتشويه صورتها، وهذه الظاهرة الخطيرة قد فتحت أيضًا باب السجال حول الشعائر.

الوقفة الثانية: خطورة ظاهرة السجال الشعائري.

وسنسلّط الضوء هنا على أثرين سلبيين لهذه الظاهرة الخطيرة:

الأثر الأول: إضعاف التلاحم الشيعي.

عندما تحارب كل جماعة الجماعة الأخرى على مظاهر حزن معينة، فإنَّ هذا الاحتراب يؤدّي إلى نشوء روح التنافر والتباغض، بحيث تبغض كلّ فرقة الفرقة الأخرى وتنفر منها، وهكذا تضعف روح التلاحم الشيعي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إليها.

فالورقة الأساسيّة -في هذه المرحلة الحرجة التي نعيشها- التي تلعب عليها القوى الكبرى في داخل المجتمع الشيعي هي ورقة الصراع الشيعي/الشيعي، بمعنى أنَّ القوى الكبرى تحاول تمزيق الواقع الشيعي من خلال اختلاق صراعات داخلية بين الأطياف الشيعية أنفسها.

وبالتالي، ينبغي لنا أن نعي خطورة المرحلة، وأن نلتفت إلى هذه الورقة التي يراهن عليها من يريد العبث بالمذهب الشيعي، ومقتضى ذلك الالتفات إلى خطورة ظاهرة السجال والاحتراب حول الشعائر الحسينيّة، التي لها – كما هو واضح – أثرٌ بالغٌ جدًا في ذيوع روح التنافر والتباغض بين أفراد المجتمع الشيعي[1].

الأثر الثاني: توهين الشعائر الحسينية المباركة.

لا يخفى أنَّ الشعائر الحسينية المباركة قوّةٌ لا تضاهى ولا ينبغي التفريط فيها، وقد صرّح بذلك – كما مرّ عليك – بعض المستشرقين الذين درسوا العالم الشيعي، وسرّ هذه القوّة هو ما يترتّب على هذه الشعائر من آثار مهمّة لا تترتّب على غيرها، وسنذكر منها ثلاثة:

الأثر الأول: الأثر الإعلامي.

فالشعائر الحسينية بعرضها العريض لها أثر مهمّ جدًا في إلفات الأنظار لقضية الحسين (عليه السلام)، ويكفيك شاهدًا على ذلك زيارة الأربعين الملايينيّة، فإنَّ هذه الشعيرة لو سُلِّطَت عليها الأضواء تسليطًا يليق بها كحدث عالمي لألفتت نظر العالم كلّه إلى مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ولكننا نرى القنوات الفضائية تحاول التعتيم على هذا الزحف الملاييني، وأن تجتنب تغطيته؛ لأنّها لو غطّته لخدمت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) خدمة كبيرة بإلفات الأنظار إلى قضية الحسين (عليه السلام).

الأثر الثاني: الأثر التعبوي.

فالشعائر الحسينية تمارس دور تعبئة النفوس وتغذيتها بمنظومة قيمية رائعة، ولذلك فإنَّنا عندما نضع يدنا على الشباب الحسينيين الذين يحضرون المآتم ومواكب العزاء نجد عندهم منظومة قيمية لا توجد عند غيرهم، فنراهم يتمتّعون بالعزّة والإباء والتضحية.

ومن هنا ليس مستغربًا أن نراهم يضحّون بأنفسهم في سبيل الحفاظ على المآتم وأماكن العبادة؛ إذ شعار (هيهات منّا الذلّة) الذي يتردّد في المآتم والمواكب الحسينيّة يضخّ في النفوس منظومة قيمية رائعة لا نظير لها عند غير الحسينيين.

الأثر الثالث: الأثر الإيماني.

فهذه الشعائر توقد فجأة – من غير مقدّمات – جذوةً منطفئةً طوال سنة كاملة، حيث نجد في المجتمع شريحة من الشباب غير المتديّن، والذي لا يعرف مسجدًا ولا حسينيّة طوال لسنة، بل بعضهم قد لا يصلّي طوال السنة، ولكن بمجرد أن يأتي شهر عاشوراء تتحوّل هذه الشريحة إلى كتلة من النشاط المتوهّج في سبيل خدمة الحسين (عليه السلام)، فتجد هذه الشريحة تملأ المواكب والمضائف والمآتم الحسينيّة، وهكذا يتغيّر واقعهم وينقلب رأسًا على عقب ببركة الشعائر الحسينيّة المباركة.

فتبيّن ممّا ذكرناه: أنَّ الشعائر الحسينية لها آثار مهمّة جدًا، تجعل منها قوّةً لا نظير لها، ولكن عندما نفتعل صراعًا واحترابًا ونزاعًا في كلّ عام باسم الحسين (عليه السلام) حول بعض مظاهر الحزن، بحيث يحصل التباغض والتنافر – وربّما التفسيق والتكفير – بين المؤمنين بسبب هذا الاحتراب، فإنَّ نتيجة ذلك تنصبّ في توهين الشعائر الحسينيّة وإضعاف فاعليّتها وتأثيرها في النفوس، ووهنُ الشعائر له مردودٌ سلبيٌّ بالغ الخطورة[2]، ولذلك فإنَّ ظاهرة السجال حول الشعائر الحسينية ظاهرةٌ خطيرةٌ ينبغي وأدها والقضاء عليها.

الوقفة الثالثة: نقد مبرّرات ظاهرة السجال الشعائري.

ممّا لا خفاء فيه: أنَّ إحدى الشرائح المجتمعيّة التي تحمل راية السجال حول الشعائر الحسينيّة في كلّ عام هي الشريحة المتديّنة، ومن هنا فإنَّنا نقول لهؤلاء الذين يشاركون في إثارة الزوبعة: إنَّ عملكم كمتديّنين ينبغي أن يكون على طبق مسوِّغ شرعي، فما هو المبرّر الذي يجعلكم تبذلون كلّ هذه الجهود السنويّة في السجال والاحتراب؟

وجوابهم عن هذا التساؤل المهمّ يكون بأحد مبرّرات أربعة، وسوف نقف عندها واحدًا تلو الآخر حتى يتبيّن أنَّ هذه الظاهرة لا يوجد لها غطاء شرعي.

المبرّر الأول: النهي عن المنكر.

حيث يقولون: إنّنا إنّما نقف ضد الجماعة الأخرى لأنّنا نعتقد بأنَّ ما يفعلونه منكرٌ من المنكرات، فنواجههم من باب النهي عن المنكر.

ومن الواضح أنَّ هذا المبرِّر لا يصلح شرعًا للتبرير؛ إذ عملية النهي عن المنكر مشروطة بشروط، وأحدها: أن يكون المنكر منجّزًا في حقّ فاعله، وأمّا لو كان معذورًا لاشتباهٍ في الموضوع أو في الحكم اجتهادًا أو تقليدًا فلا يصح نهيه عن المنكر.

فمثلًا: لنفرض أنّك تقلّد مرجعًا يرى أنَّ استماع الموسيقى حرام مطلقًا، بينما أقلّد أنا مرجعًا آخر يرى أنَّ استماع الموسيقى التصويرية مثلًا لا حرمة فيه، فحينئذٍ لا يجوز لك استماع الموسيقى التصويرية، بل هي منكر بالنسبة إليك، بينما أنا يجوز لي استماعها، ولا يصحّ لك أن تنهاني عنها من باب النهي عن المنكر؛ لأنني لم أفعل منكرًا، وإن كان نفس الفعل في حقّك منكرًا.

وهكذا الحال في مسألة الصراع الشعائري، فإنّك قد تختلف مع جماعة معينة حول مظهر من مظاهر الحزن، وذلك لأنَّ مرجعك يعتبره منكرًا، ولكن تلك الجماعة تقلِّد مرجعًا آخر يرى استحباب ذلك المظهر، وبالتالي لا يصحّ لك أن تنهاهم عن القيام به بعنوان النهي عن المنكر، فإنّه معروف في حقّهم، ولو نهيتهم عنه لكنت قد نهيتهم عن معروف لا عن منكر، والنهي عن المعروف من المحرّمات.

المبرِّر الثاني: إرشاد الجاهل.

إذ من جملة القواعد الفقهية: وجوب إرشاد الجاهل، كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ[3]، فالذي يتفقّه يجب عليه تعليم غيره وإرشاده وتحذيره وإنذاره.

وهذا العنوان أعمّ من سابقه، فإنَّ النهي عن المنكر إنّما يكون في موارد ما لو كان فعل الإنسان منكرًا، بينما إرشاد الجاهل يصحّ حتى لو لم يكن فعله منكرًا، كمن لا يعلم بأنَّ التشهّد واجبٌ في الصلاة مثلًا، فإنّه إذا صلّى من غير تشهّد جاهلًا بالحكم لا يكون فعله منكرًا، ولكن مع ذلك يجب تعليمه لا من باب النهي عن المنكر، بل من باب وجوب إرشاد الجاهل.

ومن هنا قد يقال: إنَّنا نخوض معركة الصراع حول بعض مظاهر الحزن الحسيني من باب إرشاد الجاهل، لا من باب النهي عن المنكر حتى يقال لنا: إنَّ هؤلاء لا يفعلون منكرًا!

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا المبرر لا يصحّ؛ لأنَّ من يختلف معك في مظهر من مظاهر الحزن بسبب الاختلاف الفقهي عند المراجع لا يجهل الحكم، بل هو يعلم بفتوى مرجعه ويعمل على طبقها، فهو ليس جاهلًا بالحكم، بل هو عالم به، وإرشاد الجاهل لا يكون للعالم، وإنما يكون للجاهل، فلا يصلح هذا العنوان للتبرير أيضًا.

المبرِّر الثالث: تنبيه الغافل.

وهذا العنوان لا يختلف عن سابقه بنظر بعض الفقهاء، ولكنّ فقهاء آخرين يفرّقون بينهما من جهة أنَّ إرشاد الجاهل يكون في موارد الجهل بالحكم، بينما تنبيه الغافل يكون في موارد الجهل بالموضوع.

فمثلًا: قد يعلم الإنسان بأنَّ القاتل يجب قتله والاقتصاص منه، ولكنّه لا يعلم أنَّ القاتل في القضيّة المعيّنة هو زيد، بل يظنّه عَمْرًا، فهو يعرف الحكم ولكنّه يجهل الموضوع، وحينئذٍ يجب عليَّ – بما أنَّني أعرف هوية القاتل الحقيقي – تصحيح المعلومة، فإنَّ الموضوع المذكور من المهمّات، ولو لم أنبّه القاضي الغافل لوقع القتل على شخص بريء، فهذا من باب تنبيه الغافل لا إرشاد الجاهل.

ولذلك قد يقال: إنَّنا نخوض معركة الصراع حول بعض مظاهر الحزن من باب تنبيه الغافل لوجود جهلٍ بالموضوع، إذ يوجد حكم واضح في الشريعة يعرفه الجميع، وهو حرمة الإتيان بما يوهن المذهب، ولكن هؤلاء يجهلون الموضوع، إذ يقومون بعملٍ لا يعلمون بأنه يتسبّب في توهين المذهب، وبالتالي فنحن إنَّما نقوم بمواجهتهم من باب تنبيه الغافل، لا من باب إرشاد الجاهل.

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا المبرّر أيضًا لا يصحّ؛ لأنَّ الذين يختلفون معنا في بعض مظاهر الحزن لا يجهلون الموضوع، وإنما يختلفون معنا في تشخيصه، فنحن نشخّص بأنَّ هذا يوهّن المذهب، بينما هم يشخّصون بأنّه يقوّي المذهب، وعند الاختلاف في التشخيص لا يصحّ لي فرض تشخيصي على الآخرين، كما لا يصحّ لهم أن يفرضوا تشخيصهم عليَّ، بل كلّ واحدٍ يعمل على طبق تشخيصه، ولا يصحّ لي أن أواجههم حينئذٍ بعنوان تنبيه الغافل.

فإن قيل: إنَّ كلّ شخصٍ يحقّ له الحديث عن بعض الممارسات التي يراها منفِّرةً من المذهب ببيان عام -من خلال وسائل التواصل- دون توجيه الكلام لأشخاص معينين، فلا يكون ذلك من باب إرشاد الجاهل ولا تنبيه الغافل، وإنّما هو تشخيصٌ لموضوع خارجيّ أداءً للمسؤولية الشرعية في وجوب صيانة المذهب من التشويه.

قلنا: لا شكَّ في أنَّ تشخيص الموضوعات العرفية حقٌّ لكلّ أحد، غير أن تشخيص كل شخص إنما هو حجّةٌ عليه ليس إلا، فنشره للآخرين عبر بيان عام يتضمّن بالضرورة رسالةً مبطنةً، فالسؤال حينئذ: ما هي هذه الرسالة؟

فإن قال: هي مجرد بيانٍ للتشخيص الشخصي من غير فرضه على الآخرين، فهو عمل غير عقلائي؛ لأن الآخرين لا علاقة لهم بالتشخيص الشخصي، ولا يصح لهم ترتيب الأثر عليه.

وإن قال: إنَّ الرسالة هي تخطئة تشخيص الآخرين، فلا يخلو ذلك إما أن يكون من باب النهي أو الإرشاد أو التنبيه، فرجع الكلام إلى المربّع الأوّل.

المبرِّر الرابع: الإلزام بحكم الحاكم الشرعي.

وحتى يتّضح هذا المبرّر لا بدَّ من الالتفات إلى أمرين:

أوّلًا: إنَّ ما يصدر من الحاكم الشرعي – أي: الفقيه المجتهد – تارةً يكون فتوى وأخرى يكون حكمًا، فالفتوى هي الإخبار عن حكم كلّي، كأن يقول المرجع: يستحبّ في الصلاة الأذان والإقامة، فهنا المرجع ليس بصدد تأسيس حكم، وإنما يخبر عن حكم كلّيّ في الشريعة لا يختص بزمان دون آخر ولا بمجتمع دون آخر.

وأما الحكم فهو إنشاء وليس إخبارًا، إذ هو إنشاء حكم جزئي في واقعة معينة وفي زمان معيّن لمصلحة من المصالح التي تعود على المجتمع الإسلامي أو الشيعي، من قبيل حكم المجدّد الشيرازيّ (قدس سره) بحرمة بيع التنباك، فإنَّه في هذا الحكم لا يخبر عن أنّ حكم بيع الدخان في الشريعة هو الحرمة، بل هو بصدد إنشاء حكم مؤقّت في زمان معين بمقتضى الولاية التي له بما هو حاكمٌ شرعيٌّ.

ثانيًا: إنَّ فتوى المرجع لا تنفذ إلّا في حقّ مقلّديه، بينما الحكم لا ينفذ في حقّ مقلّديه ومقلّدي غيره فحسب، بل ينفذ حتى في حقّ غيره من المجتهدين، ولذلك فالمجدّد الشيرازيّ (قدس سره) عندما حكم بحرمة بيع التنباك فقد نفذ هذا الحكم حتى على المجتهدين والمراجع في زمانه.

ومن هنا قد يقال: لقد حكم مرجعنا بحرمة بعض مظاهر الحزن، ونحن عندما نواجه الآخرين فإننا نريد أن نلزمهم بحكم الحاكم الشرعي؛ لأنَّ حكمه نافذٌ حتى في حقّ غيره من المجتهدين فضلًا عن مقلّديهم.

ولكنّنا نقول: إنَّ هذا أيضًا لا يصلح للتبرير؛ وذلك من جهتين:

أوّلًا: إنَّ حكم الحاكم إنما ينفذ في حقّ الآخرين إذا كانوا يقولون بنفوذ حكم الحاكم اجتهادًا أو تقليدًا، والحال أنَّ مسألة نفوذ حكم الحاكم في حقّ غيره ليست مسألة اتفاقية بين الفقهاء، بل هي مسألة خلافية[4]، فإذا كنت أنا أقلّد من لا يرى نفوذ حكم الحاكم في حقّ غيره، فلا يصحّ لك حينئذٍ إلزامي بحكم مرجعك بحجّة الإلزام بحكم الحاكم الشرعي، بل هذه الورقة تسقط من يدك أيضًا.

ثانيًا: إنَّ حكم الحاكم لا يكون نافذًا في حقّ غيره إلا إذا لم ينقضه حاكمٌ آخر، وأما لو نقض حاكم آخر حكم الحاكم الأول واعتبره مشتبهًا فيه، فحينئذٍ لا يكون حكمه نافذًا، فإذا كان هؤلاء يقلّدون مرجعًا ينقض حكم الحاكم الذي أنا أقلّده، فإنّني لا أستطيع أن ألزمهم بمسألة حكم الحاكم.

نتيجة البحث:

ومن مجموع ما ذكرناه يتضّح أنّ حالة الصراع والسجال حول بعض مظاهر الحزن الحسيني ليس لها غطاء شرعي أصلًا، وبالتالي فإنَّنا نحتاج أن نصل إلى مرحلة من الوعي، بحيث يعمل كل واحدٍ منّا برأي مرجعه من غير أيّ صراع أو نزاع، إذ لا معنى للصراع باسم الحسين (عليه السلام)، بل ينبغي أن نتعاضد جميعًا للتخلّص من هذه الظاهرة المقيتة التي لا مبرّر لها.

والقضية المهمّة هنا هي أنَّ الشعائر الحسينية المباركة ينبغي أن تكون تحت نظر المرجعية الدينيّة، فإنَّنا في هذه الفترة في أمسّ الحاجة للرجوع إلى المراجع العظام فيما يرتبط بالشعائر الحسينية؛ وذلك – كما بيّنا في الوقفة الأولى – لوجود محاولات اختراق للشعائر، ولا يمكن ضبطها إلّا بالرجوع إلى الفقهاء، إذ عندما يعمل كلّ شخصٍ على طبق فتوى مرجعه فحينئذٍ لا يستطيع أحدٌ أن يستحدث شيئًا بعنوان شعيرة حسينية والحال أنه على خلاف الموازين الشرعية، وعندما تكون الشعائر تحت مظلة المرجعية نستطيع أن نوصد الباب أمام المتربّصين الذين يريدون توهين الشعائر والحطّ من فاعليتها، خصوصًا في هذه المرحلة الخطيرة التي تعدّدت فيها مظاهر الاختراق وتكثّرت وتوسّعت.


الهوامش:

[1] من الجدير هنا: تسجيل الكلمة التي كتبها المرجع المجاهد، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (قدس سره) في [الآيات البيّنات: ص14] سنة 1345هـ، أي قبل قرابة مئة سنة، على إثر بعض الخلافات الشيعية/الشيعية حول الشعائر؛ إذ ما أحوجنا إليها الآن، حيث جاء فيها: «وطلبتي من كافّة إخواننا المؤمنين… رفض الخلافات والمشاجرات التي لا تعود إلا بالضرر المبيد والضعف المهلك علينا معاشر المؤمنين.

إنّما اللازم المحتّم علينا سيّما في مثل هذه الأعصار أن نكون يدًا واحدة أمام العدوّ الذي لا يزال يجدّ ويدأب في هدم بيوتٍ أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه، ولعمر الله والحقّ لئن استمرّ هذا الحال من تخاذلنا وتضارب بعضنا ببعض وتكالب الأعداء علينا من كلّ حدب وصوب، لنذهبن ذهاب أمس الدابر، ولا يبقى لهذه الطائفة أثر ولا عين، فالله الله يا عباد الله الصالحين في جمع الكلمة، ولمّ الشعث، وتدارك الخطر قبل فواته، ورتق الفتق قبل اتّساعه، ونبذ تلك المشاجرات المفرّقة والمؤجّجة لنيران العداوة المحرقة على غير طائل.

كونوا يا عبد الله إخوانًا في دين الله، رحماء بينكم، أشدّاء على أعدائكم، ولا تعكسوا الآية…».

[2] للمرجع الدينيّ الكبير الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله) كلمةٌ بالغة الأهمّية، قال فيها: «فالواجب الشرعي أن تحفَظ الشعائر الحسينيّة بكلّ قوّة وحسم، وأن تكون في كلّ سنة أفضل من التي قبلها.

نعم، المسألة بهذا المستوى وأقوى، لماذا؟ لأنَّ أساس عاشوراء إذا صار واهنًا توجّه الخطر إلى الدين كلّه، فإنَّ بقاء الدين بعاشوراء، وبقاء توحيد الله مرتبطٌ بيوم عاشوراء» [الحق المبين: ص325].

[3] سورة التوبة: 122.

[4] راجع المسألة (57) من باب (الاجتهاد والتقليد) من العروة الوثقى.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1438

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *