أسئلة حول رأي العلامة الطباطبائي في نبوة الخضر

السؤال الأوّل

هل يستقيم القول بأنَّ الرحمة في قوله تعالى : ( آتيناه رحمةً من عندنا ) رحمة باطنية ، وليست ظاهرية ؛ لقوله : ( من عندنا ) وأنها النبوة ؛ لإضافتها لضمير الجمع (نا) ، ولو قال : ” عندي ” لكانت الولاية ، مع أنَّ هناك آية تقول : ( آتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا ) والأهل والأولاد نعمة ظاهرة ، ولا علاقة لها بالنبوة ولا الولاية ، وكذا قال فتية الكهف : ( ربنا آتنا من لدنك رحمة ) وما طلبوا أن يكونوا أنبياء ؟

 

بسمِ اللهِ الرحمن الرحيم

قال سيدنا العلامة ( طيّبَ اللهُ ثراه ) في ميزانهِ الشريف :

” قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا ” إلخ . كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الأسباب الكونية وتعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها ، ومنها ما لا يتوسط فيه شئ منها كالنعم الباطنية من النبوة والولاية بشعبها ومقاماتها ، وتقييد الرحمة بقوله : ” من عندنا ” الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثاني أعني النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال : ” فالله هو الولي ” الشورى : 9 ، وكون النبوة مما للملائكة الكرام فيه عمل كالوحي ونحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله : ” رحمه من عندنا ” حيث جيئ بنون العظمة ولم يقل : من عندي هو النبوة دون الولاية وبهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة ، والله أعلم ” .

وأقول : إنَّ كلامه ( أعلى اللهُ مقامه ) ينحل إلى دعاوى ثلاث :

  1. الدعوى الأولى : إنَّ الرحمة نعمة باطنية لا ظاهرية .
  2. الدعوى الثانية : إنَّ هذه النعمة الباطنية إما هي النبوة أو الولاية .
  3. الدعوى الثالثة : إنَّ النبوة هيَ النعمة الباطنية لا الولاية .

1 / وقد وَجَّهَ دعواهُ الأولى : بأنَّ النعم الظاهرية وليدة الأسباب التي سببها (جلَّت قدرته) بمقتضى نظامهِ الأتم ، بينما النعم الباطنية وليدة فيضهِ المباشر مِن غير توسط سبب .

وعلى هذا فبما أنَّ الرحمة في الآية الشريفة قد أُضيفت إليه ( تبارك وتعالى ) فهذا يوجب ظهورها في فيضهِ المباشر ، كسائر الموارد التي تُضاف فيها الحوادث والشؤون إلى فاعلٍ معينٍ ، فإنَّ ذلك موجبٌ لظهورها ظهوراً أولياً في كونهِ هو المباشر لها ، من غير توسط شيء بينه وبينها ، ولا يمنع ذلك من نسبة الفعل إليهِ في صورة وجود الوسائط أيضاً ، ولكن بنحوٍ من أنحاء التجوز ، كما في ( بنى الأمير المدينة ) .

2 / وأما وجهُ الدعوى الثانية : فهيَ متفرعةٌ على سابقتها ؛ إذ بعد التسليم بكون النعمة باطنيةً لا ظاهرية ، فإنَّ أمرها – بمقتضى ذيل الآية المباركة – يدورُ على نحو الشبهة المحصورة بين النبوة والولاية بالمعنى الأعم ، ضرورةَ أنَّ ( العلم اللدني ) لا يؤتاه إلا مَن كان نبياً أو ولياً ، ولا ثالث .

3 / وأما دعواهُ الثالثة : فقد أشارَ ( رضوانُ الله تعالى عليه ) إلى أنَّ وجهها هو عدول تعبير الآية عن استخدام ضمير المفرد إلى استخدام ضمير الجمع ؛ ومقصوده من ذلك : أنَّ الولاية بمعناها الأعم لا تعني سوى تقريب العبد من حضرة الرب ، فلا وسائط فيها ، بينما النبوة وإنْ كانت جعلاً مباشرياً منه تعالى إلا أنَّ سنته فيها جارية على توسط الملائكة في بعض شؤونها كالوحي ، ومن الواضح جداً بعد الالتفات إلى هذه النكتة أنَّ الصيغة المناسبة للتعبير عن إفاضة الولاية بالمعنى الأعم هي صيغة ضمير المفرد ، بينما الصيغة المعبِّرة عن إفاضة النبوة – بما لها من الشؤون واللوازم – هي صيغة ضمير الجمع .

وبعد الإحاطة بوجهِ كلِّ واحدةٍ من هذه الدعاوى الثلاث يتضح الوجه في الآيتين المعهودتين ، أما الأولى ، وهي : ( آتيناه أهله ومثلهم معهم رحمةً من عندنا ) فقد اتضح من خلال بيان وجه الدعوى الأولى أنَّ إضافة الرحمة إليه ( تعالى مجده وكبرياؤه ) – رغم توسط الأسباب – وإن كانت صحيحةً إلا أنَّها خلاف ما يقتضيه الظهور الأولي ، وإنما صحت بمقتضى تسبيبه ( جلّت قدرته ) ، فلا يصح قياس الآية محل الكلام على هذه الآية ؛ إذ لا قرينة تقتضي التصرف في ظهورها الأولي كما في هذه الآية .

وأما الثانية ، وهي قوله ( عزَّ وجلَّ مِن قائل ) : ( وقال فتية من الكهف ربنا آتنا من لدنك رحمة ) فهي – بعد غضِّ النظر عن كونها حكايةً لطلب أهل الكهف ، ولا حجية لنفسِ أقوالهم – لا تصلح للنقض ؛ إذ النعم الباطنية – كما قد ألمحتُ إليه عند بيان وجه الدعوى الثانية – لا تنحصر بالنبوة والولاية ، وإنما دارَ الأمر بينهما في تلك الآية بمقتضى قرينة ذيلها ، وعليه فلا مانع أن يكون مطلوب أهل الكهف فيضاً مباشراً منه تعالى ، ولا يكون مطلوبهم نبوةً ولا ولاية ، وإن كانَ احتمال أن تكون الولاية بالمعنى الأعم هي مطلوبهم ، ليسَ بعيداً ، ولا مانع يمنعه . واللهُ العالمُ وهو العاصم ، ولهُ من الشكر الحمد أقصاه ، ومن الشكر منتهاه .


السؤال الثاني

تعليقاً على إجابتكم عندي تعليقان :

أولاً : ربما قيل أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها ، وليس هناك شيئ يصل من الفيض الإلهي إلا من طريق النبي وأهل بيته عليهم السلام ، فلو أبعدت الملائكة عن هبة الولاية فلن نستطيع إبعاد أهل البيت ( ع ) فهم وسائط الفيض .

ثانياً : لا يمكن أن نرفع اليد عن رواية صحيحة السند ، وقد رواها الثقات ، وهي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر وأبي عبد الله … ” صاحب موسى وذو القرنين كانا عالمين ، ولم يكونا نبيين ” ، فما قولكم في ذلك ؟

 

 

بسمِ الله الرحمن الرحيم

ما جاءَ في الإجابة السابقة إنما كانَ جواباً عن إشكالية التدافع بين ما استظهره السيد العلامة ( أعلى اللهُ في الخلد مقامه ) من قوله تعالى شأنه : ( فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا ) وبين ما يُمكن استظهاره من الآيات القرآنية الأخرى الواردة في السؤال الذي وصلني منكم ، وإلا فإنَّ المناقشةَ فيما أفاده ( طيَّبَ الله تربته الزكية ) مِن غير تلك الجهة بمكانٍ من الإمكان .

وعودةً لما تفضلتم بإثارتهِ أقول :

1 / أما بالنسبة للسؤال الأول : فيمكن أن يقال : إنَّ الواسطة في الفيض ليست على وزانٍ واحد ، بل هي تارةً تكون من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنَّ الفيض يعرض عليها ومنها يعرض على غيرها ، وتارةً تكون من قبيل الواسطة في الثبوت ، بمعنى أنَّها علة ثبوت الفيض للمُفاض على نحو ( شرط القابل ) ، أي : أنه لولاها لم تحصل للمُفاض عليه قابلية الفيض ، وإن لم يعرض الفيضُ عليها ومنها على غيرها ، ومن الواضح أنَّ الفعل إنما تصح نسبته للواسطة فيما لو كانت من قبيل النحو الأول ، وأما في النحو الثاني فإنه يحتاج إلى تكلفٍ واضح ، ولم يُعلم كون وساطة أهل البيت ( عليهم صلوات الله وتحياته ) من قبيل النحو الأول مطلقاً ، حتى يتجه الإشكال .

2 / وأما بالنسبة للسؤال الثاني : فإنَّه لا يتجه على مباني السيد العلامة ( طابت نفسه ) ؛ إذ أنه قد صرَّحَ في حاشيته على الكفاية ، وفي غير موضعٍ من تفسيره البديع : بأنَّ أخبار الآحاد – وإن صحّت سنداً – لا تصلح لمعارضة الظهور القرآني .

ومن ذلك قوله في الجزء 14  ص 133 :

” ثم إن في عملهم بهذه الروايات وتحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضا آخر ؛ وذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة ولا قطعية الصدور ، وما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الامضاء ، وقد اتضح في علم الأصول اتضاحا يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الاحكام كالمعارف الاعتقادية والموضوعات الخارجية “.

وعلى ضوء مبناهُ الأصولي هذا فإنَّ الرواية المذكورة يمكن رفعُ اليد عنها من غير غضاضة ؛ ولذلك قال ( أعلى الله درجته ) في المجلد 13 ص 352 :

” وفي بعض الأخبار كما فيما رواه العياشي عن بريد عن أحدهما ( عليهما السلام ) : الخضر وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين .. الحديث ، لكن الآيات النازلة في قصته مع موسى لا تخلو عن ظهور في كونه نبياً ، كيف ؟ وفيها نزول الحكم عليه ” .

والله العالم .


السؤال الثالث

سيدنا لو كانت رواية واحدة في المقام لكان الكلام تاماً ، ولكن الظهور الذي ذكره تعارضه خمس روايات صحيحة ورواية سادسة موثقة ، ومنها : ” فنقول : إنه نبي ؟ قال : فحرك يده هكذا ثم قال : أو كصاحب سليمان أو صاحب موسى … ” وثانية : ” فأقول إنه نبي أو رسول ؟ قال : لا … ” وثالثة : ” ولكنهم علماء …وكمنزلة صاحب موسى ” وغير ذلك ، ومثل هذا العدد من الروايات يصعب رفع اليد عنه ، بل سيؤول الأمر إلى الاكتفاء بالظهور القرآني في فهم القرآن .

 

بسمِ الله الرحمن الرحيم

أقول : من أجل أن ينحل الإشكال المرتبط بهذا المطلب على مباني السيد العلامة (أعلى الله في الخلد مقامه ) لا بدَّ من استذكار أنَّ الأخبار تنقسم إلى قسمين : الأخبار المتواترة ، وأخبار الآحاد .

ولا يخفاكم أنَّ الأخبار المتواترة حجة لحجية العلم حجيةً ذاتية ، فلا تحتاج إلى جعل الحجية ، بينما أخبار الآحاد لأنها لا تفيد إلا الظن ، فإنَّ حجيتهاظنية ؛ ولذلك تحتاج حجيتها إلى الجعل ، وحينئذ يقع الكلام حول أنَّ الشارع هل جعلَ لها الحجية أم لا ؟ ثمَّ يقع الكلام حول ما هو المقصود من الحجية التي جعلها ؟ والمهم لنا في المقام هو الثاني ، فإنَّ الحجية المجعولة إذا كانت من قبيل جعل العلمية والطريقية ، كما هو مبنى المحقق النائيني ( أعلى الله درجته ) فمن الممكن أن يستفاد من أخبار الآحاد – التي ثبتت لها الحجية – في مجال التفسير وغيره .

وأما إذا كانت الحجية المجعولة بمعنى جعل المنجزية والمعذرية ، كما يظهر ذلك من المحقق الآخوند ( أعلى الله درجته ) في بعض موارد الكفاية ، وتبعه السيد العلامة ، فهذا يوجب اختصاص الحجية بأخبار الأحكام فقط ، ولا تشمل مثل أخبار التفسير ، وعلى ضوء هذا المبنى فمهما تعددت الأخبار المفسرة فإنها – ما لم تصل إلى حدِّ التواتر – لا تقاوم الظهور القرآني .


السؤال الرابع

هل يمكن أن نطلق على ما استفاده العلامة ظهوراً مع أنه لا يتأتى لكل أحد ، ولا يظهر لكل قارئ ، فالمعنى ليس من حاق اللفظ وإنما مبني على مقدمات يؤمن بها ؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم ، وبهِ أستعين

ليسَ ملاك الظهور الحجة هو اشتراك الجميع في استظهارٍ واحد حتى وإنْ لم يطلعوا على مقدماته ، بل الملاك هو اتفاق الأغلبية على الاستظهار فيما لو اطلعوا على المقدمات ؛ بحيث لا يكون استظهار المُستظهِر استظهاراً مرفوضاً عرفاً ؛ ولذلك لو اتفق شخصان على استخدام مفردة ( الإكرام ) مثلاً في خصوص الإطعام ، واستخدام مفردة ( العالم ) في خصوص الفقيه مثلاً ، ثم قال أحدهما للآخر : ( أكرم العالم ) لا شكَ في ظهور خطابهِ في طلب إطعام الفقيه ، مع أنَّ هذا الاستظهار لا يتفق عليه أغلب أهل المحاورة ، ولكنهم لو اطلعوا على مقدماته لن يشكوا فيه ، ولولا ذلك لا نسدَّ باب الحجية أمام الكثير من الاستظهارات المبنية على مقدماتٍ أصوليةٍ وكلامية .


السؤال الخامس

هل يلتزم العلامة بضرورة تواتر الروايات حتى في الاعتقادات؟

 

بسم الله الرحمن الرحمين ، وبهِ أستعين

نعم ، يلتزم بذلك ، بل يعتبره مما يتلو البداهة ، كما هو صريح كلامه الذي عرضته بخدمتكم في إجابةٍ سابقة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *