الشيخ المحسنيّ .. ملامحُ وسماتٌ

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين .

في سنة 1418 هـ من الهجرة الشريفة تعرفت على أستاذي الجليل ، سماحة آية الله ، الشيخ علي المحسني الخوئي ( طيب الله ثراه ) – المتوفى في اليوم العاشر من شهر رمضان المبارك عام 1439 – حين تشرفت بالحضور على يديه مباحث الخيارات من مكاسب الشيخ الأعظم الأنصاري ( أعلى الله مقامه ) ، واستمرت علاقتي معه – حتى بعد انقطاع حضوري عن درسه – لمدة تنيف على العشرين عاماً .

وقد اجتمع لدي طوال هذه السنوات العشرين من جميل السمات ما يستحق التسجيل والتبجيل ، ولكنني سأقتصر على الإشارة لبعضها ، تمجيداً لمقامه ، وتنويهاً بفضله ، راجياً أن أكون بذلك قد قضيت بعض حقه .

1 / السمة الأولى : التواضع للعلم .

وقد لمستُ منه هذه السمة الجميلة حين وفقني الله تعالى للحضور عنده ، حيث كان يسكن حينها في ( مدينة العلم ) – التي شيدها سيد الفقهاء الخوئي طاب ثراه – وكان الحرم الشريف لمولاتي وسيدتي الكريمة فاطمة المعصومة ( عليها السلام ) هو محل درسنا اليومي ، وقد كان ( رحمه الله ) يتحمل مشقة الحضور للحرم الشريف كل يوم ، ولا أتذكر أنه غاب يوماً واحداً ، بل ولا أتذكر أنني سبقته للحضور للحرم الشريف إلا بضع مرات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة .

وهذا كله إن كان يكشف عن شيء فإنما يكشف عن تواضعه للعلم وإجلاله له ؛ إذ أنه كان بإمكانه أن يفرض عليّ الذهاب إليه لأخذ الدرس عنده في مقر سكنه ، وله بذلك الفضل والمنة ، ولكنّ تواضعه للعلم ، واهتمامه بأداء رسالة التعليم ، كانا كفيلين بتحمله مشقة المجيء والذهاب آنذاك .

2 / السمة الثانية : دقة الأداء .

وثاني سمة لمستها منه ( طاب ثراه ) هي حرصه الشديد على بيان المطالب ونكاتها العلمية ، فلم يكن يَرِدُ مطلباً ويغادره إلا بعد إسهاب وإطناب بالمقدار الذي كان يطمئن معه أنه قد أوصل المعلومة بشكلٍ تامٍ ودقيق إلى ذهن الطالب .

وهذا يعني أنه كان يرى مهمة التدريس مسؤولية شرعية وأخلاقية لا تنبغي ممارستها إلا لمن يسيطر على المطالب والمعلومات ، ويستطيع إيصالها بمهنيةٍ وإتقان ، لتتحقق أهدافها التربوية والتعليمية .

صورة تجمع السيد الضياء بأستاذه المرحوم

3 / السمة الثالثة : الهمة العالية .

فلا زلت أتذكره – حين حضرتُ لديه مقداراً من خارج فقه صلاة المسافر – كيف سعى جاهداً في مطلع البحث لتأسيس القواعد القرآنية المرتبطة بصلاة المسافر ، من خلال استعراض الآيات الكريمة التي لها نحو صلة بها ، وقد صال وجال ، وحقق ودقق ، واستعرض كلمات المفسرين – من الخاصة والعامة – وناقشها ومحصها ، من غير كلل ولا سأم ولا ملل ، كاشفاً بذلك عن طول باع وسعة اطلاع وهمة عالية كبيرة .

والشاهد الأكبر لعلو همته هو : موسوعته الكبرى التي كتبها في الإمامة ، والتي كان مشتغلاً بكتابتها منذ عرفته – عام 1418 هـ – ولعله قبل ذلك أيضاً ، وكان يشرفني بقراءة بعض فصولها بين الحين والآخر على مسامعي ، ولم يزل مشتغلاً بها إلى سنوات قريبة جداً ، ففي آخر لقاءٍ كان لي معه عرض علَيّ القيام بمطالعة ما بيضه منها ، ولكن لما كان ذلك على مشارف شهر رمضان ، اضطررت للاعتذار منه ، لأنني كنت على مشارف السفر ، وطلبت منه إرجاء الموضوع إلى ما بعد الشهر الكريم ، غير أنني لم أوفق للعودة ، فحُرمتُ من الاستفادة منها والاطلاع عليها .

4 / السمة الرابعة : بذل النفس للعلم .

فقد قلتُ له ذات مرة : أنت الآن شيخنا أحد وجوه مدينة ( خوي ) العلمية ، بل لعلك الوجه الأبرز لعلمائها ، فهل لك نية الرجوع إليها والاستقرار فيها ؟ فقال لي : لقد وصلتني العديد من دعوات الأهالي لأجل الرجوع إلى مسقط رأسي ، بل زارني العديد من أعيان مدينتي ووجهائها ، وطلبوا مني الرجوع إليها ، ولكنني قررت البقاء في الحوزة الشريفة ، وأداء وظيفتي بالتدريس والتأليف ، مجاوراً ولية النعمة السيدة الكريمة فاطمة المعصومة عليها السلام .

ولقد كان كما قال ، فقد بقي في الحوزة الشريفة وفرّغ نفسه للعلم والاشتغال ما بين كتابة وتدريس وبحث ومتابعة ومراجعة للمؤلفات المخطوطة لبعض أعلام أساتذته – كآية العلم والتقى السيد الكوكبي ( أعلى الله درجته ) – حيث كان المؤتمن عليها والأعرف بمقاصدها والأقدر على ترميم نواقصها ، نظراً لإلمامه بما اشتملت عليه من مبانٍ متينة ونكات رصينة ، وقد سمعت منه غير مرة إشادته بما اشتملت عليه ، وتمنياته أن ترى طريقها إلى النور ، لتستفيد منها حوزات العلم ومراكز المعرفة .

وإن نسيت فلا أنسى مشهداً تكررت رؤيتي له في السنوات الأخيرة ، حيث اتفق لي غير مرة أن رأيته رحمه الله خارجاً من ( مدرسة خان ) – مقر إلقائه لأبحاث الخارج العالية – وحوله كوكبة من تلامذته ، يحيطون به كما تحيط النجوم بالقمر ، وهو يجيب عن أسئلتهم ويرفع الإبهام عمّا أشكل عليهم .

مجلس الفاتحة الذي أقيم في حسينية الحمران ليلة 12 من شهر رمضان عام 1439هـ

5 / السمة الخامسة : التوجيه والتحفيز .

فإنه لم يكن يهتم بالتعليم فقط ، بل كان يحرص على تربية الطالب وإرشاده وتوجيهه .

فلا زلت أتذكر أنني كنت بمعيته ذات مرة ، فسألني عن دروسي ، فأخبرته باشتغالي بدرس شرح منظومة الحكيم السبزواري ، فسألني عن الموضع الذي انتهيت إليه ، ولما أخبرته قال لي : أتحفظ أبيات المنظومة ؟ فقرأت له بعضها ، وما كان منه إلا أن غمرته البهجة وشاركني قراءة البعض الآخر ، وحثني على الاستمرار ، وشجعني على ذلك كثيراً .

وللتاريخ أذكر أنه قال لي حينها : إنه كان قد اشتغل بتدريس شرح المنظومة في قديم الزمان ، وكان محل درسه هو القسم الثاني من المسجد الأعظم ، وعدد الحضور لديه كان يزيد على العشرين طالباً ، مع أنه كان ( رحمه الله ) في تلك الفترة التي أشار إليها صغير السن غضّ الإهاب .

6 / السمة السادسة : سمو الروح .

وقد اكتشفت عنده هذه السمة بشكل جلي وواضح حين انقطعت عن الحضور في درسه ؛ إذ تشرفت بعد ذلك بزيارته في بيته ، فسألني عن دروسي التي بنيتُ على الاستقرار فيها ، وحين أخبرته بها فاجأني بمدحه لأساتذتي وثنائه عليهم ، وحثه لي على الحضور عندهم والاستفادة منهم ، ثم نصحني ببعض النصائح المرتبطة بالحضور فيما يُعرف بالدروس العليا ، من غير أن يشعرني بأدنى انزعاج أو تأفف لانقطاعي عن درسه ، مما جعله يكبر في عيني وقلبي أكثر مما كان عليه .

وهذا إن كان يدل على شيء فإنما يدل على نظرته الواقعية للحياة ، وأنّ لطالب العلم أطواراً مختلفة ، وحاجات علمية متنوعة ، وهذا ما يدعوه للتنقل من أستاذ لآخر لإشباع تلك الحاجات وصقل ما لديه من الملكات ، من غير أن يستلزم ذلك إجلالاً لأستاذ لاحق على حساب أستاذ سابق ، بل هم أشبه بالورود الزكية العطرة ، والطالب أشبه بالنحلة المتنقلة من زهرةٍ لأخرى تستافُ من رحيق هذه وتتزود من غذاء تلك ، ولا يمكنها أن تنتج للآخرين عسلاً إلا إذا تزودت منهم جميعاً .

صلاة الوحشة المهداة إلى روح الشيخ المحسني في مجلس الفاتحة

7 / السمة السابعة : صفاء المودة .

لقد كان الشيخ الأستاذ ( طاب ثراه ) صاحب أخلاق عالية جداً ، يعجز اللسان عن وصفها ، حيث لم تكن الابتسامة تفارق محياه ، كما كان على درجة راقيةٍ من الأدب في التعامل مع الآخرين واحترامهم ، وكلما تشرفت بزيارته أخجلني بحسن استقباله ولطف توديعه .

ولكنّ الأجمل من ذلك كلّه هو صفاء مودته وصدق إخائه وإخلاص صداقته ، فكان لا يرى أحداً ممن تربطني وإياه به علاقة مشتركة إلا ويسأله عني ، ويرسل لي من طريقه خالص سلامه ووافر تحياته ، ولم أكن ألتقي به مرة إلا وتغمره البهجة ويعتنقني ويسألني عن عائلتي وأولادي مسميّاً لهم بأسمائهم واحداً واحداً ، فكان يشعرني بالقرب والمودة والحب .

8 / السمة الثامنة : الأدب مع العترة الطاهرة .

وهذه سمة جلية في حياته المباركة ، وكل من عاشره أو اتصل به لمسها فيه .

فلا زلت أتذكر – عند دراستي لديه في الحرم الشريف – اهتمامه وحرصه على التوجه لضريح السيدة المعصومة عليها السلام كلما اشتغل بزيارتها ، وانزعاجه ممن ينهى بعض الزائرين عن ذلك ، وقد أفصح لي ذات مرة عن سر ذلك الاهتمام ، فقال : إنني أعتقد أن السيدة المعصومة عليها السلام هي باب الله الذي منه يؤتى ، وهي الطريق إليه ، ولذا أتوجه إليها حين أتشرف بزيارتها ، وهذا أيضاً هو ما يعتقده سائر الزائرين بفطرتهم السليمة ، وهو اعتقاد حسن وصحيح ، ولذا لا تنبغي زلزلة اعتقادهم والاستنكار عليهم .

كما لا أزال أتذكر أنني زرته بعد أحد المواسم الرمضانية المباركة ، فأخبرني بأنَّ أمراً مّا قد حصل في شهر رمضان ، وهو : أنّ سماحة آية العلم والتقى السيد التقي القمي ( طيب الله ثراه ) قد كلفه أن يقوم بقراءة ختمة قرآنية لإمام العصر والزمان ( أرواحنا له الفداء ) ، يقول : فطلبتُ من السيد أن يمهلني بضعة أيام لأفكر في الأمر ، وكل ما كان يشغل تفكيري خلال تلك الأيام هو أنني هل لي أهلية القيام بالمهمة المذكورة أم لا ؟!

وهذا إن نمَّ عن شيء فإنما ينمُّ عن معرفة سامية ، جعلته يعيش هذه الحالة من التفكير والاضطراب بين يدي ولي الأمر وإمام الزمان ( أرواحنا فداه ) .

وعند هذه السمة أجد قلمي عاجزاً عن الاسترسال ، وإني لأرجو أن أكون بهذا المقدار قد أديت بعض حقوق أستاذي الجليل ، معترفاً بالقصور ومعتذراً عن التقصير ، وداعياً له بالمغفرة والرحمة وعلو الدرجة عند أوليائه الطاهرين ( عليهم صلوات المصلين ) ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .

ضياء السيد عدنان الخباز

الاثنين 1439 / 9 / 12


مواضيع ذات صلة:

تعليق واحد على “الشيخ المحسنيّ .. ملامحُ وسماتٌ”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *