مبدأ الوصاية بين المشروعية وشبهة تقييد الحرية

تاريخ المحاضرة: 09/01/1432

نقاط البحث:

  1. بيان مشروعية الوصاية
    • الأطروحة الحداثيّة: الوصاية مرفوضة بنصّ القرآن
    • الأطروحة الدينية: الوصاية مبدأ شرعي بل عقلي
  2. نقد شبهة تقييد الحرية
    • هل الحرية التي يتغنّى بها اللادينيون لها قيمة بنظر الدينيين، أم هي مجرّد وهم وسراب؟
  3. بيان من له الوصاية
    • الوصاية العامة للمجتمع الإيماني
    • الوصاية الخاصة للعلماء
  4. بيان مجالات الوصاية
    • المجال الديني وحدّ الردّة
    • المجال الفكري ولغة التضليل
    • المجال السلوكي وضرورة الحدود والتعزيرات

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

معلومات أخرى:


نص المحاضرة

32-مبدأ-الوصاية-وجدلية-الحرية.pdf

قال الله العظيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[1].

انطلاقًا من هذه السّورة المباركة نتحدّث عن (مبدأ الوصاية) في نقاط أربع:

النقطة الأولى: مشروعيّة الوصاية.

المراد من مصطلح (الوصاية): رقابة جهة على جهة أخرى، وتدخّلها في شؤونها الخاصّة؛ لذلك يقال: الأب له وصايةٌ على أبنائه الصغار، بمعنى أنّ له حقّ الرقابة والنظارة على أبنائه، وحقّ التدخّل في شؤونهم الخاصّة، بحيث يستطيع أن يأمرهم وينهاهم ويردعهم، ويشهد لذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[2]، فقد ورد عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} كيف نقي أهلنا؟ قال: تأمرونهم وتنهونهم))[3]، أي أنّ الشّارع المقدّس جعل للأب حقّ الوصاية على أسرته، فله أن يأمر وينهى، ولو تخلّف عن ذلك فقد تخلّى عن وظيفة شرعيّة، وكلّ ما يصدر عن أبنائه من انحرافات – نتيجة تقصيره في تربيتهم وتوجيههم – فإنّه مُحَاسَبٌ على ذلك قبل أن يُحَاسَب أبناؤه؛ لأنّ الوظيفة التربويّة وظيفةٌ شرعيّةٌ لازمةٌ وواجبةٌ.

فالمقصود من حقّ الوصاية هو: حقّ الرقابة على الغير، والتدخّل في شؤونه الخاصّة.

ومحورُ البحث هنا هو: أنَّ الوصاية بالمعنى المذكور هل هي ثابتةٌ لغير الأب، بحيث يحقّ له إذا رأى من شخصٍ سلوكًا خاطئًا أو فكرةً منحرفةً، أن يأمره وينهاه، ويوجّهه ويردعه، أم لا؟

هنالك أطروحتان:

الأطروحة الأولى: الأطروحة اللادينيّة.

وهذه هي الأطروحة التي يطرحها بعض الحداثيّين والليبراليين والعلمانيّين، وهي تقول: إنّ الوصاية مبدأ مرفوضٌ؛ لأنّ معنى الوصاية استعباد النّاس وتقييد حرّياتهم وتقزيم عقولهم؛ إذ أنه عندما يكون لأحدٍ حقّ الوصاية على غيره – بحيث يأمره وينهاه – فمعنى ذلك أنّه يستعبد من له حقّ الوصاية عليه، ويقيّد حرّيته، ويقزّم عقله.

والقرآن الكريم يؤكّد ويكرّس هذه الأطروحة، كما يُستفاد ذلك من عدة آيات قرآنية، ولا بأس بعرض بعضها:

أ. الآية الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[4] ومفادها: يا أيها المؤمنون اهتمّوا بأنفسكم، ولا تتدخلّوا في شؤون الآخرين.

ب. الآية الثانية: قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[5]، وهي تنفي مبدأ الوصاية تمامًا، وتصرّح بأنّه لا يوجد لأحد حقّ الوصاية على غيره، وأنَّ لكلٍ عمله.

ج. الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[6]، وهذه الآية صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) ليست له وكالةٌ ووصايةٌ على غيره، فكيف بغيره؟!

والمتّحصل من مجموع هذه الآيات المباركات: أنَّ مبدأ الوصاية على خلاف الطرح القرآني.

مناقشة الاستدلال بالآيات على نفي مبدأ الوصاية:

والصحيح: أنَّ جميع هذه الآيات التي استدلّ بها اللادينيّون لإثبات أطروحتهم، لا تدلّ على المدّعى، وبيان ذلك بالنحو التالي:

1/ أما الآية الأولى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[7]، فيراد بها: أنّ وظيفة الإنسان هي صقل نفسه وتربيتها وهدايتها؛ لأنّه إذا صقل نفسه وربّاها وهداها، فإنّ ضلال غيره لا يضرّه، وعليه فالآية عندما تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فالمقصود من ذلك: أنّه ينبغي على المؤمن أن يربّي نفسه ويصقلها، وأن يجعل له قاعدة حصينة، لكي لا يتأثّر بانحرافات الآخرين وضلالاتهم، وهذا ما أشارت إليه بقولها عقيب ذلك كنتيجة مترتبة: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.

وبعبارة أخرى: إنَّ إعمال مبدأ الوصاية من خلال أمر الآخرين بالمعروف ونهيهم عن المنكر مطلوبٌ شرعًا، ولكن إذا لم يُجْدِ الأمر والنهي نفعًا فعلى الإنسان المؤمن أن لا يحزن لذلك، وأن يهتمّ بتربية نفسه حتى لا ينحرف مع المجتمع المحيط به.

2/ وأما الآية الثانية: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[8]؛ فإنها أيضًا لا تدلّ على نفي مبدأ الوصاية؛ لأنّها مقترنةٌ بجملة شرطيّة، إذ أنّها تقول: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ} أي: إنّ وظيفتك – يا رسول الله – أن تأمر وتنهى وتوجّه وترشد وتنصح وتردع، ولكن إن كذّبوك فقل: لي عملي ولكم عملكم، فالآية تدلّ على مشروعية مبدأ الوصاية وتؤكّد عليه من خلال الجملة الشرطيّة، لا أنّها تدلّ على نفيه.

ولك أن تقول: إنَّ الآية المباركة ناظرة إلى صورة عدم فاعلية الوصاية، بقرينة الشرطية المذكورة في أولها: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ}.

3/ وأما الآية الثالثة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[9] فإنها تبيّن أنّ دور النبي العام هو الهداية التّشريعيّة لا الهداية التّكوينيّة، أي أنّ وظيفته ليست أن يهدي النّاس قهرًا وجبرًا، بل إنّ وظيفته العامة هي أن يهديهم من خلال النصح والإرشاد وبيان الحقائق، وبعد ذلك فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ باختياره، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا باختياره أيضًا؛ ولذلك يقول: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: أنا لستُ موكّلًا من قِبَلِ الله تعالى بإجباركم وقهركم على الاهتداء.

وعلى هذا، فإنّ جميع الآيات القرآنيّة التي تمسّك بها اللادينيّون، لا تدلّ على نفي مبدأ الوصاية، وبالتالي فإنّ أطروحتهم باطلةٌ.

الأطروحة الثانية: الأطروحة الدينيّة.

ومفاد هذه الأطروحة التي يطرحها الدّينيّون: أنّ مبدأ الوصاية مبدأ عقليٌّ، قبل أن يكون مبدأً شرعيًا، فالعقل يحكم بأهمّيّة وجود وصاية لبعض النّاس على بعض النّاس، ويستدلّون على ذلك بقاعدة اللّطف، كما يستدلّون ببعض الآيات القرآنيّة، فهناك دليلٌ عقليٌ وآخر قرآني، وبيان الدليلين بالنحو التالي:

الدليل الأول: قاعدة اللطف.

عندما نقرأ كتب العقائد نجد أنّ علماءنا يذكرون في بداية بحث النبوة أنّ الله تعالى يجب أن يبعث أنبياءً وأن يُنْزِلَ كتبًا من باب اللطف، فما معنى (اللطف)؟

الجواب: إنَّ اللطف هو الفعل المحقّق لغرض الفاعل الحكيم، فإذا فعل الفاعلُ الحكيمُ فعلًا لغرضٍ مَّا، وكان تحقّق غرضه يتوقّف على فعلٍ آخر، فلا بدّ من فعل الفعل الآخر، وإلا كان الفعل الأول قبيحًا.

فمثلًا: عندما يقوم شخصٌ بعمل مأدبةٍ، وغرضه من ذلك أن يجتمع إخوانه المؤمنون؛ لما في اجتماعهم من خيرٍ وأجر، فالفعل هنا هو عمل المأدبة، والغرض هو اجتماع المؤمنين، ومن الواضح أنّ هذا الغرض لا يتحقّق إلا من خلال دعوة المؤمنين؛ إذ لو لم يدعهم لم يمكن تحقّق الغرض من المأدبة، فيكون ترك دعوتهم قبيحًا، ومثل هذا الفعل الذي يتوقّف عليه تحقّق غرض فعلٍ آخر يُعَبّر عنه باللّطف.

ومن هنا استدلّ علماؤنا على وجوب النبوّة بقاعدة اللّطف، ببيان: أنَّ الله تعالى عندما خلق الخلق لم يخلقهم عبثًا، بل خلقهم لغرضٍ أشارَ إليه تعالى بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ}[10]، وعليه فلو أوجدهم اللهُ في هذا العالم، ولم يُرْسِل لهم أنبياءً، لما تحقّق غرضه من فعله الأول – وهو عبادته كما يريد – لأنَّ الخلق بوحدهم لن يدركوه، وبالتالي لو لم يرسل – مع قدرته على الإرسال – لكان قد فعل قبيحًا، وهو منزّهٌ عن فعل القبيح، فلا بُدَّ من أن يُرْسِل أنبياءً ليتحقّق غرضه، فيثبت بذلك لزوم بعثة الأنبياء.

وبنفس هذه القاعدة العقليّة نستطيع إثبات مبدأ الوصاية، فنقول: لو أرسل اللهُ الأنبياءَ (عليهم السلام) ونهاهم عن التدخّل في شؤون النّاس، ولم يجعل لهم الوصاية عليهم، بل أمرهم بتركهم ليفعلوا ما يفعلون، فإنّه لن يتحقّق غرضه المذكور حينئذٍ؛ إذ لو جاء نبيٌ وقال للنّاس: (صلّوا) مثلًا، فسيقولون له: من الذي سمح لك بأن تأمرنا بالصلاة؟! ولو قال لهم: (صوموا) لقالوا له: بأيّ حقٍّ تأمرنا وتنهانا، والحال أنّ الله تعالى لم يعطك حقّ الوصاية علينا؟! وبذلك لا يتحقّق الغرض من بعثة الأنبياء (عليهم السلام).

وعليه: فلا بُدَّ – بحكم العقل، وبمقتضى قاعدة اللّطف – من أن يعطي اللهُ الوصايةَ للأنبياء (عليهم السلام) ليتحقّق الغرضُ من بعثتهم، وهذا يعني أنَّ مبدأ الوصاية عقليٌ قبل أن يكون مبدأً دينيًا.

الدليل الثاني: الآيات القرآنية.

ونكتفي بعرض آياتٍ أربع:

أ الآية الأولى: قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[11]، وهي صرّيحة جدًا في مشروعيّة مبدأ الوصاية، فلا تحتاج إلى تعليق.

ب الآية الثانية: قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[12].

والآية صريحة في ذمّ من عطّل مبدأ الوصاية ولم يفعّله، حيث قالت أنهم لُعِنوا لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أي: أنّهم كانوا يحاربون مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقولون لمن يتدخّل في شؤونهم: بأيّ حقّ تتدخّل في شؤوننا، مع أنّه لا وصاية لك علينا؟! فذمّهم القرآن على ذلك ولعنهم.

ج الآية الثالثة: قوله تعالى: {وَتَرى‏ كَثيرًا مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ}[13]، ودلالةُ الآية القرآنية مبنية على أنَّ (لولا) فيها بمعنى (هلّا)؛ إذ يُستفاد منها حينئذ ذم العلماء الربانيين والأحبار؛ لعدم نهيهم عن المنكرات.

د الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَديدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى‏ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}[14]، بضميمة ما ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسيرها، حيث قال: ((كانوا ثلاثة أصناف: صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمُسخوا ذرًّا، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا))[15].

النقطة الثانية: الوصاية وشبهة تقييد الحرّية.

ممّا يقوله الحداثيّون: إنَّ الحرّية مبدأ عقلائيٌ ينشده كلُّ عقلاء العالم، ويتطلعون إليه، بل هي مبدأ شرعيٌ أيضًا؛ لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((ولا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًا))[16]، أي: إذا أمرك أحدٌ بشيء أو نهاك أو ردعك فلا تطعه؛ فإنّك إن أطعته صرت عبدًا له، مع أنّ الله تعالى قد جعلك حرًا.

وبما أنّ الحرّية مبدأ عقلائيٌ وشرعيٌ، فلا يمكن أن يضع الشّارعُ مبدأ الوصاية – من خلال تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الذي يخالف هذا المبدأ العقلائي والشّرعي؛ لأنه مستلزمٌ لتقييد حريات الناس.

نقد شبهة الحداثي:

ولنا مع هذا المنطق الحداثي أربع وقفات:

الوقفة الأولى: إنَّ الحرّية التي يتغنّى بها اللادينيّون ما هي إلا وَهْمٌ وخيالٌ وسرابٌ لا قيمة له؛ إذ أننا تارةً نتكلّم بلسان اللادينيّين الذين لا يؤمنون بدين ولا بخالق فنقول: توجد حرّيّة بالأصالة، وتارةً أخرى نتكلّم بلسان الدّينيّين فنقول: لا يوجد في الكون شيءٌ أصيلٌ اسمه الحرّيّة، بل إنّ كلّ ما في الكون عبوديّةٌ محضةٌ لله تعالى، وإن كانت هنالك ثمة حرية فإنها الحرية المندكة في العبودية فقط، وكلُّ ما سواها فهو مجرد شعارٍ برّاقٍ يتغنّى به اللادينيّون.

والوجهُ في ذلك: أنَّ الدّينيّين – الذين يعترفون بأنّ الله تعالى هو الخالق والمالك لا للبشر فحسب، بل لكلّ شيء – تحكمهم عبودية محضة، ولا يعرفون في قبال العبودية شيئًا أصيلًا اسمه الحرية.

بداهة أنَّ الإنسان عندما يريد أن يقوم – مثلًا – فإنَّ نفس قيامه تصرّف في ملك الله تعالى، وعليه فلا بدّ أن يأذن اللهُ له بذلك، وإذا أراد أن يجلس، أو يأكل طعامًا معيّنًا، فلا بدَّ أن يأذن الله له بذلك أيضًا؛ إذ كلُّ شيء مخلوق لله تعالى، فحتى الفضاء الذي يريد أن يتصرف فيه الإنسان بالقيام والقعود والحركة والتنفس، وكل المأكولات والمشروبات، مخلوقات ومملوكات لله تعالى، وبالتالي فله أن يبيح أو يحظر أيَّ تصرف يريد أن يتصرفه الإنسان، ولا يصحّ لأحدٍ أن يعترض عليه؛ لأنّه يتصرّف في ملكه كما يشاء، مما يعني أننا نحن البشر تحكمنا عبوديّةٌ محضةٌ لله تعالى في كلّ تصرفاتنا وسكناتنا وقيامنا وقعودنا وأنفاسنا.

وبعبارة أخرى: بما أنَّ الإنسان مخلوق ومملوك لله تعالى، فهذا يعني أنَّ به حياته ومماته وما فيهما وما بينهما، ولازم المخلوقية والمملوكية أن يكون تحت هيمنة الخالق والمالك، وملزمًا بعبوديته، كما أشار لذلك تعالى بقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ}[17]، ولا حرية له في قبال هذه العبودية المحضة، وإنما يثبت له من الحرية ما ينطوي تحت ظل هذه العبودية، أي: بمقدار الحدود التي رسمها له خالقه ومالكه فقط، وضمن المسارات التي حددها له، وهذا يعني أنَّ حق الحرية حق ثابت بالتبعية، لا بالأصالة.

وعلى ضوء ما ذكرناه نقول: بما أنه ليس للعبد أمام أوامر المولى تعالى إلا التّسليم التام، بمقتضى العبوديّة المحضة، وبما أنّ الله تعالى هو الذي جعل حقّ الوصاية لبعض النّاس على البعض الآخر، فإنه يجب حينئذ بمقتضى العبوديّة المحضة على من جُعِلَت الوصاية عليهم أن يمتثلوا لأوامر ونواهي الذين جعلَ الله تعالى لهم حقّ الوصاية على غيرهم، وإلا كانوا متمردين على عبوديتهم لخالقهم، ومتشدقين بوهمٍ لا واقع له، أطلقوا عليه اسم الحرية.

وبذلك يُعلم: أنَّ الحداثي حينما يقول: إنّ مبدأ الوصاية يتنافى مع مبدأ الحرّيّة الذي هو مبدأ عقلائيٌ، فإنه يُجاب عليه: بأنّ الذي جعل حقّ الوصاية لشخصٍ على آخر هو الله تعالى، وبالتالي فعندما يأتي شخصٌ وينهى شخصًا آخر عن منكر أو يأمره بمعروف – بما جعله اللهُ له من حقّ الوصاية – فقد تصرّف في ملك الله تعالى بإذنٍ منه، ويجب على المأمور أو المنهي أن يمتثل لأوامر ونواهي من له حقّ الوصاية عليه؛ لأنّه عبدٌ محضٌ مملوكٌ لله، ولا يجوز له أن يتجاوز حدود الله تعالى، كما أنه ليست له حرية في مقابل عبوديته لله تعالى؛ ليتنافى ذلك مع مبدأ الوصاية.

وممّا ذكرناه يُعلم: أنه لا ينبغي على الدّينيّين المؤمنين بخالقيّة الله ومالكيّته أن يردّدوا شعار الحرّيّة الذي يردّده اللادينيّون؛ لأنّه شعارٌ منافٍ لروح العبوديّة المحضة للمولى تعالى، التي تقتضي ثبوت حقّ التصرّف لله في الإنسان كيفما شاء وأراد.

الوقفة الثانية: لا ريب في أنَّ من يرفع شعار الحرية الشخصية لا يعتقد بأنه حرٌّ مطلقًا، وإنّما حرّيته مقيّدة، فهو حرٌّ في تصرّفاته ما لم يستلزم ذلك التعدّي على الآخرين والإضرار بهم؛ ولذلك يرى من حقّه أن يسمع الغناء مثلًا في بيته ما دام لا يزعج أحدًا، ولكن ليس من حقّه أن يضع سمّاعة على بيت جاره ويتسبّب في إزعاجه بصوت الغناء بحجّة الحرية الشخصية.

وعلى ضوء هذا المنطق – الذي يسلِّم به الحداثي – نقول: إنَّ الانحراف الذي يصدر من الإنسان لا يقتصر ضرره – بحسب الرؤية الدينية – على صاحبه فحسب، بل يضرّ غيره من أبناء المجتمع أيضًا، فالحداثي يعتقد بأنَّ ضرر المعصية يقتصر على مقترفها، بينما الديني نظرته مختلفةٌ عن ذلك.

ويمكن توضيح الفكرة بحديث نبوي رائع، يقول فيه النبي (صلى الله عليه وآله): ((إنَّما مثل القائم على حدود الله والمداهِن لها[18] كمثل قومٍ استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فقال الذين في أسفلها: لنخرقن في نصيبنا خرقًا لئلا نؤذي من فوقنا، فإذا تركوهم على ما أرادوا هلكوا جميعًا، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا))[19].

والمستفاد من هذا الحديث الشريف: أنَّ الإنسان لا يعيش بوحده حتى يكون انحرافًا مضرًّا به فقط، بل يعيش حياة اجتماعية مع أشخاص آخرين، والذنب كما له آثار فردية له أيضًا آثار كونية اجتماعية تضرّ بالآخرين، حيث ورد في الحديث المشهور: ((إذا كثر الزنا كثر موت الفجأة))[20]، مع أنَّ الزاني والزانية قد يمارسان الرذيلة بتمام رضاهما، وبحجّة الحرية الشخصية، إلا أنَّ تصرّفهما لا يقتصر ضرره عليهما، بل له ضررٌ على المجتمع ككل، ممّا يؤكِّد أنَّ أضرار الانحراف ليست مقصورة على أصحابها، بل تسري لغيرهم من أبناء المجتمع، وإذا كانت كذلك فلا يحقّ للحداثي – بحسب المنطق الذي يؤمن به – أن يمارس الانحراف بحجّة الحرية الشخصية، ولا يصحّ له أن يعترض على من ينهاه عن المنكرات من أبناء المجتمع.

الوقفة الثالثة: لو سلّمنا جدلًا بوجود حرية شخصية في المنظور الديني، فهناك نكتةٌ عقلائيةٌ مهمّةٌ في باب التشريعات إذا التفت إليها الإنسان لم يصح له أن يجعل الحرية الشخصية عقبةً في طريق مبدأ الوصاية.

وهذه النكتة هي أنَّ المشرِّع عندما يشرِّع عدّة تشريعات، ويكون التمسّك بإطلاق أحد هذه التشريعات مستلزمًا لإلغاء تشريع آخر، فإنَّ مقتضى القاعدة العقلائية حينئذٍ تقييد التشريع الأول بحيث لا يصطدم مع التشريع الآخر.

وبناءً على هذه النكتة نقول: إذا كانت الحرية الشخصية تشريعًا دينيًا فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضًا – باعتراف الحداثي – تشريع ديني، ولكن لو أخذنا بالحرية الشخصية على إطلاقها – بعد أن سلّمنا جدلًا بأنّها تشريع ديني – لكان تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاغيًا.

وبعبارة أوضح: لو كان لكلّ إنسان حريةٌ شخصيةٌ مطلقةٌ في كلّ آنٍ وبلا أيّ قيود، لكان تشريع مبدأ الوصية – من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – بلا أيّ معنى؛ إذ كلّما أمر آمرٌ أو نهى ناهٍ سيقال له: إنَّ هذا من باب الحرية الشخصية، فلا يحقّ لك التدخّل بأمر ولا بنهي.

ومن الواضح أنَّنا إنَّما نستطيع أن نصون التشريع الآخر – وهو مبدأ الوصاية – وأن نحافظ عليه إذا قيّدنا التشريع الأول، بحيث تكون الحرية الشخصية في حدود المعروف فقط، وأمّا إذا خرجت الحرية عن حدّ المعروف وتعنونت بعنوان المنكر فحينئذٍ يأتي دور التشريع الآخر، وهو مبدأ الوصاية، ممّا يعني أنَّ الحرية الشخصية لا يمكن أن تقف عقبةً أمام تشريع الوصاية حتى لو سلّمنا بأنَّها هي الأخرى تشريعٌ دينيٌّ.

الوقفة الرابعة: إنَّ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك اللهُ حرًا))[21] ليس المقصود بالحرّيّة فيه الحرية التي تقابل عبوديّة الله تعالى، وإنّما المراد بها الحرية المطوية تحت عبوديّته، أي: الحرّيّة التي تكون ضمن حدود الله تعالى التي رسمها لعباده وحددها لهم، فمثلًا: لقد سوّغ لنا اللهُ تعالى إقامة الشعائر الحسينيّة، وأعطانا الحرّيّة في كيفيّة إقامتها، فعندما يأتينا شخصٌ وينهانا عن إقامة الشعائر، فإنّه لا ينبغي لنا أن نكون عبيدًا له، وقد جعلنا اللهُ تعالى أحرارًا تحت ظلال عبوديّته.

وبعبارة أخرى: إنَّ العبوديّة المذمومة في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) هي عبوديّة الإنسان للإنسان، لا عبودية الإنسان لربّه جلَّ جلاله، وبما أنَّ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة إلهيّة؛ فإنَّ الخضوع لأمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر لن يكون عبادة للغير، وإنَّما سيندرج ضمن عبوديّة الله تعالى.

النقطة الثالثة: بيان مَنْ له الوصاية.

بعد أن بيّنا أنّ الوصاية مبدأ مشروعٌ، نأتي هنا لبيان مَنْ له حقّ الوصاية، وتفصيله أنَّ الوصاية قسّمان:

القسم الأول: الوصاية العامّة.

أي: الوصاية التي جعلها الله تعالى لجميع أبناء المجتمع الإيماني – ذكورًا وإناثًا – على بعضهم البعض، وقد تحدث عنها القرآن بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[22].

ولهذه الآية المباركة مدلولان:

أ – المدلول المطابقي، وهو: أنَّ لكلّ مؤمن ولاية على المؤمن الآخر، كما أنَّ لكلّ مؤمنة ولاية على المؤمنة الأخرى، بل إنّ للمؤمن ولايةً على المؤمنة كما أنّ للمؤمنة ولايةً على المؤمن، وقد جعل اللهُ هذه الولاية في حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث لو رأى مؤمنٌ مؤمنًا يرتكب أمرًا منكرًا، أو قد ترك معروفًا؛ فإنّ له الحقّ – ضمن شروط خاصّة – في أن ينهاه عن المنكر ويأمره بالمعروف، بمقتضى هذه الولاية.

ب المدلول الالتزامي، وهو: أنَّ كلّ واحد من أبناء المجتمع الإيماني يجب عليه أن يخضع لولاية ووصاية غيره من المؤمنين، بمعنى أنه عندما ينهى مؤمنٌ مؤمنًا آخر عن منكر صدر منه، أو يأمره بمعروف قد سوَّف العمل به، فإنّه يجب عليه الخضوع لولاية ذلك المؤمن، ولا يحقّ له أن يتذمّر كما يفعل البعض؛ إذ الآية المباركة عندما تقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، فهي تعني أنّ الله تعالى قد جعل لكلّ مؤمن ولايةً على غيره، ليأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وبالتالي فلو لم يكن الانتهاء عن المنكر عند النهي عنه لازمًا، والائتمار بالمعروف عند الأمر به واجبًا، لكان تشريع وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاغيًا.

وبعبارة أخرى، لو قال الشّارع: أيّها المؤمن يجب عليك أن تنهى عن المنكر، ولكن أنت يا فاعل المنكر لا يجب عليك الخضوع لنهي المؤمن، كان إيجابه للنهي عن المنكر لغوًا.

وعليه، فلا بدَّ أن يكون الإلزام للطرفين: الآمر والمأمور، والناهي والمنهي، لكي يتحقّق الغرض من التّشريع الأول، ويكون نفس التشريع متناسقًا ومنسجمًا مع بعضه البعض.

القسم الثاني: الوصاية الخاصّة.

وقد جعلها اللهُ تعالى للعلماء الربانيين؛ لما ورد عن النبي محمدٍ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: ((إذا ظهرت البدعُ في أمتي فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله))[23]، وهذا يعني أنَّ الشارع المقدّس قد جعل للعالم الرباني وصاية خاصّة على المجتمع، ليراقب ويرصد ويتدخّل وينتقد ويواجه البدع والانحرافات الاجتماعيّة.

وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: ((والعلماء في أنفسهم خانَةٌ جمع خائن إن كتموا النصيحة، إن رأوا تائهًا ضالًا لا يهدونه، أو ميتًا لا يحيونه، فبئس ما يصنعون؛ لأنَّ الله تبارك وتعالى أخذ عليهم الميثاق في الكتاب أن يأمروا بالمعروف وبما أُمروا به، وأن ينهوا عما نهوا عنه، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان))[24].

وهذه الرواية صريحة جدًا في أنَّ الإسلام يعتبر العالم الذي يترك النصيحة لمجتمعه خائنًا، ولا معنى لاعتباره كذلك لو لم تكن له وصاية على المجتمع.

ومِن هنا ذهبَ بعض الفقهاء – ومنهم: سيدنا الأستاذ المعظّم، المرجع الديني الكبير، سماحة آية الله العظمى، السيد محمد صادق الحسيني الروحاني (دامت بركات وجوده)[25] – إلى أنّ الآية المباركة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[26]، ليست تتحدّث عن الوصاية العامّة، وإنما تتحدّث عن الوصاية الخاصّة؛ لأنّها استعملت صيغة التبعيض فقالت: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}، مع أنَّ الوصاية العامّة لكلّ أحدٍ من أبناء المجتمع الإيماني، وليست لبعضٍ دون بعض.

* لماذا الوصاية الخاصّة للعلماء؟

وهنا قد يُطْرَح تساؤلٌ قيّم، وهو: أنَّ العلماء إذا كانوا داخلين في عنوان المؤمنين، فهذا يعني أنَّ الله تعالى قد جعل لهم وصايةً بما هم مؤمنون، وإذا كان قد جعلَ لهم ولايةً بما هم كذلك، فلماذا جعل لهم وصايةً بما هم علماء؟! وبعبارة مختصرة: لماذا هناك وصاية عامّة ووصاية خاصّة؟

والجواب: أنّ ذلك باعتبار أنَّ الانحرافات على قسمين:

القسم الأول: الانحرافات الواضحة، وهي: التي يدركها كلّ أبناء المجتمع، وهنا يأتي دور الوصاية العامّة، حيث يحقّ لكلّ أحدٍ أن ينتقد ويردع وينهى عن المنكرات.

القسم الثاني: الانحرافات الخفيّة، وهي: التي لا يدرك جذورها إلا العلماء المستضيئون بنور الله تعالى، ومن هنا جعل اللهُ تعالى لهم وصايةً خاصّةً لم يجعلها لغيرهم؛ ولأجلها عبّرت عنهم النصوص بأنهم ((حصون الإسلام، كحصون سورة المدينة لها))[27].

ومن هنا يتّضح: أنَّ حدود وصاية العالم أوسع من حدود وصاية عموم المؤمنين.

النقطة الرابعة: بيان مجالات الوصاية.

بعد أن جعل اللهُ الوصايةَ العامّةَ لعموم المؤمنين، وجعل الوصايةَ الخاصّةَ لخصوص العلماء الربانيين، يقع الكلام هنا حول مجالات إعمال الوصاية بشقيها، وخلاصته: أنَّ هنالك ثلاثة مجالات:

المجال الأول: المجال الديني.

فللمجتمع الإيماني وصايةٌ على أبنائه المنتمين إليه، بمعنى أنه متى ما انحرف أحدهم انحرافًا دينيًا وجب على المجتمع الإيماني ردعه، ويشهد لذلك ما جعله الشارع من العقوبات في قبال الانحرافات الدينية، وتكليفه أبناء المجتمع الإيماني – كلًا أو بعضًا – بمعاقبة المنحرف الديني وردعه، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): ((من رغب عن دين الإسلام، وكفر بما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله) بعد إسلامه، فلا توبة له، وقد وجب قتله، وبانت امرأته منه، فليُقَسَّم ما ترك على ولده))[28].

ومن هنا جاء حدّ الردّة – وهو القتل – كواحدٍ من الحدود الشرعيّة، على من ينحرف دينيًا.

وقد يقول قائل: ألهذه الدرجة قد بلغ ضعف الإسلام، وخوفه على المنتمين إليه، بحيث يجعل حدَّ القتل على من ينحرف عنه دينيًا؟! ثم إنّ القرآن يقول: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[29]، فكيف يناقض نفسه، فيجعل القتل حدًا للرّدّة، ومع ذلك يقول: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين؟!

والجواب:

أولًا: إنّ الآية المباركة {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[30]، لا تدلّ على أنّ الإسلام يتسامح في مسألة اعتناق الدّين، فإنّها إنما تتحدّث عن حقيقةٍ خارجيّةٍ، وهي: أنّ الدّين لشدّة وضوحه وتلاؤمه مع الفطرة والعقل لا يحتاج إلى الإكراه، ولذلك فإنَّ الآية المباركة بعد أن قالت: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} عقّبت على ذلك بقولها: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}، أي: أنّ الدّين بيّنٌ وواضحٌ وجليٌ، وملائمٌ للفطرة والعقول، فهو لا يحتاج إلى الإكراه.

وثانيًا: إنَّ الإسلام عندما جعل القتلَ حدًا للرّدّة فليس ذلك لضعفٍ فيه، بل لضعفٍ في المسلمين؛ إذ من حقّ الإسلام أن يحافظ على أبنائه، وعندما يرتدّ شخصٌ عن الدّين أو المذهب، فإنّه تارةً يرتدّ ولا يعلم أحدٌ بارتداده، فحينئذٍ لا يُقْتَل، وإنّما يُقْتَل إذا جاهر بارتداده؛ إذ المتجاهر بالارتداد جرثومة فسادٍ في المجتمع، ومثله لا بدَّ من اجتثاثه.

وقد وجدنا حتّى في مجتمعنا أشخاصًا تبنّوا أفكارًا لادينيّة، وانحرفوا بعدما قرؤوا أفكار بعض الحداثيّين والليبراليّين، وهم لا يمتلكون قاعدةً فكريّةً حصينةً، وهذا ما يؤكّد حقّ الإسلام في الخوف على أمثال هؤلاء الضعفاء واحتوائهم.

فاتضح أنّ الإسلام إنما أمر بقتل المتجاهرين بالارتداد؛ لأنّهم جراثيم فسادٍ قد يُفسدون غير المتحصّنين فكريًا وثقافيًا ممن ينتمون إلى الإسلام، فخوفًا منه على أبنائه – غير المحصّنين – وحرصًا منه عليهم، كخوف الأب على صغار أبنائه، وحرص الطبيب على مرضاه، شرَّع الحدَّ المذكور، وأمر بتطبيقه.

المجال الثاني: المجال الفكري.

من عجائب ما تناهى إلى أسماعنا من بعض المحسوبين على المتديّنين، وقرأناه لبعضهم: القول بأنّه لا توجد وصايةٌ فكريّةٌ لأحدٍ على أحد، وهو قول خاطئٌ وخطير للغاية.

والصحيح: أنّ للمجتمع وصايةً فكريةً على المنتمين إليه، إذا انحرفت أفكارهم، وداهمتهم الشبهات المضللة، ويشهد لذلك: ما وردَ بسندٍ صحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام)، بسنده عن جدّه المصطفى (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ((إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي، فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم[31]، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم؛ كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام))[32].

وهذه الرواية صريحة جدًا في أنَّ الشّارع قد جعل وصايةً لأبناء المجتمع على المنحرفين فكريًا، ومن هنا يتضح أنَّ بعض العلماء حينما يواجه بعضَ الأفكار المنحرفة، ويحكم عليها وعلى صاحبها بأحكام معيّنةٍ كالضلال والإضلال، ويبيّن للنّاس خطأها؛ فإنَّ هذا من منطلق الوصاية التي جعلها اللهُ تعالى للمجتمع الإيماني في المجال الفكري.

المجال الثالث: المجال السلوكي.

من جملة الأطروحات الحداثية – التي كَثُرَ تداولها – أنّ كلّ فردٍ حرٌّ في أفعاله وسلوكياته بالحرية الشخصية، فله أن يفعل ما يشاء، والمجتمع لا علاقة له به.

والصحيح: أنّ للمجتمع حقّ الوصاية على ذوي الانحرافات السلوكية، سواء كانوا أفرادًا أم جماعات، ويشهد لذلك قول الله (تعالى مجده) في كتابه الكريم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[33].

وقوله أيضًا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[34].

وقوله تعالى شأنه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[35].

والمستفاد من مجموع هذه النصوص: أنَّ الشارع قد جعل إزاء كلِّ انحراف سلوكي حدًا معينًا أو تعزيرًا، وهذا يعني بالضرورة أنه جعل للمجتمع الإيماني وصايةً على سلوك النّاس، وبالتالي فمتى ما مارس أحدٌ سلوكًا خاطئًا – كما لو قام بالقتل أو السرقة أو الزنا أو السطو المسلح وما شاكل ذلك من الجرائم والانحرافات السلوكية – وجبَ على المجتمع نهيه وردعه ومواجهته، حتى يحافظ على طهارته.

وإنَّ ترك إقامة الحدود والتعزيرات – من قبل الجهات المعنية بذلك – من أكبر العوامل المساهمة في تحوّيل المجتمع إلى بؤرة فساد ومنطقة مخيفة، لا أمن ولا أمان فيها.

وخلاصة الكلام: أنَّ مبدأ الوصاية مبدأ ديني، وقد جعله الله تعالى للمؤمنين على بعضهم البعض، وله مجالات ثلاثة، وهي المجال الدينيّ والفكريّ والسلوكيّ.


الهوامش:

[1] سورة العصر المباركة.

[2] سورة التحريم، الآية: 6.

[3] وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة، ج16، ص 148، باب وجوب أمر الأهلين بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ح3.

[4] سورة البقرة، الآية: 105.

[5] سورة يونس، الآية: 41.

[6] سورة يونس، الآية: 108.

[7] سورة المائدة، الآية: 105.

[8] سورة يونس، الآية: 41.

[9] سورة يونس، الآية: 108.

[10] سورة الذاريات، الآية: 56.

[11] سورة آل عمران، الآية: 104.

[12] سورة المائدة، الآيتان: 78، 79.

[13] سورة المائدة، الآيتان: 62، 63.

[14] سورة الأعراف، الآيتان: 164، 165.

[15] الروضة من الكافي، ج8، ص158، ح151.

[16] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج74، ص214، باب وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن بن علي (عليه السلام)، ح2.

[17] سورة البقرة، الآية: 21.

[18] القائم على حدود الله هو المتمسّك بها والحريص على تطبيقها، وأمّا المداهن فهو المتسامح الذي يطبق شيئًا دون آخر.

[19] كنز العمّال: ج3، ص69.

[20] بحار الأنوار: ج76، ص27.

[21] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج74، ص214.

[22] سورة التوبة، الآية: 71.

[23] وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج16، ص269، باب وجوب إظهار العلم عند ظهور البدع وتحريم كتمه إلا لتقية وخوف، وتحريم الابتداع، ح1.

[24] الكافي، ج8، ص54، ح16.

[25] فقه الصادق، ج 13، ص 238.

[26] سورة آل عمران، الآية: 104.

[27] الكافي: ج1، ص38.

[28] الكافي، ج7، ص153، باب ميراث المرتد عن الإسلام، ح4.

[29] سورة البقرة، الآية: 256.

[30] سورة البقرة، الآية: 256.

[31] ليس المقصود بالسبّ هنا: التلفّظ بالألفاظ البذيئة، بل المقصود: استخدام الألفاظ التي توجب النقيصة عند النّاس وإسقاط الموقعيّة.

[32] الكافي، ج2، ص375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح4.

[33] سورة المائدة، الآية: 38.

[34] سورة النور، الآية: 2.

[35] سورة البقرة، الآية: 179.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1432

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *