تاريخ المحاضرة: 07/01/1438
نقاط البحث:
- بيان المقصود من الاتّجاه الحشويّ
- الأخذ بكل رواية
- عدم اعتماد العقل كمصدر للمعرفة
- الجمود على الفهم الحرفيّ للنصوص
- رفض علم الرجال رفضًا كلّيًّا
- بيان خطورة الاتّجاه الحشويّ على التشيّع
- سدّ باب الاجتهاد
- فتح المجال للمذاهب الفاسدة، دعاوى المهدوية نموذجًا
- انتشار ظاهرة الشذوذ الفكريّ، القول بسهو النبي (ص) ومطلاقية الإمام الحسن (ع) نموذجًا
- سيادة الفهم القشريّ، روايات التحريف نموذجًا
- بيان موقف علمائنا من الاتّجاه الحشويّ
- وقفة مع دعوى تضييع السيّد الخوئيّ للتراث الروائيّ
- بيان فلسفة رفض علمائنا لبعض الروايات
- وقفة مع التمسّك برواية مهدويّة لتحليل الخمس
التسجيل الصوتي:
اليوتيوب:
حسينية الزين بالقديح
حسينية عمارة بالربيعية
معلومات أخرى:
- هذه المحاضرة موجودة في كتاب (وجهًا لوجه بين الأصالة والتجديد، ط2، ج2، ص223).
الاتجاه_الحشوي_وخطره_على_التشيع.pdf
نصّ المحاضرة
قال الله العظيم: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}[1].
ونسلّط الضوء على هذا الموضوع من خلال ثلاثة محاور:
المحور الأول: المقصود من الاتّجاه الحشويّ وسماته الفكرية.
إنَّ (الحشويّة) أو (الحشويّة) – بفتح الشين أو بسكونها – اسمٌ كان يُطْلَق في بداية الأمر على جماعةٍ من المخالفين لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ثم بدأ يُطْلَق على كلّ اتّجاه فكري يتّسم بسمات أربع:
السمة الأولى: الأخذ بكلّ حديث ورواية، من غير التمييز بين الرواية المعتبرة والرواية غير المعتبرة، وهذا ما تحدّث عنه المحقق الحلي (أعلى الله مقامه) في كتابه (المعتبر) حيث قال: ((أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكلّ خبر، وما فطنوا ما تحته من التناقض))[2].
ومن هنا سمّوا بالحشويّة؛ إذ أنَّ هذا الاسم مأخوذٌ من الحشو، وهو ما تُحشى به الوسادة، باعتبار أنَّها تُحشى بكلّ ما يساهم في تعبئتها، وإن تفاوت من حيث الجودة والقيمة، وبما أنَّ هؤلاء فد حشوا منظومتهم الفكرية والفقهية والعقدية بكلّ ما عثروا عليه من الروايات؛ لذلك سُمّوا بـ(الحشويّة).
السمة الثانية: حصر المعرفة بالنص الدينيّ، ورفض اعتبار العقل وما شاكله – كالسيرة العقلائية – مصدرًا للمعرفة، فإنَّ مصادر المعرفة عند علماء مدرسة أهل البيت (ع) متعدّدة، فمنها النصوص من ناحية، والعقل من ناحية أخرى، والسيرة العقلائية من ناحية ثالثة، بيدَ أنَّ الحشويّة يحصرون مصدر المعرفة في النصّ الدينيّ.
السمة الثالثة: الجمود على الفهم الحرفيّ للنصوص، ولذا قد يُعبَّر عنهم بـ(أهل الظاهر)، ومن أجل توضيح هذه السمة نضرب مثالين:
المثال الأوّل: روايات حضور المعصومين (ع) للميّت ساعة الاحتضار، فإنَّ هذه الروايات متعدّدة ومتظافرة، بل هي بنظر بعض علمائنا متواترة، غير أنَّ الكلام في كيفية حضورهم (ع) عند المحتضر، حيث يرى أصحاب الاتّجاه الحشويّ أنَّهم يحضرون بذواتهم وأعيانهم، جمودًا منهم على القراءة الحرفيّة للنصوص[3].
والحال أنَّ هذا الفهم الحرفيّ يصطدم مع الوجدان؛ إذ ربَّ ميّتٍ يموت في شرق الأرض، ويموت آخر في غربها في الوقت نفسه، ولا يمكن أن يحضر الأئمة (ع) بأعيانهم -المحكومة بقوانين عالم المادّة- لكليهما في آنٍ واحدٍ رغم كونهما في مكانين متباعدين، ممّا دعا غير واحدٍ من علمائنا لتجاوز هذه القراءة الحرفيّة الجامدة، وتوجيه النصوص بما لا يتنافى مع الوجدان، ولهم في ذلك مسالك متعدّدة، نعرض لها في محلّها إن شاء الله تعالى.
المثال الثاني: نصوص عالم الأنوار، فإنَّنا نعتقد بأنَّ المعصومين (ع) كانوا أنوارًا تسبِّح لله تحت ساق العرش قبل خلق السماوات والأرض، وقد دلّت على هذه العقيدة رواياتٌ كثيرةٌ جدًّا -بالغة حدّ التواتر- وهي واردةٌ من طريق القوم قبل طريقنا، ولكنَّ الكلام في معنى كونهم أنوارًا في ذلك العالم، فهل كانوا أنوارًا بذواتهم التي وُجدوا بها في هذه النشأة؟ أم كانوا أشباحًا نوريّة؟ ويجيب عن ذلك الحشويّة قائلين: بأنَّهم (ع) كانوا أنورًا بنفس ذواتهم وأعيانهم التي وُجدوا بها في عالم الدنيا، وما هذا إلّا لأنّهم قد جمدوا على الفهم الحرفيّ للروايات، ولم يقبلوا تأويلًا ولا توجيهًا[4].
السمة الرابعة: رفض علم الرجال رفضًا كلّيًّا، واعتباره من العلوم المبتدعة التي لا أساس لها، ويراد بعلم الرجال: (العلم الذي يبحث حول أحوال الرواة الذين نقلوا الروايات، من حيث وثاقتهم وضعفهم)؛ إذ الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) من أهمّ مصادر المعرفة عندنا، إلّا أنَّها قد وصلتنا عن طريق مجموعة من الرواة، منهم الثقة ومنهم الضعيف ومنهم المجهول، والعلم الذي يتكفّل ببيان حالهم -من حيث الوثاقة والضعف- هو علم الرجال.
ومن الواضح أنَّ الحشويّة إنَّما يرفضون علم الرجال رفضًا كلّيًّا لأنّه يقف عقبةً كؤودًا أمامهم؛ إذ هم يريدون الأخذ بكلّ رواية، بينما علم الرجال يمنع من الأخذ بالروايات الواردة عن الرواة الضعاف المعروفين بالكذب.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أنَّ قسمًا من علمائنا -لمبنى علميٍّ عنده- لا يرى حاجة كبيرة لعلم الرجال، ولكنّه لا يوجد أحدٌ منهم يحارب علم الرجال، ويرفضه رفضًا كلّيًّا، كما يروِّج لذلك أصحاب الاتّجاه الحشويّ.
المحور الثاني: خطورة الاتّجاه الحشويّ على التشيّع.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الاتّجاه الحشويّ قبل ألف سنة، أو مئة سنة مثلًا، وإنَّما نتحدّث عن اتّجاهٍ بدأ مجدّدًا يشقّ طريقه في الفكر الشيعيّ، وينمو بين شبابنا يومًا بعد يوم، فما هي مكامن الخطورة في انتشار هذا الاتّجاه الفكريّ؟
ولأجل إلفات النظر إلى مكامن خطورته نقول: توجد هنالك أربع زوايا تكمن فيها خطورة هذا الاتّجاه:
الزاوية الأولى: سدّ باب الاجتهاد.
فإنَّ من أهمّ المعالم والسمات الفارقة التي تميِّز التشيّع عن غيره: فتح باب الاجتهاد، ففي حين أغلق الآخرون حركة الاجتهاد، لا زالت الحركة الفكريّة الاجتهاديّة داخل أروقة المذهب الشيعيّ مستمرّة ودائمة، وهذا هو أحد أسرار قدرة الفقه الشيعيّ على استيعاب المستجدّات ومواكبة المتغيّرات والتعاطي مع المسائل المستحدثة.
إلّا أنَّ الاتّجاه الحشويّ يدعو إلى الاكتفاء بالروايات والنصوص وسدّ باب الاجتهاد، بل يرى أصحاب هذا الاتّجاه أنَّ مراجع الطائفة وفقهاءها (قدّس الله أسرار الماضين منهم، وأدام ظلال الباقين) على خطأ وضلال؛ لأنَّهم -بحسب زعمهم- يمارسون عملية الاجتهاد التي ذمّها أهل البيت (ع) ونهوا عنها في العديد من الروايات الواردة عنهم، ومنها: قول الإمام الصادق (ع): ((نهى رسول الله (ص) عن الحكم بالرأي والقياس، وقال: إنَّ أوّل من قاس إبليس، ومن حكم في شيءٍ من دين الله برأيه خرج من دين الله)) [5].
وهذه الروايات تنطبق – بزعم هؤلاء – على المراجع العظام؛ لأنَّهم يحكمون في دين الله بآرائهم واجتهاداتهم، فهم مذمومون عند أهل البيت (ع).
وتعليقًا على هذه الإثارة، نقول: إنَّ هذه الروايات التي تنهى عن العمل بالرأي إنَّما تنهى عن العمل بالرأي في مقابل النصّ؛ إذ أنّه عندما يوجد نصٌّ عن المعصوم (ع) فإنّه لا بدَّ من الأخذ به، وليس لأحدٍ أن يعمل برأيه في قبال هذا النصّ، وهذا لا ينطبق على مراجعنا؛ لأنَّهم لا يجتهدون في قبال النص، وإنَّما يعملون برأيهم في استخراج المعرفة من نفس النصّ.
ومن أجل توضيح الفكرة نضرب مثالًا، فنقول: من المعلوم أنَّ الارتماس في الماء من محرّمات الإحرام، كما أنَّ الارتماس – على رأي مشهور الفقهاء – من محرّمات الصيام أيضًا، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (ع): ((لا يرتمس المحرم في الماء ولا الصائم))[6]، والسؤال الذي يطرح نفسه حينئذٍ هو: أنّه هل تكفي هذه الرواية للاستدلال على حرمة الارتماس أم لا؟ والجواب عن ذلك: أنَّها لا تكفي؛ لأنَّ النهي الوارد فيها كما يُحْتَمَل أن يكون نهي تحريم يُحْتَمَل أن يكون نهي كراهة، والاحتمالان متكافئان.
وهنا يأتي عمل الفقيه، حيث يبذل قصارى جهده، ويستخدم القواعد التي قام عليها الدليل عنده الدليل المعتبر، إلى أن يصل إلى أنَّ مراد المعصوم (ع) من النهي هنا هو النهي التحريمي مثلًا، ممّا يعني أنَّه لم يُعمِل رأيه في مقابل النصّ، وإنَّما أعمله في فهم النصّ، واقتناص المعرفة من نفس كلام المعصوم، وهذا يعني أنّه لم يحكم بغير دين الله، بل حكم بدين الله، وبالتالي فإنَّ الروايات الناهية عن العمل بالرأي لا تنطبق على عمل فقهائنا ومراجعنا؛ لأنَّ المراد بها هو العمل بالرأي في مقابل النصّ، وأمّا ما عليه مراجعنا وفقهاؤنا فهو غير ذلك، كما أوضحناه.
وكيفما كان، فإنَّ أوّل مكمن لخطورة الاتّجاه الحشويّ -لو كُتِب له الانتشار- هو إقفال باب الاجتهاد، ومن هنا يعبَّر عن أصحاب هذا الاتّجاه بـ(المقلِّدة) أيضًا؛ لأنَّهم يدورون في حلقةٍ كلّ واحد فيها يتابع الآخر، ويرفضون الاجتهاد رفضًا تامًّا.
الزاوية الثانية: فتح المجال للاتّجاهات الفاسدة والمنحرفة.
ويمكن تقريب هذا الخطر بما حدث في بعض المجتمعات الشيعية قبل سنوات قريبة، حيث ظهرت جماعةٌ ادّعت أنَّ شخصًا يقال له أحمد بن إسماعيل البصريّ هو المهديّ وهو القائم وهو اليمانيّ، ودعوا الناس إلى مبايعته زاعمين أنَّ من لم يبايعه فهو من أهل النار.
وإنَّما ظهر هذا الاتّجاه الفكريّ المنحرف من خلال تمسّك أصحابه برواية يرويها الشيخ الطوسي (عليه الرحمة) في كتاب (الغيبة)[7]، ولم يروها غيره، ولذلك الشيخ الحرّ العاملي – وهو من أعاظم علمائنا المحدّثين – في (الفوائد الطوسيّة) عندما يتحدّث عن هذه الرواية يصفها بأنَّها شاذّة[8].
هذا مضافًا إلى كونها متهالكة سندًا؛ إذ أغلب رواتها رواة مجهولون لا يُعْرَف حالهم، ولا يُعْلَم هل هم صادقون أم كاذبون، بل لا يُعْلَم حتى هل هم حقيقيون أم مختلقون، إلّا أنَّ (أحمد بن إسماعيل) وأتباعه قد أخذوا هذه الرواية المتهالكة ورتّبوا عليها عقيدة كاملة، وأسّسوا فرقة ضالة منحرفة.
وهذا ممّا يؤكِّد على أنَّ فتح المجال للأخذ بكلّ رواية وحديث يؤدّي إلى ظهور مثل هذه التيّارات الفكريّة المنحرفة.
الزاوية الثالثة: انتشار ظاهرة الشذوذ الفكريّ.
قد نجد علماءنا مطبقين على فكرة معيّنة، ثمّ يأتي شخصٌ ينتمي إلى الحشويّة ويخرج بفكرة يخالف بها جميع علماء الطائفة، تعويلًا على رواية ضعيفة، وهكذا تنتشر ظاهرة الشذوذ الفكريّ في الفكر الشيعيّ.
ويمكن توضيح الفكرة بروايات السهو، حيث توجد عندنا رواياتٌ عديدةٌ في كتبنا الروائيّة تقول: إنَّ النبي (ص) قد سها في صلاته، ومنها ما ورد عن ذي اليدين أنّه قال: ((صلّى رسول الله صلاة رباعية، وسلّم في ثانيتها سهوًا، فقلتُ: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: كلُّ ذلك لم يكن))[9].
وقد كتب الشيخ المفيد (أعلى الله مقامه) رسالة في نفي السهو عن النبي (ص)، ونسبَ فيها القول بجواز وقوع السهو على رسول الله (ص) تمسّكًا بالأخبار المذكورة إلى الحشويّة[10].
ومن الواضح أنَّ هذا الرأي يمثِّل شذوذًا فكريًّا في قبال ما ذهبَ إليه علماء الطائفة جميعًا، وإنَّما انتهى إليه الحشويّة لأنَّهم يأخذون بكلّ رواية.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: التزام بعضهم بالروايات التي تنهى عن تزويج الإمام الحسن (ع)، وتعلّل ذلك بأنّه مطلاق، ومنها ما ورد في كتاب الكافي، بسنده عن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: ((إنَّ عليًّا قال وهو على المنبر: لا تزوّجوا الحسن فإنّه رجلٌ مطلاقٌ))[11]، وقد التزم بعض أصحاب الاتّجاه الحشويّ بهذه الرواية، لالتزامهم بصحّة كلّ رواية.
هذا، بالرغم من أنَّ الالتزام بمضمون هذه الروايات يعني:
أوّلًا: الاعتقاد بأنَّ الإمام الحسن (ع) كان يصرّ باستمرار على فعل أبغض الحلال عند الله تعالى! لما ورد عنه (ص) أنّه قال: ((إنَّ أبغض الأشياء إلى الله تعالى الطلاق))[12].
وثانيًا: صعوبة التوفيق بينها وبين الروايات الشريفة التي تنصّ على أنَّ الإمام الحسن (ع) كان أزهد وأعبد أهل زمانه(13]، فإنّه لو كان مطلاقًا كما تقول تلك الروايات -بحيث كان يتزوّج ويطلّق ثم يتزوّج ويطلّق، وهكذا- فمتى كان يتفرّغ للعبادة؟ وكيف صار أزهد أهل زمانه، مع تعلّقه الشديد بمسألة الزواج؟!
وثالثًا: عدم انسجامها مع كون الإمام الحسن (ع) مظهر الحلم النبويّ، فإنَّ الشخص الذي كان حليمًا حتّى مع أعدائه، فلم يكن يتعامل مع إساءتهم له بالإساءة لهم، كيف يُتصوَّر في حقّه أنّه كان يجرح مشاعر النساء بلا أدنى مبالاة، بحيث كان يتزوّج المرأة والثنتين والعشر والعشرين، ثم يطلّقهن جارحًا مشاعرهن، ومسيئًا لهن؟!
وكما ترى، فإنَّ هذه المحاذير الفكريّة الشاذّة ممّا تلزم أصحاب الاتّجاه الحشويّ، بسبب تعويلهم على كلّ رواية.
الزاوية الرابعة: سيادة الفهم القشريّ.
فإنَّ الفكر الشيعي يتّسم بالفهم الدقيق -البالغ من العمق درجةً فائقةً جدًّا- للقرآن الكريم والنصوص الروائيّة، إلّا أنَّ انتشار الاتّجاه الحشويّ سيؤدّي إلى تحويل هذا الفهم العميق إلى فهم قشريٍّ سطحيٍّ هشٍّ.
ويمكن توضيح الفكرة بروايات تحريف القرآن، ومنها: قول الإمام الصادق (ع): ((أمّا كتاب الله فحرّفوا، وأمّا الكعبة فهدموا، وأمّا العترة فقتلوا))[14]، فإنَّ أصحاب الاتّجاه الحشويّ عندما يتعاملون مع هذه الروايات يتعاملون معها بجمودٍ على معناها الحرفي، فيبنون على دلالتها على كون الكتاب الموجود بين أيدينا محرَّفًا، بينما علماؤنا في تعاملهم مع هذه الروايات لهم فهم أعمق بكثير، حيث يقولون: إنَّ التحريف المقصود ليس هو التحريف اللفظيّ، وإنَّما هو التحريف المعنويّ، بمعنى أنَّ القرآن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي نزل على النبي (ص) من غير زيادة ولا نقيصة، إلّا أنَّ معانيه قد صُرِفَت إلى غير أهلها.
النقطة الثالثة: موقف علماء الطائفة من الاتّجاه الحشويّ.
من الواضح جدًّا: أنَّ موقف علمائنا من الاتّجاه الحشويّ هو موقف الرفض، غير أنَّ البعض رغم اطّلاعه على هذا الموقف السلبي نجده يصرّ على اتّباع هذا الاتّجاه، وإن خالف علماء الطائفة قاطبة، بل انتهى الأمر ببعضهم إلى اتّهام العلماء بأنَّهم على ضلال، وتصوير موقف الرفض للاتّجاه الحشويّ تضييعًا لأحاديث أهل البيت (ع)، فالحشويّة لا يرون عدم قبول علماء الطائفة لجميع الروايات أمرًا إيجابيًّا، بل يعتبرونه أمرًا سلبيًّا؛ لأنَّ ذلك بنظرهم تفريطٌ منهم في حفظ روايات الأئمة الطاهرين (ع) وتراثهم.
وحين نسأل حشويّة العصر عن المصداق الأبرز لمضيّعي الروايات من علمائنا والمفرّطين فيها، نجد أنَّ مصبّ سهامهم هو سيّد الطائفة الخوئيّ (أعلى الله مقامه الشريف)؛ وما ذاك إلّا لأنَّه كتب موسوعةً رجاليةً اسمها (معجم رجال الحديث) في 24 مجلَّدًا، وميَّز فيها بين الرواة الذين يُعتمَد على رواياتهم والرواة الذين لا يُعتمَد عليهم، وهذا يعني أنَّ الروايات عنده ليست مقبولة بتمامها، بل بعضها مقبولٌ وبعضها مرفوضٌ، وقد طبّق ذلك عمليًّا في فقهه الشريف، حيث استبعد العديد من الروايات وأخرجها عن دائرة الحجّيّة؛ لعدم وثاقة رواتها، وهذا ما دعا أحد حشويّة العصر أن يقول بكلّ جرأة: إنَّ كتاب (معجم الرجال) أشدُّ على التشيّع من ضربة ابن ملجم لرأس أمير المؤمنين (ع)!!
وكيفما كان، فإنَّنا نريد أن نقف عند هذه النقطة ثلاث وقفات مهمّة:
الوقفة الأولى: هل ضيَّع السيد الخوئي الرواياتِ، أم كان حريصًا عليها؟
وإذا أردنا أن نجيب عن هذا التساؤل، فيكفينا أن نتعرَّف على موقفه من كتاب (جامع أحاديث الشيعة)، الذي كان السيد البروجردي (أعلى الله مقامه) – وهو سيّد الطائفة في زمانه – يريد من خلاله جمع روايات أهل البيت (ع)، وتنظيمها تنظيمًا جديدًا، إلّا أنّه توفّي بعد طباعة بعض أجزائه، فتبنَّى السيد الخوئي هذا المشروع، وأمر بطباعة هذا الكتاب، فطُبِع في ثلاثين مجلَّدًا، وكتب مقدّمةً له جاء فيها: (ولمّا كان الكتاب موضعَ تقديري واهتمامي، أحببتُ منذ زمن طبع بقيّة أجزائه ونشرها؛ خدمةً للدين ودعمًا للمذهب)[15]، وهذا بوحده كافٍ لبيان رؤية المحقّق الخوئيّ (قده) لتراث أهل البيت (ع) الروائيّ، وإثبات أنّه لم يضيِّع الروايات، بل كان حريصًا عليها، ويعتبر المحافظة عليها خدمةً للدين ودعمًا للمذهب.
وعلى ضوء موقف السيّد الخوئي (قده) هذا، لك أن تقيس موقف بقيّة العلماء العاملين، ممّن نهجوا منهجه ونحوا منحاه.
الوقفة الثانية: لماذا يرفض علماؤنا بعض الروايات؟
وهذه هي النقطة المهمّة جدًّا؛ إذ رغم اهتمام علمائنا الواضح بالروايات، إلّا أنَّنا نجدهم لا يقبلون كلّ رواية، بل يقبلون بعض الروايات ويرفضون بعضها الآخر، وليس ذلك إلّا بسبب قاعدةٍ قد أسّس لها القرآن الكريم، وهي حرمة العمل بالظنّ، كما قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}[16]؛ إذ من الواضح أنَّ أغلب الروايات الموجودة في المجاميع الروائيّة ليست قطعيّة يقينيّة، بل هي ظنّيّة لا نقطع بصدورها عن المعصوم (ع).
ولإيضاح ذلك نقول: لو أنَّ شخصًا قال لشخصٍ آخر: إنَّ فلانًا قد قال كذا، فإنَّ هذا الخبر ليس قطعيًّا -بمعنى أنَّنا لا نقطع بمطابقته للواقع- وإنَّما هو خبرٌ ظنيٌّ، وسرُّ ظنّيّته أنّه يحتمَل أن يكون الناقل له كاذبًا أو مشتبهًا في نقله، أو غفل عن الجزئيّات.
وهكذا هو حال الروايات الموجودة في الكتب، حيث إنَّنا لم نسمعها من المعصوم (ع) بشكل مباشر، وإنَّما نقلها لنا مجموعةٌ من الرواة، وبما أنَّ هؤلاء يُحْتَمَل فيهم الكذب والاشتباه، مفهذا يعني أنَّ رواياتهم ظنّيّة، وإذا كانت كذلك لم يجز –بحسب القاعدة القرآنيّة– العمل بها؛ لأنَّ القرآن الكريم قد نهى عن العمل بالظنّ.
ومن هنا فقد عقد علماؤنا أبحاثًا مفصّلة تستغرق عمرًا مديدًا دراسةً وتدريسًا، ويُعبَّر عنها في علم الأصول بـ(مباحث الحجّة)، ومن أهمّها بحث (حجّيّة خبر الواحد)، وما الغرض من هذه الأبحاث إلّا إثبات الحجّيّة للروايات الظنيّة، بحيث يجوز العمل بها لدى الشارع المقدّس، وقد خرج بعض علمائنا – كالسيد الخوئي (قده) – من هذه الأبحاث بنتيجةٍ مفادها أنَّ خبر الثقة – أي: الرواية الواردة عن طريق الراوي الثقة – حجّةٌ يجوز العمل بها، وإن كانت ظنّيّة، وذلك بناءً على أدلّة قرآنية وروائية علمية يقينية قطعية تدلّ على حجّية خبر الثقة، وأمّا الرواية التي لم ترد عن طريق الثقة فإنَّها تبقى في إطار الروايات الظنية التي لم يقم دليلٌ على حجّيتها، فلا يجوز العمل بها؛ لأنَّ القرآن قد حرّم العمل بالظنّ.
وخرج قسمٌ آخر من علمائنا بنتيجةٍ مفادها: أنَّ الرواية الظنّيّة إذا كانت خبرًا موثوقًا فهي حجّة، وهذا يعني أنّه ليس من اللازم حتى تكون الرواية حجّة أن ترد دائمًا عن طريق الثقة، بل يكفي أن يحصل الوثوق بها وإن لم ترد عن طريق الثقة، كما لو اجتمع علماؤنا الأوائل – كالصدوق والطوسي والكليني – على نقل رواية معيّنة عن المعصوم (ع)، فيحصل من ذلك وثوقٌ بأنَّها صادرةٌ عن المعصوم (ع)، فتكون حجّةً حينئذٍ، وأمّا الروايات التي لم يحصل وثوقٌ بها فإنَّها تبقى ظنّيّة ويحرم العمل بها.
وقد خرج قسمٌ ثالثٌ من علمائنا بنتيجة ثالثة، وهي أنَّ الخبر الحجّة ليس هو خبر الثقة فقط، ولا الخبر الموثوق فقط، بل هو خبر الثقة الموثوق، وأمّا إذا لم يجتمع فيها هذان الشرطان فإنّهه يبقى ظنّيًّا وغير حجّة.
ومن الواضح أنَّ كلّ مسلكٍ من هذه المسالك الثلاثة له أدلّته، وكلّ فقيهٍ قد اختار أحد هذه المسالك طبقًا للدليل القطعي الذي يراه حجّة بينه وبين ربّه.
وهذا يعني أنَّ قبول علمائنا لبعض الروايات دون بعضها الآخر ليس اعتباطًا، ولا تضييعًا منهم لروايات أهل البيت (ع)، وإنّما لأنَّ الروايات الموجودة بين أيدينا أغلبها ظنّيّة، والظنّ -بحسب الأصل- ليس بحجّة إلّا أن يقوم دليلٌ على حجّيته، فلا بدَّ من الأخذ بالرواية التي قام الدليل على حجّيّتها فقط.
وبناءً على ما ذكرناه يتّضح مدى سذاجة الأسلوب الذي يستخدمه حشويّة العصر، فإنَّهم كثيرًا ما يتشبّثون برواية معيّنة ويقولون: لاحظوا أنَّ المعصوم (ع) قد قال كذا بينما المرجع يقول بخلافه، فكيف تأخذ -أيّها الشيعيّ- بكلام المرجع رغم كونه خلاف كلام المعصوم (ع)؟! والحال أنَّ هذا الحشويّ -الذي يردّد هذا الكلام- لا يستطيع أن يثبت أنَّ المعصوم (ع) قد قال ذلك القول الذي نسبه إليه فعلًا، فيبقى خبرًا ظنّيًّا لا يصحّ العمل به إلّا بعد إقامة الدليل القطعيّ على حجّيّته، وهذا ما لا يستطيع غير الفقيه إثباته.
وهنا يجدر الالتفات إلى أنَّ غير المجتهد إذا قال: قال الإمام الباقر (ع) أو قال الإمام الصادق (ع)، فإنّه إن قصد أنَّ الإمام (ع) قد قال ذلك في الواقع -مع أنَّ الرواية ظنّيّة لا يُقطَع بصدورها عنه- فإنّه يكون كاذبًا على الإمام (ع)؛ لأنّه لم يسمع الرواية منه مباشرة، وإنّما رآها موجودةً في أحد كتب الحديث، وبالتالي فيُحْتَمَل أنَّ المعصوم (ع) قد قالها، كما يُحْتَمَل أنه لم يقلها، فلا تصحّ نسبتها إليه بطورٍ قطعيٍّ.
الوقفة الثالثة: هل خالف فقهاؤنا الرواياتِ في مسألة الخمس؟
ونريد في هذه الوقفة أن نتحدّث باختصار عن روايةٍ كثيرًا ما يتثبّث بها حشويّة العصر، ويحاولون من خلالها إيهام الآخرين بما يزعمونه من إهمال الفقهاء لروايات أهل البيت (ع)، وعملهم بآرائهم واجتهادهم.
والرواية المذكورة هي قول إمام الزمان (أرواحنا فداه): ((وأمّا الخمس فقد أبيح لشيعتنا، وجُعِلُوا منه في حلٍّ إلى أن يظهر أمرنا؛ لتطيب ولادتهم ولا تخبث))[17]، حيث يقول الحشويّة: إنَّ الإمام الحجّة (ع) بحسب صريح هذه الرواية قد قال: إنَّ الخمس قد أبيح للشيعة، بينما المراجع يطالبون الشيعة في زمن الغيبة بدفع الخمس، ممّا يعني أنَّ المراجع يخالفون أحاديث الأئمة (ع)، ويعبثون في دين الله تعالى وأحكامه بآرائهم واجتهاداتهم.
وتعليقًا على هذه الإثارة، نقول: لا شكّ في أنَّ أصل وجوب الخمس يقينيٌّ وليس ظنيًّا؛ لأنّه منصوصٌ عليه نصًّا صريحًا في القرآن الكريم، حيث يقول تعالى شأنه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}[18]، بينما الرواية المذكورة روايةٌ ظنّيّةٌ، وحين نريد الأخذ بها فإنَّنا نكون قد رفعنا أيدينا عن اليقين بالظن، مع أنَّ الظنّ -بحسب الأصل- لا يجوز العمل به.
ولذلك فإنَّ من يريد الأخذ بهذه الرواية فإنّه لا بدّ أن يثبت حجّيّتها أوّلًا؛ لأنّه لم يسمعها من الإمام (ع) بشكل مباشر، وإنّما رآها منقولةً عن الإمام في أحد كتب الحديث، وقد اتّضح أنَّ هذا النحو من الروايات ظنّيّ الصدور عن المعصوم (ع) وليس قطعيًّا؛ إذ إذ يُحْتَمَل أنَّ الإمام قاله كما يُحْتَمَل أنه لم يقله، وبالتالي فعندما يطالبنا هؤلاء بالأخذ بهذه الرواية فإنَّهم لا بدَّ أن يثبتوا أنَّ الإمام قد قالها، وهو ما يعجزون عن إثباته.
والحاصل: فإنَّ مراجع الطائفة ليسوا غافلين عن هذه الرواية وأمثالها، بل هم ملتفتون إلى وجودها، ولكنّهم يرون: أنَّ الأصل في كلّ رواية ظنّيّة هو عدم جواز العمل بها، حتّى يقوم الدليل على حجّيّتها، لذا لم يعملوا بها، وحتّى من ذهب منهم إلى حجّيّتها فإنّه -بقرينة ذيلها- قد أطّرها بخمس الجواري ونحوه.
والذي ننتهي إليه من جميع ما ذكرناه: أنَّ أصحاب الاتّجاه الحشويّ إنَّما يسيرون خلف الظنون والأوهام، ويتشبّثون بكلّ رواية ظنّيّة وإن لم يقم دليلٌ على حجّيّتها، بينما علماء الطائفة علماء علمٍ ويقينٍ، فلا يتمسّكون بالروايات الظنّيّة حتى يقيموا على حجّيّتها دليلًا قطعيًّا يقينيًّا.
الهوامش:
[1] يونس 10: 59.
[2] المعتبر: 1: 29.
[3] لاحظ (أوائل المقالات) للشيخ المفيد: 74.
[4] لاحظ (المسائل العكبرية) للشيخ المفيد: 28.
[5] مستدرك الوسائل: 17 : 254.
[6] الكافي: 4 : 353.
[7] كتاب الغيبة: 151، ومحلّ الشاهد منها عندهم قول النبي (ص): ((ثم يكون من بعده اثنا عشر مهديًّا، فإذا حضرته الوفاة فليسلِّمها إلى ابنه أوّل المقرَّبين)).
[8] الفوائد الطوسيّة: 117.
[9] رسالة (عدم سهو النبي) للشيخ المفيد: 23.
[10] رسالة (عدم سهو النبي) للشيخ المفيد: 23.
[11] الكافي: 6 : 56.
[12] الخلاف للشيخ الطوسي: 4 :484.
[13] ومنها: ما ورد عن الإمام زين العابدين (ع): ((أنَّ الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ع) كان أعبد الناس في زمانه وأزهدهم)). الكافي: 3 : 331.
[14] بصائر الدرجات: 433.
[15] تجد الوثيقة كاملةً في بداية كلّ جزء من أجزاء موسوعة (جامع أحاديث الشيعة).
[16] يونس 10: 36. النجم 53: 28.
[17] وسائل الشيعة: 9: 550.
[18] الأنفال 8: 41.
شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1438