مفهوم الحرية في الإسلام

تاريخ الندوة: 01/11/1436

نقاط البحث:

  1. نظرة الدين للحرية
    • نقد نظرية الحرية المطلقة
  2. أقسام الحرية وحدودها
    • الحرية العقائدية
      • ما معنى {لا إكراه في الدين}؟
    • الحرية السلوكية
      • الفرق بين الحرية التكوينية والحرية التشريعية
    • الحرية الفكرية

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

 

اليوتيوب:

 


نص المحاضرة

28-الحرية-في-الإسلام،-حقيقتها-وحدودها.pdf

قال تعالى في كتابه الكريم: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[1].

من جملة المفاهيم التي كثر وطال الجدل حولها: مفهوم الحرية، بل لعلنا لا نبالغ لو قلنا: إنه أكثر المفاهيم جدلًا في دائرة الحوار بين الدينيين وغيرهم، ودائمًا ما نسمع في إثارات المتغرّبين والحداثيين اتّهامًا لدين الإسلام بأنَّ معناه إلغاء الحرية، وأنَّه لا يجتمع مع الحرية في الحياة، وأنه تقييدٌ للحريات وتكبيلٌ لها، ومن هنا أحببنا أن نركّز على هذا المفهوم من أجل إيضاح حقيقته وبيان المراد منه من خلال وجهة نظر دينية.

ونلتقي هنا بمحورين مهمّين:

المحور الأول: نظرة الدين للحرّية.

لا يبعد أن تكون الحرية بصورتها المجملة من الأمور الغريزية، بل من الأمور الفطرية المودعة لا عند الإنسان فحسب، بل حتى عند الحيوان، حيث تجد لديه ميلًا نحو الحرية، ويشهد لذلك أنك عندما تحبس طائرًا داخل قفص تجد هذا الطائر يضرب بجناحيه يمينًا وشمالًا باحثًا عن مخرج ليتخلص من القيود المحيطة به، مما يكشف عن كون الحرية من الميول الفطرية الموجودة حتى عند الحيوان فضلًا عن الإنسان، وليست هي أمرًا وليد أطروحات الغربيين وشعاراتهم، وإن حاولوا إيهام الآخرين أنهم دعاة الحرية دون سواهم.

والنقطة الجديرة بالالتفات هي: أنَّ الإعلام الغربي قد استغلّ هذا الميل الفطري لإيهام المتلقي أنَّ الدين من خلال قوانينه التي تقيّد حرية الإنسان يخالف مقتضيات الجبلّة والفطرة، وسيتضح – إن شاء الله تعالى – أنَّ هذا مجرّد تلبيس ماكر مجانب للصواب والحقيقة.

وبعد الوقوف عند هذا المدخل الصغير نقول: يُوجد لدينا تصوران لمفهوم الحرية:

أ– التصوّر الأول: أنَّ الحرية هي إلغاء القيود، والإنسان الحرّ هو الإنسان الذي لا يقف أمامه قيد، بينما الإنسان غير الحر هو الإنسان المحاط بحزمة من القيود والقوانين، ولك أن تعبّر عن هذا المفهوم للحرية بعبارةٍ أخرى، فتقول: إنَّ الحرية هي التمرّد على القيود وتجاوز القوانين والحدود.

مناقشة نظرية الحرّية المطلقة:

ويمكن تسجيل ملاحظتين على هذا التصوّر:

الملاحظة الأولى: إنَّ الالتزام بالقوانين والقيود أمرٌ تفرضه الطبيعة البشرية؛ إذ أنَّ الإنسان – كما يشتهر التعبير عنه في لسان علماء الاجتماع – مدنيٌ بطبعه، فهو بطبيعته وفطرته يميل إلى معاشرة الآخرين، مؤثرًا فيهم ومتأثرًا بهم، وإذا كان الإنسان بطبيعته اجتماعيًا ومدنيًا فلا بُدَّ أن تكون هنالك قوانين تنظّم علاقة الإنسان بمن حوله، حتى لا تتداخل العلاقات في بعضها البعض، ويعتدي القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، والغني على الفقير، فيكون البعض ظالمًا والبعض الآخر مظلومًا، وهو ما تأباه الفطرة السويّة والعدالة الإنسانية، فيتحتّم بمقتضى ذلك وضع لائحة قانونية لتنظيم العلاقات وضبطها.

وعلى هذا، فإنَّ التصور الذي يرى أنَّ الحرية هي تجاوز القوانين والتمرّد على القيود ما هو إلا إلغاء لنداء العقل ومتطلبات الفطرة، ولا يمكن لأيّ مجتمع من المجتمعات أن يلتزم به في حياته العملية، بداهة أنَّ كل مجتمع بشري بحاجة ماسة إلى حاكمية القانون، لاستحالة أن يعيش أيُّ مجتمع من المجتمعات حياة هانئة إلا في ظلّ القانون؛ إذ مع عدمه فإنَّ المجتمع ينقلب إلى غابةٍ مخيفة، ينهش فيها القوي الضعيف، ويأكل فيها الكبير الصغير.

الملاحظة الثانية: إنَّ تصوير أنَّ الحرية هي إطلاق العنان تصويرٌ خاطئٌ جدًا، فإنَّ إطلاق العنان في الحقيقة لا يعني سوى العبودية الممقوتة، والتي يعبّر عنها الإسلام بـ(عبودية الهوى)، وقد أشارَ إليها القرآن الكريم في قوله: {أرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[2] وآياتٍ أخرى.

وبيان ذلك: أنَّ الإنسان مركّب من مجموعة من الغرائز والشهوات، كغريزة حب التملّك، وغريزة الجنس، وغريزة حب البقاء، وغيرها من الغرائز التي تستولي على مفاصل وجوده، والإنسان إزاء هذه الغرائز إن أطلق لها العنان من غير قيد ولا شرط، فسعى لتملّك كل شيء، سواء كان حقًا له أم حقًا لغيره، ومارس الجنس كيف شاء ومتى شاء ومع مَن شاء، ولو كان هذا الذي شاءه مِن محارمه، أو كانت ممارسته عن طريق الاغتصاب، وأطاع غريزة حب الطعام بتناول كل طعام تطاله يداه، كان طيبًا أم خبيثًا، فلا شك في كون هذا الإنسان – وإن زعم الحرية وتغنّى بها – عبدًا أسيرًا لغرائزه وشهواته، وهذا من أسوأ أنواع العبودية، وقد لخّص أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الحقيقة في قوله: ((عبد الشهوة أسيرٌ لا يُفك أسره))[3]، وقوله الآخر: ((عبد الشهوة أذل من عبد الرق))[4].

ب – التصوّر الثاني: أنَّ الحريّة مفهوم نسبي مقنّن، فهي ضرورية في بعض مواردها، ومرفوضة رفضًا تامًا في بعض مواردها الأخرى، وهذا هو التصوّر الديني لهذا المفهوم، وهو ما سيتّضح من خلال النقطة اللاحقة.

المحور الثاني: أقسام الحرية.

يمكننا ابتداءً أن نقسّمَ الحرية إلى ثلاثة أقسام، وبالوقوف عند كل قسم منها نستطيع أن نستوضح الرؤية الدينية حوله، ثمَّ نحاول من خلال المرور بها جميعًا اختصار الرؤية الدينية وإجمالها.

وإليك أقسامها الثلاثة:

القسم الأول: الحرية العقائدية.

وأهمُّ آية قرآنية يستدلّ بها القائلون بالحريّة الاعتقادية في الإسلام هي قوله تعالى شأنه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[5]، حيث يفهم البعضُ من هذه الآية الشريفة: أنَّ للإنسان الحرية في الاعتقاد بأي دين يريد، ولا يجوز لأحد أن يكرهه على دينٍ معيّن.

ولكن يُلاحظ على هذا الاستدلال:

أولًا: أنَّ لسان الآية لم يُحرز ظهوره في الإنشاء، حتى يُستفاد منها حكم تكليفي، لكونه محتملًا جدًا للإخبار، فيكون مفادها: أنَّ دين الإسلام هو دين العقل والمنطق، وبالتالي فهو لا يحتاج أن يجبر أحدًا على اعتناقه؛ إذ أنَّ كل إنسان إذا حكّم عقله ومنطقه يجد أنّ الدين الأسمى المنسجم مع فطرته وطبيعته هو دين الإسلام، فيعتنقه بإرادته واختياره، مِن غير أن يفرضه أحد عليه؛ ولذا فإنَّ الآية بعد أن قالت: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} عقّبت على ذلك بقولها معللّة: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.

وثانيًا: أنَّ نفي الإكراه عن الدين لهُ – مضافًا لما تقدّم – وجهٌ متّجهٌ جدًا، وهو أنَّ الدين أمرٌ قلبيٌ باطني، ومن الواضح أنَّ الأمور القلبية الباطنية – كالحب والبغض – لا يمكن جبر أحد عليها، وبالتالي فإنَّ الدين – بما هو اعتقاد بالجَنَان، كما في الحديث المشهور – لا يصحُّ أن يتعلق به الإكراه.

فظهرَ أنَّ الاستدلال بالآية المباركة على الحرية العقائدية في غير محلّه، والذي ينبغي أن يُقال: إنَّ المراد من الحرية الاعتقادية يدور بين احتمالات:

1 – الاحتمال الأول: أن يُتاح للإنسان الاعتقاد بأي عقيدة دينية، مِن غير أن تترتّب على ذلك أية عقوبة أخروية.

2 – الاحتمال الثاني: أن يُتاح للإنسان الاعتقاد بأي عقيدة دينية، مِن غير أن يُفسح المجال لتخطئتها ونقدها.

3 – الاحتمال الثالث: أن يُتاح للإنسان الاعتقاد بأي عقيدة دينية، مِن غير أن تترتّب على ذلك أحكامٌ شرعية خاصة.

4 – الاحتمال الرابع: أن يُتاح للإنسان الاعتقاد بأي عقيدة دينية، مِن غير أن تترتّب على ذلك أيّة مؤاخذة دنيوية.

فإذا كان المقصود هو الاحتمال الأول: فالصحيح هو القول بعدم وجود حرية عقائدية؛ إذ أنَّ جميع الأديان والشرائع قد نُسخت بشريعة الإسلام، فلا نجاة في الآخرة إلا باعتناقه، كما قد يُستظهر من قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[6].

وإن كان المقصود هو الاحتمال الثاني: فالصحيحُ أيضًا هو القول بعدم وجود حرّية عقائدية؛ إذ أنَّ منهج القرآن الكريم من ألفه إلى يائه قائم على تخطئة ما يعتقده اليهود والنصارى، وعدم الاعتراف بمشروعية معتقداتهم، كما يشهد به تحذيره الدائم من متابعتهم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[7]، وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[8].

وإن كان المقصود هو الاحتمال الثالث: فالصحيحُ أيضًا هو القول بعدم وجود حرّية عقائدية؛ إذ أنَّ هنالك مجموعة من الأحكام الشرعية التي رتّبها الإسلام على اعتناق غير الإسلام، ومِن أبرزها حكمه بنجاسة غير المسلمين في الجملة، وحكمه بعدم جواز دفنهم في مقابر المسلمين، وحكمه بعدم جواز دخولهم في المساجد، وحكمه بعدم إرث الكافر من المسلم، وغير ذلك من الأحكام، وهي بالنتيجة توجب الإلجاء لاعتناق شريعة الإسلام دون غيرها من الشرائع.

وإن كان المقصود هو الاحتمال الرابع: فالصحيحُ أيضًا هو القول بعدم وجود حرّية عقائدية؛ إذ أنَّ هنالك مجموعة من المؤاخذات الشرعية الدنيوية التي رتّبها الإسلام على اعتناق غير الإسلام، ومِن أبرزها حكمه بلزوم الجزية على الكافر الذمّي، وحكمه بوجوب قتل المرتد في الجملة.

وعلى ذلك، فالقول بوجود حرية عقائدية في الإسلام، مما ليس له معنى محصّل، والذي أعتقده أنَّ مَن قال بها إنما قال بها ليدفع عن دين الإسلام ما صوره الإعلام المضاد مثلبةً ونقصًا[9]، مع أنه مما لا حزازة فيه، فإنَّ الخلق عباد الله، والدين دينه تعالى، ومن حقّه تعالى – كمالكٍ وخالق – أن يفرض على عباده الدين الأصلح لهم، كما يحقّ لمالك المؤسسة – مع مسامحةٍ في المثال – أن يفرض نظامًا معينًا على كل العاملين عنده حفظًا لمصالح المؤسسة، ولعلّ هذا هو ما عناه القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[10].

القسم الثاني: الحرية السلوكية.

وهنا ينبغي أن نميّز بين الحرية التكوينية والحرّية التشريعية، فإن أُريدَ من الحرية السلوكية الحرية التكوينية منها – بمعنى أنَّ الإنسان مخيّر غير مسيّر – فهي مسلّمة بلا ريب؛ طبقًا لما تطرحه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من بطلان مذهب الجبر، وهو ما يشهد به الوجدان، ويدل عليه القرآن، كما في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ}[11]، وقوله: {وَكُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ}[12].

وإن أُريد من الحرية السلوكية الحرية التشريعية – بمعنى عدم كون الإنسان ملزمًا شرعًا بسلوك سلوك معيّن – فالصحيح أنَّ الحرية التي يعترف بها الدين في حدود هذا القسم حرية نسبيّة، لا مطلقة؛ إذ أنَّ الأحكام والقوانين الشرعية تطوّق جميع أفعال وتروك الإنسان، وبالتالي فهو مقيّد بها، ولا مندوحة له في تجاوزها، وإلا كان مستحقًا للعقوبة على مخالفة الإلزامي منها – وهو الواجب والمحرّم – ومستحقًا للحرمان من الثواب على مخالفة غير الإلزامي منها، وهو المستحب والمكروه.

فلا يبقى مجال للحرية السلوكية التشريعية إلا في حدود المباحات فقط؛ إذ أنَّ للإنسان أن يمارس فيها السلوكَ الذي يريده ما لم يترتب على ممارستهِ عنوان محرّم، كإيذاء الآخرين أو مزاحمة حقوقهم؛ إذ حين تتزاحم ممارسة الإنسان لحريته مع ممارسة غيره لحريته، يكون ذلك أمدًا لانتهاء الحرية، كما تشهد به صحيحة عن زرارة، عن أبي جعفر u قال: ((إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمر به إلى نخلته ولا يستأذن، فكلمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلما تأبى جاء الأنصاري إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشكا إليه وخبره الخبر، فأرسل إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخبره بقول الأنصاري وما شكا، وقال: إذا أردت الدخول فاستأذن. فأبى، فلما أبى ساومه حتى بلغ به من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمد لك في الجنة. فأبى أن يقبل، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: اذهب فاقلعها وارمِ بها إليه؛ فإنه لا ضرر ولا ضرار))[13].

ومن هنا يتّضح خطأ توهّم وجود الحرية السلوكية المطلقة في الإسلام؛ إذ أنَّ لله تعالى حكمًا في كلّ واقعة، كما هو مفاد العديد من النصوص، وبما أنَّ المكلف ليس مطلق العنان إزاء هذه الأحكام – لكونها مِن ناحيةٍ متعلقة للثواب والعقاب الأخرويين، ومِن ناحيةٍ ثانية فإنَّ الحاكم الشرعي مكلفٌ بإجراء بعض العقوبات على مخالفة بعضها، ومِن ناحيةٍ ثالثةٍ فإنَّ المجتمع مكلّف من خلال عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بردع المتجاوزين لها – فهذا يعني بالبداهة بطلان القول بالحرية السلوكية المطلقة.

القسم الثالث: الحرية الفكرية.

وهنا أيضًا نحتاج أن نحرّر محل الكلام – كما صنعنا في القسمين السابقين – ليتّضح أنَّ هذا القسم من الحرية هل هو مُمضى في الإسلام، أم لا؟ وعلى فرض إمضائه فهل هو مُمضى بنحوٍ مطلق، أم بنحوٍ نسبي؟

فنقول: إن كان المراد من الحرية الفكرية: أنَّ الإنسان مُتاح له الاعتقاد بأي فكرة والتعبير عنها، مِن غير أن يحق لأحد محاسبته، فهذا مرفوضٌ جدًا؛ إذ يلزم التمييز بين ثلاثة أصناف من الأفكار:

1 – الصنف الأول: الأفكار الدينية الثابتة، سواء كانت متعلقًا للاعتقاد، أم موضوعًا لأحد الأحكام الشرعية، نظير وجود الصانع تعالى، وخاتمية الإسلام، ومناصفة المرأة للرجل في الإرث، واستحقاق السارق لقطع اليد.

2 – الصنف الثاني: الأفكار الدينية المتغيرة، سواء كانت متعلقًا للاعتقاد، أم موضوعًا لأحد الأحكام الشرعية، نظير قابليّة علم الأئمة (عليهم السلام) للزيادة وعدمها، ومشروعية الجهاد الابتدائي، ونحو ذلك.

3 – الصنف الثالث: الأفكار التي لا صلة لها بتاتًا بالدين، نظير المعارف الإنسانية المختلفة في حقول الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات ونحو ذلك.

وإذا عرفتَ هذه الأصناف الثلاثة، فإنَّ الصنف الأول لا مسرح لحرّية الفكر فيه، بل المطلوب فيه هو الواقع فحسب، كما يُستفاد من عدّة منبّهات:

المنبّه الأول: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[14]، وقريبٌ منها قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[15].

المنبّه الثاني: النهي عن البدعة – وهي إدخال ما ليس من الدين فيه، أو إخراج ما هو منه عنه[16] – والأمر بمواجهة المبتدع ومحاربته، كقول النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): ((كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))[17]، وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) قال: ((يا يونس، لا تكونن مبتدعًا، مَن نظر برأيه هلك، ومَن ترك أهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله) ضّل، ومَن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر))[18].

وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): ((إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله))[19]، وقوله (صلى الله عليه وآله): ((من أتى ذا بدعة فعظّمه فإنما يسعى في هدم الاسلام))[20]، وقوله (صلى الله عليه وآله): ((من تبسّم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه))[21].

المنبّه الثالث: النهي عن القياس في الدين، ومن أهم النصوص الناهية عنه معتبرة أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ: ((قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السلام): مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَطَعَ إِصْبَعًا مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ، كَمْ فِيهَا؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الإِبِلِ. قُلْتُ: قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ ثَلَاثًا؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ. قُلْتُ: قَطَعَ أَرْبَعًا؟ قَالَ: عِشْرُونَ. قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّه، يَقْطَعُ ثَلَاثًا فَيَكُونُ عَلَيْه ثَلَاثُونَ، ويَقْطَعُ أَرْبَعًا فَيَكُونُ عَلَيْه عِشْرُونَ، إِنَّ هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا ونَحْنُ بِالْعِرَاقِ فَنَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَه، ونَقُولُ الَّذِي جَاءَ بِه شَيْطَانٌ! فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَانُ، هَكَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللَّه (صلى الله عليه وآله)، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى النِّصْفِ، يَا أَبَانُ إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ، والسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ))[22].

وفي الرواية عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجل أولى بالمسح من ظاهرها))[23].

وجاء في كتاب (الاحتجاج) عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال لأبي حنيفة في احتجاجه عليه في إبطال القياس: ((أيهما أعظم عند الله: القتل أو الزنا؟ قال: بل القتل. فقال (عليه السلام): فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟!

ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال: بل الصلاة أفضل، فقال (عليه السلام): فيجب – على قياس قولك – على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

ثم قال له: البول أقذر أم المني؟ فقال: البول أقذر. فقال (عليه السلام): يجب – على قياسك – أن يجب الغسل من البول دون المني، وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول.

إلى أن قال (عليه السلام): تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس، ولم يُبْنَ دين الله على القياس))[24].

المنبّه الرابع: النهي عن إعمال العقل في القضايا الدينية، وقد دلّت عليه نصوص كثيرة، منها:

ما عن أبي حمزة الثمالي، قال: قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ((إنَّ دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة، والآراء الباطلة، والمقاييس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلم لنا سلم، ومن اهتدى بنا هدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئًا مما نقوله أو نقضي به حرجًا، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم))[25].

وعَنِ الْمُعَلَّى بْنِ خُنَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه (عليه السلام): ((مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيه اثْنَانِ إِلَّا ولَه أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ولَكِنْ لَا تَبْلُغُه عُقُولُ الرِّجَالِ))[26]، وقريب من ذلك ما وردَ عن بعضهم (عليهم السلام): ((ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من دين الله))[27].

والذي يظهر جليًّا من هذه المنبّهات الأربعة وغيرها: أنَّ الأفكار الدينية الثابتة ليست ميدانًا للحرية الفكرية، ليقول فيها كلٌّ برأيه حسبَ ما ينتهي إليه فكره، بل المطلوب فيها أن يتعبد الإنسان بها كما هي عليه في الواقع، ومتى ما أظهرَ خلافها فيلزم ردعه ومواجهته، ويكون مستحقًا للعذاب الأخروي.

وأما الصنف الثاني – أي: الأفكار الدينية المتغيرة – فالحرية الفكرية وإن كانت متاحة فيها إلا أنها ليست حرية مطلقة، وإنما هي حرّية نسبية في حدود الضوابط التي يقتضيها الاختصاص في المعارف الدينية؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[28]، وهذا قانون عقلائي قبل أن يكون قانونًا شرعيًا وتكليفًا دينيًّا.

وأما الصنف الثالث – أي: الأفكار غير الدينية – فالحرية الفكرية فيها حرية نسبية أيضًا؛ لعين ما ذكرناه سابقًا، مضافًا للزوم مراعاة سائر الحقوق العقلائية، كحق التأليف وحق الاختراع ونحوهما، بحيث لا يصطدم حق الحرية الفكرية للشخص بحقوق غيره من المفكّرين.

فذلكة الكلام حول الرؤية الدينية للحرّية:

وإذا أردنا أن نلخّص جميع ما ذكرناه، فلنا أن نقول: إنَّ الهدف الذي من أجلهِ أوجد اللهُ تعالى البشر هو التكامل الاختياري على ضوء الدين الذي يريده الله تعالى، ليكونوا عبادًا له بحقيقة العبودية، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[29]، وهذا يعني أنَّ العبودية هي المحور الذي تدور عليه سائر الحقوق.

وإذا كان الأمر كذلك، فليس من المعقول أن يجعل الله تعالى للإنسان حقًا ينقض أهدافه السامية، ففي الوقت الذي أوجده من العدم لأجل أن يكون عبدًا له باختياره، لا يُعقل أن يتيح له التمرّد على عبوديته، من غير أن يؤاخذه على ذلك، وإلا كان مضيعًا لأهدافه وغاياته.

وعلى ذلك، فكلُّ ما يتنافى مع العبودية – من فكرٍ أو عقيدة أو سلوك – لا يدخل ضمن حيّز الحريّة، وليسَ يَتَصورُ منافاة هذا الذي ذكرناه لحقوق الإنسان إلا مَن لم يؤمن بوجود المبدأ (تعالى وجوده)؛ لكونه ينطلق من محورية الإنسان في تحديد الحقوق التي له وعليه، بينما المؤمن بالمبدأ ينطلق من محورية العبودية لله تعالى، ولا شك في اختلاف النتائج وتغايرها بعد فرض تغاير المنطلقات والمحاور.

ولك أن تقول بعبارة أخرى: لا معنى للقول بوجود حرية مِن زاوية نظر دينية إلا في الموارد التي أطلقَ فيها الخالقُ العنان لمخلوقه، ليتصرّف كيف يشاء من غير أن يؤاخذه بأيّ مؤاخذة في الدنيا أو الآخرة، وأما في صورة وجودِ مؤاخذةٍ منه تعالى فدعوى الحرية فيها مجانبة للدقّة والصواب.

ولا يتنافى ذلك مع جبلّية الحرية وفطريتها؛ فإنَّ كثيرًا من الجبلّيات والفطريات – كحب النفس، والمال، والطعام، والميل الجنسي إلى الجنس الآخر – قد هذّبه الشارع وقنّنه، ولم يجعله شرعة لكلّ وارد، وهكذا تعامل مع الحرية أيضًا، وليس الدين فقط هو الذي قنّنها وحدّدها بحدود معينة، بل حتى اللادينيون قد حدّدوها بحدود معينة – وإن اختلفت حدودهم عن حدود الدين سعةً وضيقًا – ولم يروا في ذلك تنافيًا مع فطريتها.

استفهام حول بعض النصوص الداعية إلى الحرّية:

اشتهر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: ((ولَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ اللَّه حُرًّا))[30]، وطالما تبجّح دعاة الحرية من المتغرّبين بهذا النصّ للدعوة للتحرّر والتمرّد على كلّ شيء.

ولكنّ الصحيح في تقريب معنى النص أن يُقال: إنَّ للإنسان علاقتين:

  • إحداهما علاقته بربه.
  • والأخرى علاقته بغيره.

ومن المقطوع به أنَّ النص ناظر إلى العلاقة الثانية دون الأولى، بداهة أنَّ علاقة الإنسان بربه لا تخرج في مختلف الأحوال عن دائرة العبودية، فلا حريّة فيها، بينما الأصل في علاقة الإنسان بغيره هي الحرية، إلا في صورة تدخّل مالكه الحقيقي – وهو الله تعالى – وجعله السلطة لعنوانٍ معيّن – كالحاكم الشرعي أو الأب أو الزوج – عليهِ في مجالٍ من المجالات، فإنَّ حرّيته تتقلص حينئذ إزاء سلطة ذلك العنوان.

وأما فيما سوى ذلك فمن المعيب أن يجعل الإنسان نفسه أسيرًا لغيره، ويتّبعه في كلّ أقواله وأفعاله، ملغيًا نعمة عقله وتفكيره وقدرته على الإبداع، وتزداد هذه التبعية قبحًا فيما لو كان الاتّباع الأعمى بداعي إشباع نهم الغرائز والرغبات الشهوية، وهي حقيقة نابعة عن عدم الشعور بالكرامة الإنسانية في حياة بعض الأشخاص.


الهوامش:

[1] سورة الكهف، الآية: 29.

[2] سورة الفرقان، الآية: 43.

[3] عيون الحكم والمواعظ: 341.

[4] عيون الحكم والمواعظ: 341.

[5] سورة البقرة، الآية: 256.

[6] سورة آل عمران، الآية: 85.

[7] سورة المائدة، الآية: 51.

[8] سورة البقرة، الآية: 120.

[9] ومما يجدر ذكره والتنبيه عليه: أنَّ أعداء الإسلام قد نجحوا في تمرير شبهاتهم اللادينية، حيث يطرحون الشبهة بنحوٍ يفرض على المنتمي للدين أن يسلّم بها، ثم يسعى للبحث عن إجابة عنها، والحال أنها ساقطة من أساسها، ولك أن تتأمل فيما ذكرناه حول شبهة تقييد الحرية، وقِس عليها الكثير من الشبهات، سيما ما يتعلق منها بمكانة المرأة في الإسلام.

[10] سورة الأنفال، الآية: 39.

[11] سورة المدثر، الآية: 38.

[12] سورة الطور، الآية: 21.

[13] وسائل الشيعة: 25 / 427.

[14] سورة الأحزاب، الآية: 36.

[15] سورة النساء، الآية: 65.

[16] جاء في كتاب (الاحتجاج) 1/246 عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأما أهل البدعة: فالمخالفون لأمر الله ولكتابه ولرسوله، العاملون برأيهم وأهوائهم).

[17] الكافي: 1 / 57.

[18] الكافي: 1 / 56.

[19] الكافي: 1 / 54.

[20] الكافي: 1 / 54.

[21] بحار الأنوار: 47 / 217.

[22] الكافي: 7 / 299.

[23] مستدرك الوسائل: 17 / 264 و 267.

[24] وسائل الشيعة: 27 / 48.

[25] مستدرك الوسائل: 17 / 262.

[26] الكافي: 1 / 60.

[27] فرائد الأصول: 1 / 530.

[28] سورة الإسراء، الآية 36.

[29] سورة الذاريات، الآية 56.

[30] نهج البلاغة: 3/51.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > مناسبات متفرقة > ندوات ولقاءات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *