هل يصح إطلاق لقب (الراهب) على الإمام الكاظم (ع)؟

س: هل يصلح إطلاقُ لَقب “الراهب” على سيدنا وإمامنا موسى بن جعفر الكاظم (صلوات الله عليه)، حيث يطلق البعض على إمامنا باب الحوائج (عليه السلام) لقب “راهب آل محمد”؟

مع ملاحظة أنَّ الرهبانية قد جاءت من النصارى مِن جهة، ومن جهة أخرى صَدَر هذا الوصف من هارون العباسي، حيث جاء في (عيون الأخبار: ج1، ص89) في قول هارون لما رأى طول سجود الإمام (عليه السلام): (أَمَا أَنَّ هَذَا مِنْ رُهْبَانِ بَنِي هَاشِمٍ).

وهل يتعارض إطلاقُ هذا اللقب على الإمام الكاظم (عليه السلام) مع المضمون الروائي الدال على أنّهُ: (لا رهبانية في الإسلام)، وما جاء عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية)؟

الجواب

بسم الله الرحمن الرحيم

ج: بحسب تتبعي للإشكالات التي أثيرت حول إطلاق لقب (الراهب) على إمامنا باب الحوائج (عليه السلام) وجدتُ أنّها ترجع إلى ثلاثة إشكالات رئيسية:

  1. إنَّ الرهبانيّة من أوصاف النصارى المذمومة.
  2. إنَّ توصيف الإمام (عليه السلام) بـ (الراهب) قد جاء على لسان هارون الرشيد.
  3. إنَّ الرهبانيّة مذمومة في الأحاديث الشريفة، نظير قول النبي (صلى الله عليه وآله): (لا رهبانيّة في الإسلام) و(لم يرسلني الله تعالى بالرهبانيّة).

ونحتاج – في مقام الإجابة عن هذه الإشكالات – إلى بيان عدّة من الأمور:

1– الأوّل: إنَّ ألقاب الأئمة (عليهم السلام) ليست ألقاباً توقيفيّة، وعليهِ فإنَّ بعض الألقاب – وإن لم ترد في لسان أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم – يصحُّ انتزاعها من سيرة المعصوم (عليه السلام) وخصائصه، ومن ثمَّ إطلاقها عليه، بشرط أن تكون لائقة بشأنه، نظير تلقيب النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بـ(الصادر الأوّل)، أو تلقيب الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بـ(سيّدة العالَم) أو (سيّدة عالم الملك والملكوت)، وهكذا.

وإنّ الكتابين الجليلين الشهيرين: (مناقب آل أبي طالب) للشيخ ابن شهرآشوب المازندراني، و(كشف الغمّة) للشيخ ابن أبي الفتح الأربلي (قُدّس سرّهما) قد اشتملا على مئات الألقاب والأوصاف الانتزاعية للمعصومين (عليهم السلام)، وهو مما يؤكّد عدم التوقيفية.

2– الثاني: إنَّ بعض الألفاظ – كما لا يخفى – قد تكون لها مصاديق متعددة، وربما كان بعضها ممدوحاً والآخر مذموماً أو مكروهاً، نظير لفظ (الإرهاب) مثلاً، فإنه بمعناه اللغوي يعني إخافة الآخر، وهذا الآخر قد يكون عدواً محارباً، فتحسن إخافته وإرهابه منعاً لشرّه، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وقد يكون مسالماً، فتقبح إخافته وإرهابه.

وهنا ينبغي الالتفات – وهذه نقطةٌ مهمةٌ جداً – إلى أنَّ كثرة استعمال اللفظ في مصداقٍ مذموم لا ينبغي أن تكون موجبة للتنفّر من اللفظ نفسه فيما لو كان معناه صحيحاً في نفسه، وكان هو المقصود باستخدامه، وإلا تلزم من ذلك محاذير متعددة، ومنها: رفع اليد عن مثل الآية القرآنية المذكورة، لأجل ذيوع استخدام لفظ (الإرهاب) في زماننا في أعمال العنف وترويع الآمنين، والحال أنَّ ذلك ممّا لا يصح، كما هو معلوم.

3– الثالث: إنَّ لفظ (الراهب) مأخوذ من (رَهِبَ) بمعنى خاف وفزع، أو (الرهبة) بمعنى الخوف والفزع، وهذا المعنى – كما هو ظاهر – له مصاديق متعددة، والذي يهمنا منها مصداقان:

أ– المصداق الأول: الخوف من الله (جلَّ جلاله) من جهة الاستشعار بعظمته ومعرفة حقوق ربوبيته، مع ملاحظة التقصير في أداء حقوق عبوديته، بالنحو الذي ينعكس على جوارح الإنسان وجوانحه، فيعيش حياة التقوى والزهد والطاعة والعبادة والتعلّق بالله تعالى في ظلِّ تعاليم الشارع المقدّس وتوجيهاته، وقد قال أهل المعنى: بأنَّ الإنسان كلما ازداد استشعاره بعظمة الله تعالى وتقصيره في حقه ازدادت الرهبة والخشية في قلبه، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

ب– المصداق الثاني: الخوف من الله (تبارك وتعالى) بالنحو الذي يفضي إلى التخلّي عن أشغال الدنيا، وترك جميع ملاذها، والعزلة عن أهلها، وتعمّد مشاقها، كما عليه رهبان النصارى، حتى قد بلغَ الحالُ ببعضهم أنّه صار يخصي نفسه، ويضع السلسلة في عنقه، ويفعل بنفسه غير ذلك من أنواع التعذيب.

ولا يخفى أنَّ المصداق الأوّل للخوف والرهبة مصداقٌ ممدوح، بينما المصداق الثاني مصداقٌ مذموم.

وبعد بيان هذه الأمور الثلاثة نعود للإشكالات الثلاثة، فنقف عندها واحداً بعد آخر.

1– أما الإشكال الأوّل: فجوابه أنَّنا لا نقطع بأنَّ القرآن الكريم حين تحدث عن رهبانيّة النصارى قد ذمّها بشكل مطلق، وإيضاح ذلك: إنّه تعالى قد قال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، ومن المحتمل – بعد الغضّ عن صحة تقسيم الاستثناء إلى المتصّل والمنقطع وعدمها – أن يكون الاستثناء متصلاً – كما احتمل ذلك بعض المفسرين، وهو مقتضى الأصل – فيكون تعالى هو الذي كتب الرهبانية عليهم ولو إمضاءً، ولكنّهم حرّفوها ولم يرعوها، فذمّ القرآن الكريم مَن فعلَ منهم ذلك ووصفه بالفسق، بل إنَّ بعض المفسرين قد احتمل أنَّ الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة في صدر الآية، حيث قالت: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً}، فتكون صريحة – إن تمَّ هذا الاحتمال – في كون الرهبانية مجعولة لله تبارك وتعالى.

بل قد يستفاد مما ورد في تفسير الآية عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أنَّ ثمة رهبانية ممدوحة قد أشارت إليها الآية الكريمة، فقد روى الشيخ الصدوق (قدّس سره الشريف) في – من لا يحضره الفقيه 1 / 472 – عن إمامنا أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} قال: صلاة الليل.

وبالجملة، فإنَّ الآية غير صريحة في ذمّ الرهبانية بالمطلق.

2– وأما الإشكال الثاني: فيلاحظ عليه:

أ. أولاً: إنَّ مجرّد ورود وصف معين في حق شخصٍ مّا على لسان خصمه لا يوجب رفع اليد عنه؛ إذ طالما جرى مدح بعض الأشخاص على لسان خصومهم، وقد قال الشاعر العباسي السرِيّ الرّفّاء المَوصِلي قديماً:

وشمائل شهِد العدو بفضلها
والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ

ولذلك شواهد كثيرة وعديدة، ومنها: قول عبد الله بن عمار بن عبد يغوث – قائد الرمَّاحة في جيش بني أمية – في حق خصمه سيد الشهداء (عليه السلام): (ما رأيت مكثوراً قط أربط جأشاً من الحسين، قتل ولده وجميع أصحابه حوله، وأحاطت الكتائب به، فو الله لكان يشدّ عليهم، فينكشفوا عنه اِنكشاف المعز شدّ عليها الأسد، فمكث ملياً من النهار والناس يدافعون، ويكرهون الإقدام عليه).

فلا تُرفع اليد عن الأوصاف التي ترد على لسان الخصوم إلا إذا كانت واردة مورد الذم، وكان الخصم ممن لا يؤتمن على الدين.

ب. وثانياً: إنَّ كلام هارون الرشيد في حق الإمام الكاظم (عليه السلام) قد جاء في سياق المدح، فإنَّ النص يقول: (كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) بضع عشرة سنة كل يوم سجدة بعد انقضاض الشمس إلى وقت الزوال، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس فيه أبو الحسن (عليه السلام) فكان يرى أبا الحسن (عليه السلام) ساجداً، فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر (عليهما السلام)، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، فقال هارون: أما إنَّ هذا من رهبان بني هاشم، قلت: فما لك قد ضيّقتَ عليه في الحبس؟! قال: هيهات لا بدَّ من ذلك)، ولولا أنَّ الربيع قد فهم من توصيف هارون المدح لما صحَّ منه التعقيب بقوله: (فما لك قد ضيّقتَ عليه في الحبس؟!).

3– وأما الإشكال الثالث: فيجاب عنه بأنَّ الأحاديث المذكورة ناظرةٌ للمصداق الثاني من مصاديق الرهبانيّة، الذي تقدم بيانه في الأمر الثالث، لأنه هو الرهبانية المذمومة قرآناً وسنّة، وهو ما تدل عليه أيضاً القرائن الحافة بنفس تلكم الأحاديث، فلاحظ مثلاً ما رواه شيخنا الكليني (أعلى الله مقامه) في الكافي الشريف – ج5 ص494 – بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله إنَّ عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) مغضباً يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح)، فإنَّ الظاهر من ذيل مثل هذا الحديث أنَّ الرهبانية التي نفاها النبي (صلى الله عليه وآله) هي الرهبانية التي تعني مقاطعة الدنيا، وتحريم النكاح، وهي المصداق الثاني المتقدم ذكره.

وفي المقابل تُحمل الأحاديث التي استخدمت لفظ (الرهبانية) في مقام المدح على المصداق الأول، وهي أحاديث كثيرة، ولا بأس بذكر بعضها:

  • عن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): (إنما شيعة عليٍّ الحلماء، العلماء، الذبل الشفاه، تعرف الرهبانية على وجوههم). الكافي – الشيخ الكليني: 2 / 235
  • وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (يا علي، إخوانك ذبل الشفاه، تعرف الرهبانية في وجوههم). الأمالي – الشيخ الصدوق – ص 656.
  • وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في مدح فئة من الشيعة: (والطبقة الثالثة النمط الأوسط، أحبونا في السر ولم يحبونا في العلانية، ولعمري لئن كانوا أحبونا في السر دون العلانية، فهم الصوّامون بالنهار القوّامون بالليل، ترى أثر الرهبانية في وجوههم، أهل سلم وانقياد). تحف العقول: 325
  • وعن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) في وصف المؤمنين: (وَإِذَا تَكَلَّمُوا صَدَقُوا، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، أُسُدٌ بِالنَّهَارِ، صَائِمُونَ النهار، قائمون الليل…). الكافي: 2 / 232.
  • وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنَّ شيعة عليٍّ “صلوات الله عليه” كانوا خمص البطون، ذبل الشفاه، وأهل رأفة وعلم وحلم، يعرفون بالرهبانية، فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع والاجتهاد). الكافي: 2 / 233
  • وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في وصف أصحاب الإمام الحجة (عجّل الله فرجه الشريف): (رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، هم أطوع له من الأمة لسيدها). بحار الأنوار: 52 / 308

والنتيجةُ التي نخلص إليها بعد جميع ما ذكرناه: أنَّ إطلاق لفظ (الراهب) بالمعنى المذكور على الإمام الكاظم (عليه السلام) ممّا لا حزازة فيه في نفسه، كيف وإنَّ له لنظائر في أوصاف المعصومين (عليهم السلام).

منها: ما رواه الشيخ الكليني (طيّب الله ثراه) – في الكافي: 8 / 43 – في مناجاة الله تعالى لنبيه موسى (عليه السلام) توصيفاً للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله): (أوصيك يا موسى وصية الشفيق المشفق بابن البتول عيسى بن مريم صاحب الأتان والبرنس والزيت والزيتون والمحراب، ومن بعده بصاحب الجمل الأحمر الطيب الطاهر المطهر، فمثله في كتابك أنه مؤمن مهيمن على الكتب كلها، وأنه راكع ساجد، راغب، راهب، إخوانه المساكين وأنصاره قوم آخرون).

وأورد ذلك ابن شعبة الحرّاني (طاب ثراه) في (تحف العقول): 491.

ومنها: ما أوردَه الشيخ ابن المشهدي (قُدّس سرّه) – في المزار الكبير: 105 الذي التزم في مقدمته بإيراد ما وصله عن السادات (عليهم السلام) من طريق ثقات الرواة – في مختصر الزيارة الجامعة، قال: (السلام على النور الساطع، والبرق اللامع، والعالم البارع، سليل النبوة، وفطيم الوصية، خدن التأويل، والزناد الأقدح، والفناء الأفيح، والمتجر الأربح، برج البروج، ذي الثفنات، راهب العرب، السجاد زين العابدين البكاء، علي بن الحسين عليهما السلام)، وقد أوردها السيّد ابن طاووس (أعلى الله مقامه) أيضاً في مصباح الزائر: 489.

ومنها: ما جاء أيضاً في (دعاء العبرات) المروي – في البلد الأمين: 1 / 333 – عن إمام زماننا (أرواحنا فداه): (وَبِالسَّجَّادِ زَيْنِ اَلْعُبَّادِ، ذِي اَلثَّفِنَاتِ، رَاهِبِ اَلْعَرَبِ، عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ)، وقد وصف الشيخ الكفعمي (قُدّس سرّه الشريف) هذا الدعاء بأنه (دعاء عَظِيمٌ مَرْوِيٌّ عَنِ اَلْقَائِمِ “عَلَيْهِ السَّلاَمُ” يُدْعَى بِهِ فِي اَلْمُهِمَّاتِ اَلْعِظَامِ)، وجديرٌ بالذكر أنَّ السيد ابن طاووس (طاب مثواه) قد أورده قبله في (مهج الدعوات: 342) ولكنّه لم يسنده للإمام (عجَّل الله فرجه الشريف).

وإذا صحَّ الوصف المذكور في حقّ آبائه الطاهرين (عليهم السلام) – طبقاً لهذه النصوص الشريفة – بلحاظ أحوالهم العبادية، فإنّه يصح في حقّه (عليه السلام) لنفس الملاك، والله العالم.

تعليق واحد على “هل يصح إطلاق لقب (الراهب) على الإمام الكاظم (ع)؟”

  1. أحسنتم الإجابة استفدت كثيرا، سيدنا الجليل زادكم الله تعالى شرفا وعلما وفهما بباب الحوائج عليه الصلاة والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *