هل قصة دفن أمير المؤمنين (ع) لسلمان المحمدي (رض) خرافة؟

س: يستشكل البعض على رواية دفن الإمام علي (ع) لسلمان المحمدي (رض) بحجة أن الرواية أول من رواها هو ابن شهرآشوب، وأنه جاء بعد هذه الحادثة بـ٥٠٠ عام، ولذلك يصفها بعضهم بأنها (خرافة)! فكيف يمكن الرد على مثل هذه الدعوى؟

الجواب

ج: لقد أجبتُ عن هذه الإشكالية في (وجهًا لوجه، ط2، ج1، ص252)، حيث قلتُ: يمكن أن نقبل خبر (ذهاب أمير المؤمنين عليه السلام لتغسيل سلمان المحمدي رضي الله عنه في المدائن)[1] رغم أنّ الذين رووه لم يدركوا الحادثة ولم يسندوها، ولكنّ في روايتهم له من القرائن ما يوجب الاطمئنان بصحته.

فمن جملة من رواه:

  • شيخ الطائفة الطوسي (قده) في الزيارة التي يُزار بها سلمان المحمدي (رضوان الله عليه)، حيث جاء فيها: (السلام عليك يا من تولى أمره عند وفاته أبو الحسنين) [2].
  • الشيخ ابن شهر آشوب القمي (قده) [3].
  • الفقيه ابن شاذان القمي في كتاب (الفضائل) وقد قال: “حدثنا الإمام شيخ الإسلام أبو الحسن بن علي بن محمد المهدي بالإسناد الصحيح عن الأصبغ بن نباتة” [4].
  • الشيخ قطب الدين الراوندي (قده) [5].

وكما ترى، فإنَّ القضية مِن ناحيةٍ قد وردت في مصادر معتبرة عند الإمامية، وهي تعود لمؤلفين أثبات، كما أنها مِن ناحية ثانية قد تجاوزت المصادر التاريخية إلى المصادر الروائية، فوردت حتى في الزيارات الشريفة، ومن ناحيةٍ ثالثة قد شهد بعض مَن نقلها بأنها منقولة بالأسانيد الصحيحة، وهذا المقدار مما يكفي للاطمئنان بالخبر التاريخي، وإن لم يصلنا سنده [6].

فظهر مما ذكرناه: أنَّ رمي القضية التاريخية بأنها (خرافة)؛ لعدم ثبوت سند لها، ليس منهجيًّا ولا علميًّا؛ فإنَّ التاريخ بأكثره لا سند له، ولو أعملنا مقص الفقيه في التاريخ لما بقي منه حجر على حجر.

والعجيب أنَّ الحداثي يأخذ بكل التواريخ العالمية، مع أنها مرسلة، ولكنه حينما يصل لخبر تاريخي يرتبط بأهل البيت (عليهم السلام) يثير حوله ألف علامة استفهام وتأمل!


هوامش:

[1] وجهُ التعرض لهذه القضية بخصوصها هو ما دار حولها من اللغط في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وتهريج بعض مدعي الثقافة بها على خطباء المنبر الحسيني، وكأنها قد جاءت من نسج خيالهم.

والذي يبدو أنَّ هذا اللغط عريق عند المعاندين، ويشهد لذلك قول الشيخ علي بن يونس النباطي البياضي العاملي (قده)- وهو من علماء القرن التاسع – في كتابه (الصراط المستقيم) 1 / 205: (جاء في الأخبار الحسان أنَّ عليًا عليه السلام مضى في ليلة إلى المدائن لتغسيل سلمان، فأنكر الناصبية ذلك، وقالوا: هذا خارج عن قدرة الانسان، قلنا: قد جاء من خبر آصف وعرش بلقيس ما حكاه القرآن حيث أتى به من مسيرة شهرين إلى سليمان في طرفة عين).

وقال العلامة الأميني (قده) في الغدير 5 / 16: (يبلغني من وراء حجب البغضاء والإحن تكذيب هذه المكرمة الباهرة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام وعزوها إلى الغلو، مستندًا إلى إحالة طي هذه المسافة البعيدة في هذا الوقت اليسير، ولو عقل المسكين أن هاتيك الإحالة على فرضها عادية لا عقلية، وإلا لما صحَّ حديث المعراج [ولم يكن إلا جسمانيًا] المتواتر المعدود من ضروريات الدين، ولا صحت قصة آصف بن برخيا المحكية في القرآن الكريم… وإن تعجب فاعجب أن فئة ممن ران على قلوبهم ما كانوا يعملون تحاول دحض هذه المكرمة في مولانا أمير المؤمنين وهم يخضعون لمثلها في غيره ممن هو دونه من دون أي غمز ونكير).

وقال في الصفحة 22 من نفس الجزء: (لم يكن هذا النكير بدعًا مما جاء به القوم في كثير من فضائل مولانا أمير المؤمنين وآله العترة الطاهرة عليهم السلام، فإن هناك شنشنة مطردة في واحد واحد منها بالتهكم تارة، وبالتفنيد أخرى، وبالوقيعة في السند طورًا، وبالاستبعاد المجرد آونة، وبالمناقشة في الدلالة مرة، ففي كل يوم يطرق سمعك هتاف معتوه، أو عقيرة متعصب، أو ضوضاء من حانق، أو لغط من معربد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، مع أنَّ القوم يثبتون أمثال هاتيك الفضائل لغير رجالات أهل البيت عليهم السلام، من غير أن يضطرب لهم بال، أو تغلي عليها مراجل الأحقاد، أو تمد إليها يد الجرح والتعديل، أو تتبعها كلمة الغمز بالرمي بالغلو أو الافتعال).

[2] تهذيب الأحكام: 6 / 119، ونقلها الشيخ ابن المشهدي (قده) في (المزار) 602، وقد قال في مقدمته: (أما بعد، فإني قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد المشرفات، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات، وما يدعى به عقيب الصلوات، وما يناجي به القديم تعالى من لذيذ الدعوات في الخلوات، وما يلجأ إليه من الأدعية عند المهمات، مما اتصلت به من ثقات الرواة إلى السادات).

[3] مناقب آل أبي طالب: 2 / 131.

[4] (الفضائل): 86.

[5] الخرائج والجرائح: 2 / 562، وقد تحدث في مقدمة كتابه هذا عمّا جمعه فيه فقال: (وكذلك ما رواه الشيعة الإمامية خاصة في معجزات أئمتهم المعصومين عليهم السلام صحيح، لإجماعهم عليه، وإجماعهم حجة، لأنَّ فيهم حجة.

وقد جمعت بعون الله سبحانه من ذلك جملة لا تكاد توجد مجموعة في كتاب [واحد] ليستأنس بها الناظرون، وينتفع بها المؤمنون وسميته ب‍”كتاب الخرائج والجرائح”.

[6] وقد يثير بعضهم علامة استفهام حول القضية من ناحية عدم ورودها في شيء من المصادر قبل الشيخ ابن شهرآشوب (قده)، وقد اتضح زيف هذه الإثارة؛ إذ قد ثبت ورود القضية في أحد مصادر الحديث الأربعة لدى الإمامية، وهو كتاب (تهذيب الأحكام) للشيخ الطوسي (قده).

كما أنَّ عدم ذكرها في شيء من المصادر الأخرى التي سبقت كتاب المناقب لابن شهرآشوب (قده) لا يلغي قيمتها، بعد معرفة أن هناك تراثًا ضخمًا قد ضاع واندثر، نظير أضخم كتاب للشيخ الصدوق (قده) – وهو كتاب (مدينة العلم) – حيث ينقل لنا التأريخ حقيقةً مؤسفةً، وهي أن بعض المكتبات المركزية الضخمة لدى الشيعة قد أُحْرِقَت وتلفت، كمكتبة الشيخ الطوسي (قده)، فإنها أُحْرِقَت لما هجم المغول على بغداد، وقد تلف بسبب عنجهيتهم الكثير من التراث الشيعي، ولكن بقي بعضه محفوظًا ضمن بعض المصادر المتأخرة، وقد وصل لمؤلفيها بطرق معتبرة، بعد أن اندثرت المصادر الأم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *