س: ما هي طرق تهذيب النفس وترويضها لحملها على الطاعات وإبعادها عن المعاصي؟ دمتم بعناية صاحب الأمر (عجل الله فرجه).
بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم، وبه أستعين
ابتداءً أخي العزيز: لا بدَّ من إدراك أنَّ مسألة تهذيب النفس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، مسألة لا تخلو عن كلفة وصعوبة؛ ولأجل هذه الجهة عبّر عنها نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) بالجهاد الأكبر، ولكنَّ ذلك لا يعني امتناعها وعدم إمكانها؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما صحَّ تكليفنا بها.
إذا عرفتَ ذلك، فإنَّ عملية التهذيب تتوقف على طيِّ الخطوات التالية:
أ – الخطوة الأولى: رصد مخزون النفس من الكمالات والفضائل، كالصدق أو الغيرة أو المحافظة على الصلاة في أول أوقاتها ونحو ذلك، ورصد مخزونها من القبائح والرذائل، كالكذب والغيبة والحسد ونحو ذلك.
ب – الخطوة الثانية: العزم الجاد على تهذيب النفس والسيطرة عليها، بأن يجعل الإنسان ذلك واحداً من همومه ومسؤولياته اليومية التي يكثر من التفكير فيها كلما سنحت له الفرصة، ويصمم على زيادة ما رصده فيها من الفضائل، وقلع جذور ما رصده فيها من الرذائل.
ج – الخطوة الثالثة: الاستعانة بالله تعالى، والتوسل إليه بالأرواح المقدسة لموالينا وسادتنا المعصومين (عليهم آلاف التحية والثناء)، وطلب المدد منهم؛ لكي يأخذوا بيد الإنسان منذ أول لحظة، ويعينوه على قطع الطريق وتجاوز عقباته وعثراته؛ فإنه – بحسب ما ثبت من التجارب – لا سبيل للارتقاء بالنفس من الحضيض إلى الذروة والأوج إلا بمددهم (عليهم السلام).
د – الخطوة الرابعة: التدرج في المعالجة، بمعنى أنَّ الإنسان لو رصدَ لنفسه خمساً من الرذائل مثلاً، فلا يحاول أن يقتلعها جميعاً دفعةً واحدة؛ فإنَّ ذلك من الصعوبة والمشقة بمكان، بحيث قد يوجب للإنسان اليأس والتراجع، ولكن عليه أن يبدأ بها واحدة واحدة، كأن يعالج رذيلة الحسد مثلاً أولاً، حتى إذا تيقن بزوالها من نفسه، توجهَ لرذيلةٍ أخرى واقتلعها، وهكذا.
هـ – الخطوة الخامسة: تفعيل العمليات الثلاث المعروفة: المراقبة والمحاسبة والمعاقبة، بمعنى أنَّ الرذيلة التي يضع المكلف يده عليها؛ لأجل علاجها وتطهير النفس منها، لا بدَّ من مراقبة النفس إزاءها مراقبة تامة؛ إذ أنَّ النفس عدوٌ متمرد ومختلس ومتحيّنٌ للفرص، فمتى ما وجدت فرصة لدفع الإنسان نحو الرذيلة التي يريد أن يهذبها منها لم تتأخر في دفعهِ نحوها، فما لم يكن الإنسان مراقباً للنفس مراقبة دقيقة لم يسلم من مباغتتها وهجومها وإفسادها ما سعى جاهداً لإصلاحه.
ولكي تؤتي عملية المراقبة هذه أُكلها، لا بدَّ أن تنضمَّ إليها أيضاً ما يُعبّر عنها بعملية المحاسبة، بأن يخصص الإنسان جزءاً من وقته – ولو بمقدار خمس دقائق في اليوم – لمحاسبة مخالفات النفس، فإنه بعد أن عاهد نفسه مثلاً على ترك النظر إلى الأجنبية منذ أول يوم من شهر رمضان، لا بدَّ أن يراجع نفسه في الليلة الثانية منه ويحاسبها؛ ليتعرف على مقدار نسبة سيطرته على نفسه، ومقدار اختلاسات النفس ومخادعتها له، فإنه بعد أن كان ينظر خمسين نظرة محرمة في اليوم والليلة، كم هو مقدار النظرات المحرمة التي استطاع تقليصها من حياته؟ فإذا افترضنا أنها تقلصت إلى النصف مثلاً، وخادعته النفس في النصف الآخر، فعليه أن يشدد الرقابة على النفس في اليوم التالي لكي يتضاءل مقدار النصف إلى الربع مثلاً، ثم يكرّر عملية المحاسبة في الليلة التالية أيضاً، وهكذا حتى يتخلص من رذيلته تخلصاً جذرياً.
ومما يجدر ذكره: أنَّ بعض النفوس لا يجدي معها إلا تفعيل عملية المعاقبة، بأن يحمل الإنسان نفسه على ارتكاب أضداد الصفات التي يريد أن يعالجها، كإلزامها بالصدقة اليومية – ولو كانت قليلة – فيما لو كانت متصفة برذيلة البخل مثلاً، أو يلجأ إلى ما يُعبّر عنه الفقهاء بـ (نذر الزجر) من أجل زجر النفس وردعها بقوة، ولا يصلح لذلك إلا بأن يكون متعلق النذر من الأمور التي تأباها النفس إباءً شديداً، كما لو كانت النفس مثلاً شديدة التثاقل عن أداء الصلاة أو الصيام، فينذر الإنسان – حينئذ – إن نظرَ نظرةً محرمة أنْ يصلي عشرين أو خمسين ركعة، أو يصوم عشرة أيام، ومتى ما وضعَ الإنسان عقوبة على نفسه الأمارة، كان ذلك مقتضياً لردعها بصورة أشد.
وبطيِّ الإنسان لهذه الخطوات الخمس يكون قد مرَّ بعملية جادة لتهذيب النفس، وهي كفيلة بالارتقاء بالإنسان من حضيض الحيوانية والبهيمية إلى ذروة التكامل والإنسانية.
وتتميماً لما ذكرناه يجدر التنبيه على أمرين:
الأمر الأول: إن مسألة تهذيب النفس لا تحتاج لشيء سوى اجتناب المحرمات والمحافظة على المحرمات، وأما ما يذكره بعضهم من لزوم الاجتناب عن بعض الطيبات من المأكولات والمشروبات ونحوها – مما لم يرد في لسان الشرع الشريف – فهو مما لا حاجة له، بل لا يخلو بعضه عن بعض الإشكالات الشرعية.
الأمر الثاني: إنَّ النفوس ليست كلها على وتيرة واحدة؛ إذ أن بعضها أشبه بالفرس بالجموح، الذي لا يستطيع راكبه السيطرة عليه إلا بصعوبة بالغة، بينما بعضها كالحيوانات الوحشية التي يعسر تطويعها، فلا بدَّ أن يتعرف الإنسان على طبيعة نفسه ليعرف مقدار المجهود الذي يحتاج أن يبذله من أجل تطويعها والسيطرة عليها، ولا يصيبه اليأس بطول المدة.
وفي الختام: أسأل الله تعالى لي ولكم تمام التوفيق لتهذيب نفوسنا وتزكيتها، لعلنا نحظى بنظرةٍ كريمةٍ من وليِّ نعمتنا وإمام زماننا (أرواحنا لتراب مقدمهِ الشريف الفداء).