سيدنا ممّا ورد في الزيارة الجامعة هذه الفقرة الشريفة : “اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لغيبه، واختاركم لسره، واجتباكم بقدرته “، وكلما قرأتها أتذكر ألقاب العترة الطاهرة صلوات الله عليهم، إذ أن من ألقاب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله : المصطفى، ومن ألقاب أمير المؤمنين سلام الله عليه: المرتضى، ومن ألقاب الإمام الحسن عليه السلام: المجتبى، بالإضافة إلى أن المختار من ألقاب النبي صلى الله عليه وآله أيضًا، وهذا يثير في الذهن عدّة تساؤلات:
السؤال الأول
ما هو الفرق بين الاصطفاء والارتضاء والاختيار والاجتباء؟
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، وبمددِ أوليائهِ أستعين
أفاد سيدنا الأعظم ، السيد السبزواري ( طيّبَ الله تربته ، ورزقنا شفاعته ) في تفسيره الثمين ( مواهب الرحمن ) 5 / 233 : ” أنَّ الاصطفاء ، والاختيار ، والاجتباء نظائر ” ، ولكن الذي يظهر أنّ بينها ثمة نحو دقيق من التمايز ، وبيانه :
1 / أنَّ الاصطفاء يعني : أخذ صفو الشيء وخالصته .
2 / بينما الارتضاء يعني : اختياراً خاصاً ، وهو الاختيار الذي يكون فيه متعلق الاختيار مرضيَ الذات للمختار .
3 / وأما الاختيار فهو يعني : التفضيل والتمييز .
4 / وأما الاجتباء فهو يعني : جمع الأفراد أو الأجزاء وحفظها من التفرق والتشتت .
السؤال الثاني
لِمَ كان المصطفى لقبًا لرسول الله صلى الله عليه وآله دون غيره من الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟! ولِمَ كان المرتضى لقبًا لأمير المؤمنين ولم يكن لغيره؟! ولِمَ كان المجتبى لقبًا للإمام الحسن ولم يكن لغيره؟!
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، وبمددِ أوليائهِ أستعين
على ضوء ما أوضحناه في الإجابة المتقدمة ، يُمكن أن يُقال : إنَّ السر في إطلاق لقب المصطفى على النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) يعود إلى كونه هو صفوة الصفوة من الخلق جميعاً ، فيكون هو الأحق باللقب المذكور من غيره ، وأما تلقيب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بلقب المرتضى ، فالظاهر أنه يعود إلى كونه أول إمام قد اختاره الله تعالى مع رضاهُ التام بذاته المقدسة ، وأما سّرُ التعبير عن الإمام الحسن الزكي ( عليه السلام ) بالمجتبى ، فالظاهر أنه يرجع إلى كونه هو النور الجامع بين جزئي النور المفترقين ، وهما نور جده رسول الله الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ونور والده أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
السؤال الثالث
بعد الفقرة المذكورة تأتي هذه الفقرة تتمةً لها: “وأعزكم بهداه، وخصّكم ببرهانه، وانتجبكم لنوره”، ومن ألقاب الإمام الهادي عليه السلام: المنتجب، إذ ورد هذا اللقب في دعاء شهر رجب الأصب، فيرد السؤال المذكور بالنسبة إليه أيضًا؟
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، وبمددِ أوليائهِ أستعين
الانتجاب – كما يظهر من موارد استعماله – يعني نحواً من أنحاء الاختيار ، وهو اختيار الشيء النفيس في نوعه ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين العناوين الأربعة المتقدمة ، ولعلَّ سِّرَ تلقيب الإمام الهادي ( عليه السلام ) به : كونه واحداً من السلالة النفيسة التي تعلق بها الاختيار الإلهي ؛ لتكون أئمة الهدى ومصابيح الدجى ، وليس يختص ذلك به ( عليه آلاف التحية والثناء ) بل هو ينطبق على آبائه وأبنائه الطاهرين ( عليهم السلام ) ، كما جاء في غير واحد من الأخبار الشريفة ، ومنها : قول النبي صلى الله عليه وآله : ( محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم ) ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : ( وورث ذلك السر المصون الأوصياء المنتجبون ) .
السؤال الرابع
لماذا كان الاصطفاء بالعلم والارتضاء للغيب والاختيار للسر والاجتباء بالقدرة والانتجاب للنور؟
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم ، وبمددِ أوليائهِ أستعين
بناءً على ما أفاده سيدنا الأعلى السيد عبد الأعلى ( طيّبَ اللهُ تربته ) لا يبقى وجهٌ لهذا السؤال ؛ لأنَّ تعدد الكلمات المذكورة سيكون من باب التفنن في التعبير ليس إلا .
وأما بناءً على ما استظهرناه من تغاير مدلول الكلمات المذكورة ، فإنَّ إضافة كل واحدة منها لإحدى الكلمات المذكورة سيكون نابعاً من نكتةٍ دقيقة ، وبيان ذلك : أنَّ الاصطفاء بما أنه يعني أخذ صفوة الشيء وخالصته – كما تقدم – فلا ريب في توقفهِ على العلم ؛ ولذلك قالت الزيارة : ” اصطفاكم بعلمه ” ، وبما أنَّ الارتضاء يعني الاختيار الذي يكون فيه متعلق الاختيار مرضيَ الذات للمختار ؛ فلا شك في كون السادة المعصومين هم الذين رضي اللهُ تعالى ذواتهم ؛ لتكون خزائن غيبه ؛ ولذلك قالت الزيارة : ” وارتضاكم لغيبه ” على وزان قوله تعالى : ” عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول ” ، وأما السر فبما أنَّ جعله عند أحدٍ بخصوصه يتوقف على توفرهِ على ما يرجحه على غيره ؛ لذلك أُضيفت إليه مفردة ( الاختيار ) – والتي تعني التقديم والتفضيل – فقالت الزيارة : ” واختاركم لسره ” ، وبما أنَّ الاجتباء يعني : جمع الأفراد أو الأجزاء وحفظها من التفرق والتشتت ، فهو يتوقف على القدرة ؛ ولذلك ناسبه التعبير بالقدرة ، فقالت الزيارة : ” واجتباكم بقدرته ” .
وبما أنه تعالى هو نور السماوات والأرض ، و ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) ؛ لذلك لزم أن يكون لنوره اللامتناهي مصباحٌ نفيس يتناسب معه ، وليس هو إلا ذوات السادة المعصومين ( عليهم السلام ) ، ومن هنا صحَّ التعبير بالانتجاب ؛ لأنه يعني : اختيار الشيء النفيس في نوعه ، كما تقدم بيانه ، والله العالم .