تساؤلاتٌ_حول_أفضلية_زيارة_عرفة_على_الحج.pdf
قد ترد في ذهن المتأمِّل في روايات فضل زيارة الإمام الحسين (ع) يوم عرفة عدّة تساؤلات، نتعرّض إلى ثلاثة منها[1]:
التساؤل الأول: هل زيارة الحسين (ع) يوم عرفة مقدَّمة على الحجّ المستحب؟
وهذا التساؤل تثيره الرواية الواردة عن بشير الدهان، قال:
«قلت لأبي عبد الله (ع): ربما فاتني الحج فأعرِّف عند قبر الحسين (ع). قال: أحسنت يا بشير، أيما مؤمن أتى قبر الحسين (ع) عارفًا بحقّه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات متقبلات وعشرين غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مئة حجة ومئة عمرة ومئة غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل، ومن أتاه في يوم عرفة عارفًا بحقّه كتب الله له ألف حجة وألف عمرة متقبلات وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل.
قال: فقلت له: وكيف لي بمثل الموقف؟! قال: فنظر إليّ شبه المغضب ثم قال: يا بشير، إنَّ المؤمن إذا أتى قبر الحسين (ع) يوم عرفة واغتسل في الفرات ثم توجّه إليه، كتب الله له بكل خطوة حجّةً بمناسكها. ولا أعلمه إلا قال: وغزوة»[2].
فهل يُفْهَم من جواب الإمام الصادق (ع) أنَّ الحج له الأولوية، ومن لم يستطع إليه سبيلًا فعليه بزيارة الحسين (ع)؟
والجواب: إنَّ بشيرًا له في كامل الزيارات خمس روايات في نفس الموضوع، ولا يُستفاد من شيء منها تقديم الحج على الزيارة، بل غاية ما يستفاد منها أنَّه كان ملتزمًا بالحج في كل سنة، ولمّا تغيّب عن الحج في إحدى السنوات استدعى ذلك من الإمام الصادق (ع) أن يسأله عن سبب تغيبه، فلما أجابه بأنه قد عرَّفَ عند سيد الشهداء (ع) طمأنه الإمام بأنه لم يفته شيء من ثواب أهل الموقف، ثم ترقى فأوضح له أن زيارة الحسين (ع) كزيارة الله في عرشه، وهذا في قبال زيارته تعالى في بيته، كما ذكر له أن زيارته يوم عرفة تعدل ألف حجة وعمرة متقبلتين.
ولما أثار هذا بشيرًا قال متعجّبًا: «وكيف لي بمثل الموقف؟!»، ولكن الإمام (ع) غضب منه، فبيّن له أنَّ القضية أكبر من ذلك؛ إذ أنّ لزائر الحسين (ع) في كل خطوة ثواب حجة بمناسكها.
التساؤل الثاني: هل زيارة الحسين (ع) أفضل من الحجّ الواجب؟
إنَّ هذه الروايات تثبت أفضلية زيارة سيد الشهداء (ع) على الحج المستحب بلا إشكال، ولكن ألا يمكن أن يستفاد من لسانها (تعدل عشرين حجة، مئة حجة، ألف حجة…) أفضلية الزيارة على الحجّ الواجب أيضًا؟ وبالتالي فهل يمكن أن ينتج المستحب ثوابًا يفوق ثواب الواجب بمراتب؟
والجواب عن ذلك: إنَّ الذي يظهر من الشيخ الحر العاملي والمحدّث النوري (طاب ثراهما) هو القول بأنَّ زيارة سيد الشهداء (ع) تعدل خصوص الحج المندوب، حيث عنونا الباب الذي اشتمل على الروايات التي تناولت هذا الموضوع بالعنوان التالي: (باب استحباب اختيار زيارة الحسين (ع) على الحج والعمرة المندوبين).
ولكنَّ الذي يظهر من روايات الباب المذكور أنها تعدل الأعم من الحج الواجب والحج المندوب، ومنها: ما ورد عن شهاب بن عبد ربه، عن أبي عبد الله (ع): «سألني فقال: يا شهاب، كم حججت من حجة؟ قال: قلت: تسعة عشر، قال: فقال لي: تمّمها عشرين حجة يكتب لك الله زيارة الحسين (ع)»[3].
ومن الواضح أن مجموع الحَجّات التي حجّها الراوي مشتمل على الحجة الواجبة، وقد عدل الإمام (ع) بها جميعًا – بما فيها الحجة الواجبة – زيارة جدّه سيد الشهداء (ع).
وحينئذ يلزم توجيه هذه الروايات على طبق القواعد في باب الواجبات والمستحبات، فيقال: إنَّ الأحكام الشرعية –طبقًا لاعتقاد العدلية– تابعة للمصالح والمفاسد، وغالبًا ما يأتي الفرق بين الواجب والمستحب من ناحية أقوائية المصلحة، حيث تكون للواجب مصلحة أقوى من مصلحة المستحب، فتقتضي تلك الإلزام والوجوب دون هذه.
غير أنَّ ذلك لا يطّرد في جميع الموارد، وسرّه: أنَّ مصلحة المستحب قد تكون في غاية القوة، فترقى إلى مستوى الواجب، بل أعظم الواجبات، بحيث أنها لو خُلّيت ونفسها لاقتضت حكم الشارع بالوجوب قطعًا، ولكنها تكون مبتلاة بمصلحة تزاحمها وتمانعها – وهي: مصلحة الترخيص، أو التسهيل – وحينئذ تحول هذه المصلحة أو المفسدة دون حكم الشارع المقدس بالوجوب، فيتنزل للحكم بالاستحباب.
ويمكن تطبيق ذلك على مسألة (السلام)، فإنَّ المستنطق من الروايات الشريفة أنَّ إلقاء السلام أفضل ثوابًا من ردّه، رغم كون الثاني واجبًا والأول مستحبًا، وما ذلك إلا لأنَّ مصلحة الإلقاء أقوى من مصلحة الردّ، غير أنَّ مصلحة الترخيص في السلام وعدم الإلزام به – دفعًا للتكليف الحرجي – بما أنها تنافس مصلحة الإلقاء؛ لذلك حكم الشارع باستحبابه المؤكّد دون وجوبه.
وقد يُصنّف هذا على تأملٍ في باب ما يسميه الأصوليون بـ (التزاحم الملاكي)، وقد ذكروا من أحكامه – كما أفاد السيد الشهيد الصدر (قده) – «تأثير أقوى المقتضيين بعد الكسر والانكسار في إيجاد مقتضاه، وحينئذ يكون مقتضاه فعليًا، ومقتضى الآخر ساقطًا مطلقًا»[4].
ومما يجدر ذكره: أنه قد وافقنا في أصل هذه الدعوى بعض علماء الجمهور، ومنهم: الفقيه المالكي المعروف بابن القرافي – من علماء القرن السابع – حيث قال تحت عنوان (الفرق بين قاعدة المندوب الذي لا يقدم على الواجب، وقاعدة المندوب الذي يقدم على الواجب) ما هذا نصه: «إنَّ المندوبات قسمان: قسم تقصر مصلحته عن مصلحة الواجب، وهذا هو الغالب… ثم إنه قد وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات، وثوابها أعظم من ثواب الواجبات، وذلك يدل على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات؛ لأن الأصل في كثرة الثواب وقلّته كثرة المصالح وقلّتها»[5].
وكيف كان، فعلى ضوء ما ذكرناه يسهل فهم تفضيل الكثير من المستحبات على بعض الواجبات، ومنها: زيارة سيد الشهداء الحسين (ع).
التساؤل الثالث: تساؤلٌ حول مضمون إحدى روايات فضل الزيارة.
لقد ورد في إحدى الروايات: «من زار قبر الحسين (ع) يوم عرفة كتب الله له ألف ألف حجّةٍ مع القائم، وألف ألف عمرةٍ مع رسول الله (ص)»[6]، وهذه الرواية تثير علامة استفهام بعد الالتفات إلى مقدّمتين مسلّمتين:
- الأولى: إنَّ العمرة أقلّ فضلًا من الحج.
- الثانية: إنَّ رسول الله (ص) أفضل من حفيده المنتظر (ع).
فلماذا لم يُجعل الأفضل مع الأفضل في هذه الرواية؟
والجواب: إنَّ هذه الرواية تحتمل وجوهًا، نكتفي ببيان ثلاثةٍ منها:
الوجه الأول: أنها بصدد بيان أن زيارة سيد الشهداء الحسين (ع) سبب لتحقيق عدة من الملاكات والمصالح الواقعية، فذكرت الحج مع الإمام (ع) على حدة، لأنَّ له ملاكًا واقعيًا لا يتحقق إلا به، وذكرت العمرة مع النبي (ص) على حدة، لأنَّ لها ملاكًا استقلاليًا لا يتحقق إلا بها، فالرواية ليست بصدد بيان تفاوت مراتب الثواب، وإنما هي بصدد بيان أنواعه المتعددة تبعًا لتعدد الملاكات الواقعية.
الوجه الثاني: أن تكون الرواية بصدد الحديث عن ثواب واحد، غير أن الطرق لتحصيله متعددة، فالعمرة مع النبي (ص) طريق لتحصيله، والحج مع الإمام (ع) طريق آخر، وهذا ما يقتضي ضم أفضل الذاتين للأقل فضلًا من العملين، والعكس، ليحصل التكافؤ.
الوجه الثالث: أن يدعى أن أخذ الرواية لعنواني النبي والقائم ليس على نحو الموضوعية، بل من باب العنوان المشير للحجة، سواء كان نبيًا أم إمامًا، مع إرادة المعية المعنوية المطابقية، وكأن الرواية تقول: من زار الحسين (ع) فله ثواب من حج ألف ألف حجة مطابقة للواقع مطابقةَ مَن طابقت حجته حجة المعصوم التي لا تخطئ الواقع، وله ثواب ألف ألف عمرة مطابقة للواقع مطابقةَ مَن طابقت عمرته عمرة المعصوم التي لا تتجاوز الواقع قيد أنملة.
ولا يقال: فلم ذُكِرَ النبي (ص) مع العمرة، والحجة (ع) مع الحج، مع أنه لا موضوعية لهما بحسب الفرض؟
فإنه يقال: لقد ذكر القائم (ع) مع الحج، لأن عنوان الحج أشدّ اقترانًا به، لكونه يحضر الموقف كل عام، كما هو مفاد العديد من الروايات، بينما ذكر النبي (ص) مع العمرة لأنه أشدّ اقترانًا بها، باعتباره لم يحج حجة ظاهرة إلا حجة الوداع، ولكنه اعتمر كثيرًا.
والمتحصِّل: فالرواية إما هي بصدد بيان كثرة الملاكات والمصالح الواقعية في زيارة الثواب، وإما هي بصدد بيان ثواب واحد من حيث الكم، ولكنه يتكرر تبعًا لتعدد طرقه، وإما هي بصدد الحديث عن الثواب من حيث الكيف، وأنه ليس ثوابًا كثيرًا فقط، بل يتميّز بكونه كثواب الأعمال المطابقة للواقع.
وكلّ هذه الوجوه إنما هي مجرد احتمالات، وأما المراد الجدّي للمعصوم (ع) فلا يعلمه إلا هو وخالقه.
الهوامش
[1] مقتبسٌ من كتاب (الشعائر الحسينية، ص427).
[2] كامل الزيارات: ص316، باب 70، ثواب زيارة الحسين (ع) يوم عرفة.
[3] ثواب الأعمال: ص92.
[4] بحوث في علم الأصول: ج4، ص203.
[5] أنوار البروق في أنواع الفروق: ج2، ص125.
[6] كامل الزيارات: ص172.