صفحات من حياة السيد الحكيم

صفحات-من-حياة-السيد-الحكيم.pdf

ورد عن سيّدنا ومولانا وإمامنا الصادق (عليه السلام): ((إذا مات العالم ثُلِمَ في الإسلام ثلمةٌ لا يسدّها شيءٌ)).

فُجِعنا في عصر هذا اليوم[1] وفُجِع العالم الشيعيّ كلّه برحيل مرجعٍ من أعاظم مراجعنا، وفقيهٍ من أكابر فقهائنا، وحصنٍ من أعظم حصوننا، ألا وهو المرجع الدينيّ الكبير، سماحة آية الله العظمى، السيد محمد سعيد الحكيم، قدّس الله نفسه الزكيّة.

وإنّي بهذه المناسبة الأليمة، أرفع أسمى آيات العزاء إلى ساحة وليّ الله الأعظم (أرواحنا له الفداء)، وإلى الحوزة العلمية المباركة، وإلى أسرة العلم والفقاهة والشهادة أسرة الحكيم، سيّما لأولاده العلماء والفضلاء الأجلّاء، وإلى جميع تلامذته ومقلّديه ومحبّيه، وإلى جميع المؤمنين والمؤمنات من شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وأعزّيهم كما أعزّي نفسي بهذه النازلة الكبرى والحادثة العظمى، وأسأل الله تعالى لفقيدنا العظيم علوّ الدرجات عند أجداده الطاهرين (عليهم السلام)، وأن يعوّضنا الله تعالى عن فقده عوضًا صالحًا، ببركة عناية مولانا وإمامنا صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء).

ووفاءً لبعض حقوق هذا المرجع العظيم علينا، فإنَّنا -مع الاعتراف بالقصور والتقصير- نتحدّث عن سيرته المباركة وحياته الشريفة في بضعة محاور:

المحور الأول: ولادته المباركة.

وُلِد مرجعنا الكبير (قدّس الله نفسه الزكيّة) في النجف الأشرف سنة 1354 من الهجرة النبوية المباركة في شهر ذي القعدة، فيكون عمره الشريف حوالي 88 سنة (رضوان الله تعالى عليه)، قضى معظمها في خدمة العلم والتشيّع حتى لقي ربّه راضيًا مرضيًا.

المحور الثاني: نشأته وسيرته.

وُلِد سيّدنا الحكيم (قدّس سرّه) في أسرة علمية جليلة، فجدّه لأمه هو مرجع الطائفة الأكبر في زمانه وفقيه الشيعة الأعظم ألا وهو السيد محسن الحكيم (قدّس الله نفسه الزكيّة)، ووالده هو سماحة آية الله المعظّم السيّد محمّد علي الحكيم (رضوان الله تعالى عليه)، الذي كان من أكبر أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومن أعظم مدرّسيها ومجتهديها وفضلائها الكبار، كما كان من أعظم آيات الزهد والتقى. وأما خاله فهو آية العلم والتقى والزهد سماحة آية الله العظمى السيد يوسف الحكيم (قدّس الله نفسه الزكيّة)، إلى جانب بقية أخواله الفقهاء والعظماء (رضوان الله تعالى عليهم).

في هذه الأسرة العلمية الجليلة بين والدٍ وجدٍّ وخالٍ وُلِد هذا المرجع الديني الكبير، ونشأ في أحضانهم، فبرز بقابليات واستعدادات لمسها فيه جدّه وأبوه، ولذلك وجّهه أبوه إلى الحوزة العلمية والدراسة وهو دون العاشرة من العمر (رضوان الله تعالى عليه)، لما لقيه عنده من الاستعداد الكبير لتلقّي المعارف الحوزوية الدقيقة، فانتمى إلى الحوزة العلمية، وصار يتلقّى العلم والمعارف على يد والده الذي تحدّثنا عنه (رضوان الله تعالى عليه)، وعليه أخذ معظم دروس المقدّسات والسطوح حتى صار يشار إليه بالبنان.

ولما انتهى من دراسة المقدّمات والسطوح شرع في دراسة أبحاث الخارج، وهي الأبحاث العليا في الحوزة العلمية التي تؤهّل الطالب للفقاهة والاجتهاد والاستنباط، فحضر عند أستاذ الحوزة العلمية سيّد الطائفة السيّد الخوئي (أعلى الله مقامه الشريف)، كما حضر عند جدّه فقيه الطائفة السيّد الحكيم (قدّس سرّه)، ولازمه ملازمة كبيرة جدًا، حتى صار موردَ اعتماده، بحيث أنّ السيد الحكيم لما أراد أن يطبع كتابه (مستمسك العروة الوثقى) -وهو من أهمّ الكتب في تاريخ الحوزة العلمية، ومن أعظم الموسوعات الفقهية في تاريخ التشيّع، ولا يستغني فقيهٌ ولا طالبُ علمٍ ولا فاضلٌ وأستاذٌ عن مراجعته والاستفادة منه- أوعز أمر مراجعته لسبطه المرجع الراحل (قدّس الله نفسه الزكيّة)، لما كان يجده في سبطه من الأهلية لمراجعة هذا الكتاب المهمّ، فكان السيد الراحل يراجعه ويناقش جدّه في مطالبه، فما طُبِع الكتاب في العديد من أجزائه إلا بعد أن أبدى نظره بمحضر جدّه الفقيه الأكبر (رضوان الله تعالى عليهما).

وكما لازم دروس جدّه، وبرع تلميذًا ناضجًا دقيقًا فيها، لازم دروس الفقيه الكبير والأستاذ العظيم سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الحلّي (قدّس الله نفسه الزكيّة)، وهو أستاذ مجموعة من مراجعنا، ومنهم سيّدنا الراحل، ومنهم مرجع الطائفة الأعلى سيّدنا السيد السيستاني (أدام الله تعالى بركة وجوده)، وكان هذا الشيخ يعدّ من أعاظم فقهاء الشيعة وعلمائهم، وكان يعدّ إلى جانب السيد الحكيم الكبير وإلى جانب السيد الخوئي (قدّس سرّهما)، إلا أنه لم يتصدَّ للمرجعية، واقتصر على تدريس العلماء والفقهاء، فخرّج أمثال هذين المرجعين.

وقد لازمه السيد الحكيم الراحل (قدّس الله نفسه الزكيّة) ملازمة الظل لذي الظل، فكان لا يقتصر على الاستفادة منه في دروسه، بل كان يلازمه في مجالسه وجلساته، وكان يقول: إنَّ استفادتي من الشيخ الحلّي في مجالسه لهي أكثر من استفادتي منه في حضوري في دروسه.

وكان الطالبَ المميّزَ في درس الشيخ الحلي، حتى أنَّ سماحة آية الله العظمى السيد مفتي الشيعة (قدّس سرّه) -وهو أحد مراجعنا، وقد توفّي في السنوات الأخيرة في قمّ المقدّسة- يقول: لقد كان السيد محمّد سعيد الحكيم في درس أستاذنا الشيخ الحلّي أصغرنا سنًا، ولكنّه كان أكثرنا مناقشة. فكان يناقش أستاذه الحلّي مناقشة دائمة، ويتتبّعه ويتعقّبه رغم صغر سنّه من بين جموع التلامذة الذي كانوا يحضرون دروس الشيخ الحلّي (رضوان الله تعالى عليه).

على يد هؤلاء العظام وهؤلاء الكبار والجهابذة تتلمذ المرجع الحكيم، فنال درجات عالية وكبيرة في الفقاهة والعلم (قدّس سرّه)، حتى صار من أعاظم المجتهدين والفقهاء وهو في بدايات عمره.

المحور الثالث: تلامذته.

منذ أن اشتغل السيد الحكيم (قدّس سرّه) بالدرس اشتغل إلى جانب ذلك بالتدريس، فهو على مدى سبعين سنة وأكثر لم ينقطع عن التدريس حتى في أحلك الظروف. أولئك الذين لا يعرفون قيمة مراجعنا وقيمة ما يقدّمونه فليتعرّفوا على ما كان يقوم به هذا المرجع العظيم! فهو على مدى سبعين سنة وأكثر لم ينقطع عن التدريس حتى في أحلك الظروف التي سنشير إليها، وتصدّى لتدريس البحث الخارج -وهو أعلى مرتبة في الدراسة الحوزوية- سنة 1388 من الهجرة، وهذا يعني أنَّ عمره الشريف كان 34 سنة، وفي بدايات الثلاثينات بلغ مرتبة الفقاهة والأستاذية التي أهّلته لتدريس البحث الخارج (رضوان الله تعالى عليه)، فتخرّج على يديه طوال هذه السنوات العشرات بل المئات من الفضلاء والمجتهدين والفقهاء، وفي طليعتهم علماء أسرة الحكيم، قدّس الله نفوس من مضى منهم وحفظ من بقي.

وفي طليعة تلامذته مفخرة بلادنا وعالمها وفقيهها، الحجّة المعظّم، العلّامة الكبير، الشيخ حسين العمران (أطال الله تعالى عمره وأدام بركته)، فالشيخ العمران ما هو إلا ثمرةٌ من ثمرات هذا المرجع العظيم (رضوان الله تعالى عليه)، وكان يقول -كما سمعتُ منه- لم أرَ أستاذًا كالسيد الحكيم (قدّس الله نفسه)، فقد كان درسه بمثابةٍ يؤهّل الحاضر فيه إلى مستويات متقدّمة جدًا، إذ الذي يحضر عنده في السطوح وبدايته يختصر عليه الطريق ويؤهِّله للاستعداد لمراحل متأخّرة، بينما يحتاج غيره أن يطوي دروسًا بعدها عند غيره من الأساتذة. هذا تلميذٌ من تلامذته، وتلامذته كثيرون، قدّس الله أسرار الماضين وحفظ الباقين.

المحور الرابع: محنته.

السيد الحكيم (قدّس الله نفسه الزكيّة) كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) تعرّض إلى المحنة والابتلاء، فاُعْتُقِل سنة 1403هـ في ظل حكم البعث الجائر، واستمر اعتقاله إلى سنة 1411هـ، فقضى ثمان سنوات في غياهب السجون، وتعرّض فيها إلى صنوف التعذيب وأسوأ المعاملة، فكان مثال الصابر المحتسب المسلّم الراضي (قدّس الله نفسه الزكيّة).

وطوال هذه المدة لم ينقطع عمّا كان عليه قبل الاعتقال، ولم يفت التعذيب في عضده، ولم يغيّر الاعتقال من برنامجه، بل بقي يمارس نشاطه العلمي والروحي والتوجيهي وهو في غياهب السجون، فكان (رضوان الله تعالى عليه) يدرّس الفضلاء من أسرة آل الحكيم -الذين سُجِنوا معه- بحث الخارج فقهًا وأصولًا عن ظهر قلب، حيث لا يوجد كتابٌ هناك، وكانت إذا مرّت مناسبات أهل البيت (عليهم السلام) -كأيام عاشوراء- يحييها بما يحفظه عن ظهر قلب، كما كان يلقي دروسًا في تفسير القرآن الكريم، حيث لم يكن يمتلك وهو في السجن إلا مصحفًا صغيرًا، فكان يدرّس القرآن على ضوء ذلك المصحف الذي يمتلكه.

وإلى جانب ذلك، ألّف مؤلّفات عظيمة، وكيف ألّف هذه المؤلفات وهم لا يسمحون حتى بإعطائه ورقة؟! لقد كانوا يجمعون أوراق علب السجائر، وكان السيد الحكيم يكتب عليها، فما خرج من السجن إلا وقد قدّم تراثًا علميًا، ومن هذا التراث العلمي كتابٌ من مجلّدين اسمه (الكافي في أصول الفقه)، وقد أعدّه كدورة علميّة أصوليّة لتكون منهجًا في الحوزة العلمية، عوض كتاب (الكفاية) وعوض كتاب (الرسائل)، اللذين هما من أهمّ كتب علم الأصول في الحوزة العلمية في المرحلة العليا، ممّا يعني أنَّ مطالب علم الأصول -وهي المطالب الدقيقة- كانت حاضرة في ذهنه الشريف (رضوان الله تعالى عليه)، فاستطاع أن يمليها من غير حاجة إلى مراجعة مرجعٍ أو كتابٍ، وهذا يدلّ على عظمة ذهنيّته الوقّادة وحافظته.

وإلى جانب نشاط التدريس والتأليف، كان له نشاط العناية والتوجيه، فكانوا إذا جاؤوا بالسجناء المعذّبين من الشباب الذين اُعْتُقِلوا لا لجرمٍ فإنَّه كان هو الذي يخفِّف عنهم العناء ويسلّيهم رغم ما كان يعيشه من المحنة، وعندما فُرِجَت الأمور وصارت عائلته تزوره كان يوعز لعائلته أن تجلب الأدوية وما يحتاجه السجناء، ثم يوزّعه عليهم برعايته وتوجيهه، وهكذا كان الأبَ الروحيَّ الذي يخفِّف عن السجناء عناءهم، وكان مثال المؤمن الممتحن الصابر (رضوان الله تعالى عليه).

المحور الخامس: مؤلّفاته.

لقد كان السيد الحكيم (قدّس الله نفسه الزكيّة) قلمًا معطاءً، إذ ترك ثروةً علميةً كبيرةً جدًّا لا تُقدَّر بثمنٍ، ففي الأصول كتب كتابه المعروف (المحكم في أصول الفقه) من ستّة مجلّدات، ويتميّز السيد الحكيم (قدّس الله نفسه) في هذا الكتاب بنفسٍ خاصٍ يميّزه عن بقية علماء الأصول، كما كتب في الفقه كتابه المعروف (مصباح المنهاج) في أكثر من عشرين مجلّدًا، وهو من أهمّ الكتب التي كُتِبَت شرحًا لرسالة (منهاج الصالحين)، وقد تناول فيها كتبًا فقهية قلَّ من تناولها ومحّصها وكتب فيها.

وإلى جانب هذين الكتابين العلميين المهمّين -اللذين يعرف قيمتهما طلبة الحوزات العلمية- كتب كتابه البديع الجميل (أصول العقيدة)، وهو كتابٌ كتبه قبل سنواتٍ ليست بالبعيدة، وليسمع أولئك الذين يقولون بأنَّ علماءنا ومراجعنا وفقهاءنا لا يهتمّون بالجوانب العقدية والكلامية! لقد كتب كتابه (أصول العقيدة) -وهو دورةٌ عقديّةٌ كلاميّةٌ- بقلمٍ سلسٍ جميلٍ يتمكّن الكلّ من فهمه واستيعابه.

وبعث له أحد علماء الدين في الأردن عشرة أسئلة، حيث سأله عن الدليل على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعن عقيدة الشيعة في الإمام المهدي (أرواحنا له الفداء)، وعن مسألة تحريف القرآن، وعن التراث الشيعي، وسأله أسئلة أخرى، فأجابه بإجابات مفصّلة بلغت ثلاثة مجلّدات أطلق عليها اسم (في رحاب العقيدة)، وامتلأت هذه المجلّدات بالتتبّع والتحقيق والتدقيق الذي قلَّ أن تجده عند غيره.

وكتب إلى جانب هذين الكتابين كتابه الرائع (فاجعة الطف)، وهو الكتاب الذي حلّل فيه واقعة الطف تحليلًا بديعًا رائعًا لم يُسْبَق إليه، وإنَّ هذا الكتاب ليستحقّ أن تُسلَّط عليه الأضواء لما تضمّن من أنظار وتحقيقات بديعة للسيد الراحل (قدّس سرّه).

وكتب أيضًا كتابه الرائع (مرشد المغترب)، وإنَّني والله لأتعجّب كيف أنَّ البعض يولي بعض الكتابات لبعض أصحاب الأقلام عنايةً، ويركّز عليها، ويسلِّط عليها الأضواء، ويصوِّرها على أنَّها كتبٌ تشتمل على أفكار وكنوز بديعة، وهي لا تشتمل إلّا على القشور ولا لُبابَ فيها، ومثل كتاب (مرشد المغترب) يشتمل على اللباب وعلى بديع الأفكار وجميلها، ومع ذلك يهمَّش مثل هذا الكتاب ولا تسلَّط عليه الأضواء. وكتب إلى جانب ذلك أيضًا رسالةً أبويّةً إلى الطلبة والمبلّغين، وهي رسالة تعبِّر عن سموّ فكره وآرائه (رضوان الله تعالى عليه)، كما كتب إلى جانب ذلك مؤلّفات أخرى غنيّة بالاقتناء والدراسة والملاحظة، فجزاه الله عن التشيع وعن الإسلام وأهله خير الجزاء.

المحور السادس: مرجعيّته المباركة.

لقد تصدّى السيد الحكيم (قدّس سرّه) للمرجعية بعد وفاة سيّدنا الخوئي (أعلى الله مقامه الشريف)، ويُعتبَر تصدّيه للمرجعية من الخطوات الجريئة في حياته المباركة، لأنّه للتو قد خرج من سجون صدّام وعذابها، وكانت الأنظار مسلّطة عليه، ولا زالت حكومة البعث هي الحكومة المسيطرة، ومع ذلك تصدّى للمرجعية بعد أن طلب المؤمنون منه ذلك، ورجع إليه مجموعةٌ من الشيعة داخل العراق وخارجها، وهذه الخطوة الجريئة لا يمكن تغافلها في حياة السيد الحكيم (قدّس الله نفسه الزكيّة).

وقد امتازت مرجعيته بسماتٍ، كما امتازت بمواقف وأدوار، فمن سمات مرجعيته: الحكمة وحسن الإدارة، فهو رغم كونه مرجعًا كبيرًا يرجع له الآلاف من المقلّدين في العراق وخارجها، كان حكيمًا اسمًا على مسمى، فكان لا يخطو خطوةً في القضايا المحوريّة والمفصليّة التي تهمّ الشأن العراقي إلّا بعد التكاتف والتآزر مع المرجعية العليا التي يمثّلها السيد السيستاني (دام ظلّه الشريف)، وكلّما حاولوا الرجوع إليه ليقول شيئًا أو يتكلّم بشيء في مقابل ما يقوله السيد السيستاني (دام ظلّه الشريف) ما كان يخطو خطوة إلا متآزرة ومتكاتفة مع المرجعية العليا، ليُحفَظ شأن المرجعية العليا ومقامها.

فأين أولئك المتطاولون والمتجاسرون على مقام المرجعية العليا، الذين يقول المرجع وهم يقولون في قبال ما يقوله؟! فليتعلّموا درسًا من دروس الحكمة من مرجعية هذا المرجع العظيم (رضوان الله تعالى عليه)، الذي ما كان قاصرًا ولا كان بحاجة إلى مؤازرة، ولكنه كان يشخِّص مصلحة التشيع ومصلحة العراق، فكان لا يخطو خطواته إلا بحكمة فائقة (رضوان الله تعالى عليه)، وهذه سمةٌ من سمات مرجعيّته، وسماتها كثيرة.

وأمّا أدوار مرجعيّته فمن أهمّها الاهتمام بتعمير وتشييد المراقد المقدّسة في العراق والنجف الأشرف والكوفة وكربلاء، فإنَّه لمّا آلت إليه المرجعية وسقطت حكومة البعث وصارت الأمور بيده، ووجد أنَّ المشاهد والمراقد الشريفة لسوء العناية والرعاية قد كان حالها يحتاج إلى الصيانة والتعمير، جعل ذلك من أولويات مرجعيّته، جزاه الله تعالى عن ذلك خير الجزاء.

فليسمع أولئك الذين يقولون: لا دليل عندنا على استحباب تعمير المشاهد والمراقد! ولماذا نصرف كلّ هذه الأموال من أجل مراقد أئمتنا ومشاهدهم؟! فليسمع هؤلاء كيف هي سيرة مراجعنا في الاهتمام بتعمير مراقد ومشاهد أئمتنا (عليهم السلام)، وقد قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ}، أي: أذن الله أن تُرْفَع رفعةً معنويةً، وأذن الله أن تُرْفَع رفعةً ماديةً فتعمَّر وتعظَّم.

ومن أدوار مرجعيّته: دعم الشعائر الحسينيّة ومساندتها، فكان (رضوان الله تعالى عليه) يبذل الأموال الطائلة من أجل مساندة الشعائر ودعمها، وكانت فتاواه تعجّ بتعظيم هذه الشعائر ومساندة الشعائريين، جزاه الله تعالى عنّا وعن التشيّع وعن الإسلام خير الجزاء.

وحقًّا إنَّ الخسارة بفقده لعظيمة، لقد رحل هذا المرجع العظيم وعالمنا الشيعي أحوج ما يكون إلى وجود أمثاله، فقد قلّ وجود العلماء، وكثر وجود الأدعياء، أدعياء العلم والتحقيق، فما أحوج الشيعة إلى وجود أمثال هذا الحصن العظيم، ومثل هذا العالم الفقيه، ولذلك فإنَّ فقده خسارة للتشيّع لا تعوَّض، وإنَّ فقده في مثل هذا الظرف بالخصوص لثلمةٌ لا تُسَدّ أبدًا.

نسأل الله تعالى أن يلطف بنا، ونسأل المولى صاحب العصر والزمان (أرواحنا له الفداء) أن يشملنا بلطفه وعنايته، وأن يعوِّضنا عن مثل هذا العالم الجليل بعلماء أجلّاء يحملون راية الدفاع عن المذهب، ويحملون راية العلم، امتدادًا للراية التي كان يحملها هذا الفقيه الجليل (رضوان الله تعالى عليه).


الهوامش:

[1] مجلس التأبين الذي ألقاه سماحة السيّد ضياء الخبّاز ليلة 26 محرم الحرام 1443هـ، في حسينية مسلم بن عقيل (عليه السلام) بالقطيف، حيث انتقل المرجع الراحل إلى الرفيق الأعلى عصر يوم الجمعة 25 محرم الحرام 1443هـ، المصادف لذكرى شهادة الإمام زين العابدين (عليه السلام).

تعليق واحد على “صفحات من حياة السيد الحكيم”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *