بسم الله الرحمن الرحيم
لستُ هنا بصدد الحديث التحليلي عن شخصية المرجع الديني الكبير ، سماحة آية الله العظمى ، الشيخ التبريزي ( طيب الله تربته ، ورزقنا شفاعته ) ؛ فإنَّ ذلك مما أعترف بعجزي وقصوري عنه ، وإنما بصدد تجلية بعض اللمحات التي لمحتها شخصياً في شخصيته المباركة ، والتي أجد من الضرورة تسجيلها وتخليدها ، إذ لعلَّ غيري قد يفوته ذكرها .
1 / اللمحةُ الأولى : قوةُ التوكل .
من المراتب العالية جداً التي لا يصل لها إلا القلة من الأولياء : مرتبة التوكل ، والتي تعني الاطمئنان التام ، والثقة الكاملة بذات الحق سبحانه وتعالى ، المنعكسة عن عمق المعرفة بالله ، وقوة اليقين بجمال أفعاله وصفاته .
إذ ليس يقوى العبد على الوصول إلى شامخ هذه المرتبة ، إلا فيما لو فَوَّضَ كل أموره إلى خالقه المدبر ، مع الاعتقاد الجازم بأنه تعالى لا يصنع بعبده إلا ما فيه صلاحه ، وترى العبد المتوكل في هذه المرتبة لا يعرف طريقاً إلى الأسباب الظاهرية التي قد توصله إلى مطلوبه ، لأنَّ قلبه قد ارتقى عنها مرتقىً بعيداً ، وصار بحيث لا يعرف سوى ربه سبباً .
وهكذا كان شيخنا التبريزي ( طيب الله تربته ، ورزقنا شفاعته ) فإنه كان في عظمة توكلهِ أعجوبةً من أعاجيب الزمان ، وإنَّ مواقفه الشريفة لأوضحُ شاهدٍ على ذلك ، وسوف أكتفي بعرض موقفٍ من مواقفه ، فإنَّ فيه الكفاية للدلالة على ما أريد الاستشهاد عليه .
وذلك عندما وقف موقفه التأريخي حول موجة التشكيك في مصائب السيدة الطاهرة ، المظلومة الشهيدة ( أرواحنا لتراب نعلها الفداء ) فإنه قد توالت عليه حينها الكثيرُ من الرسائل والفاكسات المهددة والمتوعدة ، وهذا ما أوجب إثارة مشاعر الخوف والقلق عند ذويه وأصحابه ، فطلبوا منه مرافقته عند خروجه من محل تدريسه – حيث كان لا يرضى بذلك في سابق الزمان – غير أنه قد رفض ذلك أشدَّ الرفض ، وقال : إنَّ التي بذلتُ نفسي للدفاع عنها ، هي التي ستتكفل بحفظي .
وهكذا كانَ يخرجُ – كما كنّا نراه – من محل درسه في المسجد الأعظم ، بجوار حرم كريمة الأئمة ، وسليلة أهل العصمة ( عليها أفضل الصلاة والتحية ) ويتجه إلى بيته وحيداً ، من غير أن يرافقه أحد ، مع أنَّ تلك الفترة كانت من أصعب وأشد وأحرج الفترات التي عاشها ( رضوان الله عليه ) ، حيث كان فيها مُعرّضاً للخطر والضرر في أي لحظة ، ولكنه مع ذلك لم يأبه ولم يعبأ ، وهذا إن كان يكشف عن شيء فهو يكشف عن عمق يقين المعرفة لديه ، وعظمة ثقته بالله وجنوده ( عليهم السلام ) .
2 / اللمحةُ الثانية : الاهتمام بمأساة سيد الشهداء ( عليه السلام ) .
هُنالكَ ظاهرة عجيبة في مسيرة الآية التبريزي ( قده ) تشد المتأمل إليها ، وهي انشداده إلى مأساة سيد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) ، وكان لهذا الانشداد عدة مبرزات تجلّت في مواقفه وأقواله ، وسوف أكتفي بعرض أحدها ، لأنه كفيل بإبراز تلك الحالة الولائية عنده من ناحية ، وإزالة الغبار عن بعض المفاهيم والتصورات المشوهة من ناحية أخرى .
والموقف الذي ألمحتُ إليه ، هو : أن الشيخ التبريزي ( قده ) كان شديد الاهتمام بخطباء المنبر الحسيني الشريف ، وحريصاً جداً على تقديرهم وتبجيلهم ، ولم يكن هذا منه ( طيب الله تربته ) إلا لأجل أن الخطباء الكرام ( أعزهم الله تعالى ) هم أصوات الخطب الحسيني ، من خلال إثارتهم وعرضهم لمصائب سيد الشهداء الحسين ( عليه السلام ) والصفوة الطاهرة من أهله وصحبه .
فكان ( قده ) إذا عُرِّفَ لديه خطيب بأنه من أهل المصيبة والإبكاء ، يبتهج بذلك للغاية ، ويُظهر له تمام التقدير والاحترام ، وهو بهذا يريد أن يبيّن بأنَّ قيمة المنبر الحسيني تكمن في مقدار ما يحتويه من إثارة معالم مظلومية أهل البيت ( عليهم السلام ) وإلهاب الوجدان العاطفي والولائي في نفوس مَن يجتمعون تحت ظلاله الوارفة .
ففي الوقت الذي تتعالى فيه الصرخات من هنا وهناك بانعدام دور المنبر الحسيني الشريف ، وأنه لا زال يسير في ركب التخلف ، وأن خطباء المنبر لا همَّ لهم إلا استدرار الدمعة وإثارة المظلومية ، نجد أنَّ المرجع الراحل ( قده ) يؤكد على خطأ مثل هذه المفاهيم ، من خلال تعظيمه لخطباء الدمعة الحسينية والصرخة الفاطمية ، والإشادة بهم والتنويه بفضلهم .
وهو بهذا يكرس المفاهيم المستقاة من روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فإنَّ المتتبع لها يصل إلى أن الغاية المنشودة لهم ( عليهم السلام ) من وراء تأسيس المآتم الحسينية ، وتشييد المنابر الشريفة ، هي : تأجيج الحالة العاطفية لأتباعهم ، من خلال عرض مصائبهم ومظلوميتهم ، إذ أنَّ هذا كفيل بمضاعفة عواطف الولاء لهم ( عليهم السلام ) من ناحية ، وبتحريك مشاعر العداء تجاه أعدائهم وقتلتهم وغاصبي حقوقهم ( عليهم أشد اللعنة والعذاب ) من ناحيةٍ أخرى .
والشاهدُ على ما ذكرناه : ” ما وردَ عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) من أنه قال للفضيل : تجلسون وتتحدثون ؟ قال : نعم ، جعلتُ فداك ، قال : إن تلك المجالس أحبها ، فأحيوا أمرنا ، رحمَ الله من أحيا أمرنا ، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر ” .
فإنه ليس يخفى على المتأمل في هذه الرواية الشريفة ، كيف أن الإمام ( عليه السلام ) قد اعتبر أن قيمة المجالس التي يجتمع فيها الشيعة ، إنما هي بذكر أهل البيت ( عليهم السلام ) الموجب لتحريك الدموع ليس إلا ، مما يعني أن الغاية المحورية التي ينشدها المعصومون ( عليهم السلام ) من وراء الدعوة إلى المآتم الحسينية الشريفة هي الدمعة أولاً وآخراً .
ولا يعني هذا التقليل من أهمية الاستفادة من المنابر الحسينية الشريفة في إيصال معارف المعصومين ( عليهم السلام ) لشيعتهم ، ضرورةَ أنَّ الاستفادة من آلية المنبر الشريف في نشر المعارف الإلهية ، هو الآخر من مصاديق إحياء أمر أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حيث ورد عن الهروي أنه قال : سمعت الإمام الرضا ( عليه السلام ) يقول : رحم الله عبداً أحيا أمرنا ، قلتُ : وكيف يحيي أمركم ؟ قال : يتعلم علومنا ويعلمها الناس .
فالاستفادة من المنبر الحسيني في نشر معارف الأئمة ( عليهم السلام ) لا ريب في رجحانها ، لاندراجها ضمن عمومات الإحياء ، غير أنه ليس هو الهدف الأساس الذي تكمن وراءه قيمة المنبر الحسيني وخطبائه ، بل القيمة كلها كامنة في مدى إثارة المنبر الحسيني لمظلومية المعصومين ( عليهم السلام ) ونشر مصائبهم المفجعة ، وهذا هو ما كان يؤكد عليه الشيخ التبريزي ( طيب الله ثراه ) في تعامله مع خطباء الدمعة الحسينية .
3 / اللمحةُ الثالثة : بذلُ النفس في تحصيل العلم .
كانت هنالك خصوصية يتمتع بها الشيخ التبريزي ( قدس سره ) لم ألحظها عند غيره من معاصريه ، وهي خصوصية ( قوة الاستحضار ) بحيث كان ذهنه الشريف أشبه شيء بجهاز الحاسب الإلكتروني ، فما كنتَ تطرح عليه فرعاً من الفروع الفقهية ، إلا وكان ينحدر كأنه السيل ، فكانَ – في أغلب الأحيان – يستعرض متون الروايات المرتبطة بذلك الفرع ، بل ويستحضر حتى أسانيد الأخبار ، إلى جانب استحضاره لسائر الكبريات الأصولية المرتبطة بصغرياتها ، وكأنكَ قد ضغطتَ – بسؤالكَ له – على زرٍ من أزرار جهاز الحاسوب ، ليوافيك بجميع المعلومات المتعلقة بسؤالك بكل تفصيل ودقة .
وقد أثارت قوةُ استحضارهِ هذه روحَ الفضول عندي ذاتَ مرة ، فسألته وقلتُ له : مولانا ،كيف يستطيع الطالب أن يجعل قوة الاستحضار لديه بهذه المثابة ؟ فأجابني قائلاً : أيها السيد ، إنَّ هذا يحتاج إلى جهد كبير .
والأمر كما أفاده ( عطر الله مثواه ) إذ أن التوفر على قوة الاستحضار ، كما يتوقف من ناحية على نضج قوة الذاكرة لدى الطالب ، كذلك يحتاج إلى بذل الجهد المضاعف في تحصيل العلمين العظيمين : الفقه والأصول ، وما يرتبط بهما من معارف رجالية وحكمية وكلامية .
وإنَّ المستوى الشامخ الذي كان عليه شيخنا التبريزي ( قده ) في قوة الاستحضار ، لمؤشر واضح على مدى الجهد الشديد الذي قد بذله ( طابت في أعلى الجنة نفسه ) في طريق تحصيل معارف المعصومين ( عليهم السلام ) حتى أصبح في طليعة فقهاء الطائفة المحقة في المرحلة المتأخرة .
وفي الختام : أجد نفسي متحيراً أمام شخصية هذا العلَم العملاق ، لذلك فإنني أستحث الخطا من أجل إنهاء هذه السطور بشكل عاجل ، وإنه ليطيب لي أن أختمها بذكر نفحة من نفحات شيخنا المقدس في أواخر أيام حياته ، حيثُ كانَ في ظل الضعف والمرض – وهو على سرير الموت – لا يترنم لسانه المبارك بشيء من الكلام ، إلا بكلمة واحدة ، وهي كلمة : ( يا زهراء ) ، إذ أنَّ هذا الاسم المقدس قد انتقشت حروفه على صفحة لسانه ، كما انتقشت على صفحات قلبه ، فصار لا ينتشي ولا يطرب ولا يلتذ إلا بذكر اسم السيدة الشهيدة الزهراء ( أرواحُ جميع ما خلقَ اللهُ لها الفداء ) لأنه ذاب عشقاً فيها ، وولاءً لها ، والعاشق لا يلتذ إلا بذكر معشوقه ، فكانت حياته مع الزهراء ، ومماته مع الزهراء ، وسنراه – إن شاء الله تعالى – يوم القيامة ، وهو يحمل أكبر راية كُتبَ عليها : ( يا لثأرات الزهراء ) .
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ضياء السيد عدنان الخباز
قم المقدسة: 3 / 11 / 1427 هـ
اللهم صل على محمد و آل محمد
بارك الله فيكم