وداعًا صديق العمر

قراءة المقال كملف pdf

لمحاتٌ من حياة سماحة الشيخ أمين أبو تاكي (رحمه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين

وبعد:

فإنَّ صداقتي مع الراحل العزيز الشيخ الأمين (رحمه الله تعالى) صداقةٌ يمتدُّ عمرها إلى ما يقارب الثلاثين عاماً، ومثلُ هذه الصداقة يصعب اختصارها في سطور قليلة، ولكنَّني وفاءً لها سأقف وقفات سريعة عند بعض اللمحات الجميلة التي لمحتها في حياة هذا الصديق العزيز، راجياً بتدوينها أن أكون قد قضيتَ بعض حقوقه، وأبرزت بعض حسناته.

1 – اللمحة الأولى: محبة العلماء.

لقد شغف قلبه بحبِّ العلماء منذ نعومة أظفاره، فكان يتنقل بين مساجد علماء القطيف ومجالسهم ومنابرهم، وكانت له على صغر سنه آنذاك منزلة قريبة من نفوسهم، وفي الوقت نفسه كان يتطلع للتعرّف على علماء الشيعة ورجالها أينما كانوا، فكان يحتفظ بالكثير من الصور الفوتغرافية لهم، ويسأل وينقِّب عن شؤونهم وأحوالهم، حتى سنحت له الفرصة بالاتصال بمن كان يأتي منهم إلى بعثات الحج، ثمَّ توسعت هذه الفرصة بهجرته إلى حاضرتي العلم: النجف الأشرف وقمّ المقدسة، وفيهما استطاع أن يمدَّ جسور العلاقة حتى مع كبار مراجع الدين، نظراً لما كانت تمتلكه شخصيته من البساطة والطيبة والعفوية، وكانوا في المقابل يقابلونه بالمودة والاحترام والتقدير، فكانت له منزلة عند أعاظم العلماء، كالسيد الروحاني والسيّد البهشتي والشيخ الميرزا جواد التبريزي (قدَّس الله نفوسهم)، وكانت ذاكرته تحتفظ بالعديد من المواقف والكلمات التي كانت لهم تجاهه، وأظنّه قال لي ذات مرّة: “إنَّ كلَّ واحد منهم قد أتحفني بكلمة”، ولكنني – أنا كاتب هذه السطور – لا أتذكر منها إلا قول المرجع الديني الكبير السيد الروحاني (قُدّس سرّه) له: (أنت صديقي)، وهيَ من الكلمات التي كان يعتزُّ بها كثيراً، لما كان لها من بالغ الأثر في نفسه.

2 – اللمحة الثانية: المداومة على السنن.

وهذا ما رأيته منه منذ بدايات تعرفي عليه، حين كان في أوائل شبابه، فقد كان – مضافاً لمداومتهِ على النوافل اليومية والحجِّ والعمرة – مداوماً على قراءة أدعية أهل البيت (عليهم السلام)، حتى أنّ بعض نسخ كتب ومجاميع الأدعية – التي كان يستخدمها – قد بليت، لكثرة استخدامه لها، وكنتُ أراها بصحبته أينما حلّ وذهب، فربّما كانت معه في جيبه وربّما كانت معه في سيارته، وكان إلى جانب ذلك شديد المداومة على صلاة الجماعة، حتى ولو اضطره ذلك للذهاب إلى بعض مدن ومناطق القطيف البعيدة عن منطقته، كتاروت والجش والقديح وغيرها، وحتى بعد أن تتوّجَ بالعمامة على أيدي كبار الأعلام، لم يكتفِ بما جرت عليه سيرته من أداء صلاة الجماعة مأموماً، بل كان – متى ما رجعَ إلى القطيف في العطلة الصيفية – يؤدي صلاة الجماعة إماماً أيضاً في العديد من المساجد، ومتى ما دعاه أحد أئمة المساجد ليصلّي مكانه كان يلبّي دعوته، وكان – كما سمعتُ منه – يرى ذلك جزءاً مما ينبغي لطالب العلم أن يقوم به كشأنٍ من شؤون التبليغ والدعوة إلى الدين.

3– اللمحة الثالثة: عمق الصلة مع أهل البيت (عليهم السلام).

وهذا ما لا يكاد يخفى على أحدٍ من عارفيه، فقد كان لا ينقطع عن صلتهم (عليهم السلام) وزيارة مراقدهم الطاهرة في مختلف الظروف وأحلك الأوقات، ولا أظنّ أنَّ أحداً من عارفيه يستطيع أن يحصيَ عدد زياراته للمشاهد المشرفة في المدينة المنورة والعراق ومشهد المقدّسة، نظراً لكثرتها، وطالما كان يتحف أصدقاءه وأحباءه بإشراكهم فيها والدعاء لهم تحت قبابها، وهذا نحوٌ من التوفيق لا يوفّق له إلا القليل، ولعله هو سرّ اختياره ليحلّ ضيفاً عليهم (عليهم السلام) في مماته كما كان ضيفاً لهم في حياته.

وأما المجالس الحسينية فقد كان شديد التعلّق بها، حتى وإن كان في منتهى التعب والإرهاق، بل حتى بعد أن أصبح خطيباً لم ينقطع عن التواجد فيها والحضور تحت منابرها، فكان يستمع من المجالس بمقدار ما يتيسر له، وقد قال لي ذات مرّة: “إنني لا أستطيع أن تمرَّ عليَّ المناسبة ولا أستمع فيها ولو مجلساً واحداً”، كما كان يحب أن يشارك في مواكب العزاء واللطم، فكان يقصد القريب منها والبعيد، ويقف مع اللاطمين نادباً ولاطماً على أوليائهِ الطاهرين (عليهم السلام).

وحينَ أُتيحت له فرصة التواصل مع شعراء أهل البيت (عليهم السلام) في مختلف بقاع العالم من خلال وسائل الاتصال الحديثة لم يدّخر وسعاً في الاستفادة من هذه الفرصة في سبيل خدمة سادتهِ المعصومين (عليهم السلام)، فكان ينتخب مقطوعة من المقطوعات الشعرية ويرسلها للشعراء ليحثهم على إحياء المناسبة بتخميس تلك المقطوعة أو تشطيرها، أو يختار فكرةً من الأفكار ويطلب منهم أن يكتبوا فيها، حتى كُتِبَت – بفضل حثّه وتشجيعه ومتابعته – مادة شعرية كبيرة، يُرجى لها أن ترى النور مع بقية آثاره الأخرى.

وإني لأغتنم هذه الفرصة، وأقترح على أعزائي الشعراء – الذين كانوا يشاركون شيخنا الأمين في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) بشعرهم الولائي الجميل – أن يؤسسوا مجموعة واتسابيّة باسم الشيخ الراحل، ليواصلوا المسيرة التي ابتدأها، فإنّها سنّة حسنة تستحق الاستمرار، لما فيها من خدمة عظيمة لأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام).

4– اللمحة الرابعة: رقّة القلب.

وهذا ما كان شاخصاً في حياتهِ وسيرته بنحوٍ مذهل، فربما اختلفنا أنا وإياهُ في وجهات النظر، وأنفعل أو ينفعل أو ننفعل معاً، ولكنّه دائماً ما يكون السبّاق لإزالة التوتر وكأنَّ شيئاً لم يكن، بل الأعجب من ذلك أنه كان يتعرض أحياناً لتصرفات حادّة من قبل بعض الأشخاص، وكان يتحدث معي حولها للتخفيف من وقعها على نفسه، ثمَّ يفاجئني – وفي نفس اليوم – بأنه قد قصدَ الحرم الشريف وزارَ نيابةً عن أولئك الأشخاص، ودعا لهم بالمغفرة والتوفيق، والإنصاف فإنّ قهر النفس إلى هذا المستوى ممّا يحتاج إلى ملكةٍ قوية يعجز عنها الكثيرون.

5 – اللمحة الخامسة: محبة الخير للآخرين.

لقد كان (رحمه الله تعالى) دائماً ما يردِّد: (حُبَّ لأخيكَ ما تُحبُّه لنفسك)، وكان عمله مطابقاً لقوله، فطالما رأيتهُ يصطحب معه بعض الشبيبة – ممّن يمتّون له بنسبٍ أو سبب – إلى المسجد أو الحسينية أو مجالس أهل العلم، وكان يقول: “إني أحبُّ أن تكون لهم صلة بهذه الأماكن الشريفة”.

وحين هاجرَ إلى مهاجر العلم، وشاهد الأوضاع المعيشيّة السيئة لبعض طلبة العلوم الدينيّة، حاولَ أن يستثمر ما يمتلكه من العلاقات الوطيدة مع بعض وكلاء المراجع العظام، فسعى سعياً بالغاً لإلفات أنظارهم وحثّهم على دعم أولئك الطلبة وتحسين أوضاعهم.

وكان من حبّهِ للخير لغيره إذا رأى نتاجاً أو كتاباً لأحد طلبة العلوم الدينية يفرح بذلك كثيراً، ويدعم ويشجّع، وإذا تيسّر له نشره أيضاً لم يكن يتأخر في نشر ما يقع بيده من النسخ، وإذا زار بعض المراجع أو العلماء أو بيوتاتهم وأُعطيَ بعض الكتب العلمية كان يطلب نسخاً أخرى ليوزعها على بعض أساتذته أو زملائه.

وفي هذه السنة الأخيرة من حياته كان له سعيٌ جادّ لإدراج مؤلفات علماء وطلبة القطيف والأحساء في إحدى موسوعات (الببليوغرافيا) التي تعنى بتوثيق التراث الشيعي تحت إشراف البحّاثة الكبير المفهرس السيّد أحمد الحسيني الإشكوري (صانَ الله مهجته)، ولم يكن ذلك منه إلا حبّاً لإبراز نتاج المنطقة وإثبات كفاءة علمائها وطلبتها.

6 – اللمحة السادسة: موهبة القلم.

وقد لمحتُ لديه هذه الموهبة منذ سنوات بعيدة جداً – أظنّها تسبق هجرته إلى النجف الأشرف – حين أطلعني على بعض مكتوباته، وقد شاءَ أن يوظّف هذه الموهبة في خدمة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال توثيق ما يتناهى إلى مسمعه من كراماتهم، وما يقف عليه من فضائلهم وأحاديثهم، أو إحياء ذكر علماء مدرستهم، ونشر ما يستفيده من كلماتهم وفوائدهم.

وربما اختلف معه آخرون في ذلك بالجملة أو في الجملة، إلا أنّه كان ماضياً في طريقه، وكان كثيراً ما يقول: (كلُّ امرئ ميّسر لما خُلِقَ له)، وقد حفظَ بذلك الكثير من الأحداث التي عاصرها والمعلومات التي سمعها، وكانت رغبته أن يجمع شتاتها تحت عنوان أخبرني به في إحدى رسائله لي، وهو: (قبسٌ من حياتي.. ذكرياتٌ وفوائد)، وقد أطلعني خلال الأشهر الأخيرة الفائتة على عدّة من الموادّ التي نضّدها ونسّقها ورتّبها وعرضها على بعض أساتذته، وكان يحاورني حول بعض تعاليقهم عليها، وأبدى أسفه الشديد لما فقده منها، وفهمتُ منه سعيه الجادّ لإعدادها للنشر في مجلد أو مجلدين.

وكان قلمه قلماً سلساً سيّالاً، لا تستعصي عليه المفردات، فيسرد ما يريد كتابته سرداً من غير تكلف ولا توقف، وبسرعة فائقة جدّاً، وربما كان يقوم بذلك – كما كان يحدثني أحياناً – وهو مستلقٍ على فراش الراحة.

وفي سنتيه الأخيرتين أضافَ إلى تلك الكتابات تحقيقه لمجموعة من الرسائل الفقهية لفقيه أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، المرجع الديني الكبير، سماحة آية الله العظمى، السيّد محمد رضا الگلبيگاني (أعلى الله درجته، ورزقنا شفاعته)، ومن الاتفاقات العجيبة أنّه قد رجعَ من مشهد المقدّسة إلى قم المشرّفة في يوم عرفة الفائت – أي: قبل وفاته بعشرة أيام – وسلّمَ التصحيح الأخير للكتاب، ثمَّ رجع في نفس اليوم إلى مشهد مرّة أخرى، وكأنه قد أخذ على نفسه أن لا يفارق الدنيا حتى ينجز عمله، أو أنّه أراد أن يؤكّد العبارة التي كان قد سمعها من المرحوم آية الله السيّد محمد السبزواري (قدّس سرّه)، وهي: (المؤمنُ مُلهَمٌ من الله تعالى)، حيث كان كثيراً ما يردّدها على لسانه، لإعجابهِ بمضمونها.

7 – اللمحة السابعة: حرصُهُ على تآلف القلوب.

لقد كان (رحمه الله تعالى) يحزنه بصدق ما يشعر به أحياناً من التنافر بين بعض المؤمنين، لاعتباراتٍ لا قيمةَ لها، فكان يسعى بكلِّ جهده لأجل معالجتها، وترطيب الأجواء بينهم وتخفيف الاحتقان في نفوسهم، ويبذل الكثير من وقته لأجل تنسيق الزيارات بينهم، مردّداً صدر بيت شعري للشاعر إبراهيم المازني، وهو: (على قدرِ إحساس الرجالِ شقاؤُهم)، ومتى ما وُفِّقَ لذلك كان يفرح به فرحاً شديداً، ويعتبره من أهمّ إنجازاته، وإن لم يُوفّق لهذا المقدار كان كلّما سمع من أحدهم كلمةً إيجابيةً في حقّ الآخر اقتنصها ونقلها له، وحتى لو لم يسمع كان يبادر لانتزاع الكلمات الطيّبة من الطرفين، ثمَّ ينقلها لكلٍّ منهما، لعلّه يتمكن بذلك من تطييب نفوسهم وتقريبهم إلى بعضهم البعض، فتنتشي روحه بذلك، وتغمره البهجة والراحة.

ونظراً لكلِّ ذلك – مضافاً لدماثة خلقه ولطف تعامله، وخدماته الدينية والحوزويّة والاجتماعية – فقد حازَ مكانةً كبيرة في قلوب المؤمنين، ظهرت جليّة واضحة بعد وفاته، حيث تأثّر الجميع لفقده تأثراً واضحاً، وتأسفوا لرحيله، فأبّنه الأعلام وطلبة العلوم الدينية والشعراء وغيرهم – في العراق وإيران ولبنان والأحساء والقطيف وغيرها – بكلماتٍ تعبِّر عمّا تركه من اللوعة والأسى في نفوسهم، وتكشف عن عمق مكانتهِ في قلوبهم.

وفي الختام:

ليس بيدنا – والحزن يعتصر قلوبنا – إلا الرضا والتسليم لله تعالى، والدعاء لصديقنا الأعزّ الوفي المخلص بالمغفرة والرحمة والدرجات العاليات عند النبي وآله الهداة (عليهم السلام)، وأن يقرَّ الله أعيننا بأولاده الأعزّاء الذين كانَ يعدّهم لمواصلة مسيرته، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

صديقه الذي لا ينساه

ضياء السيد عدنان الخباز

تعليق واحد على “وداعًا صديق العمر”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *