بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ تعاليم أهل البيت (عليهم السلام) المرتبطة بليلة القدر تسعى لتنظيم ثلاث علاقات للإنسان المؤمن [1]:
أ/ العلاقة الأولى: علاقة الإنسان مع ربه.
ويتلخص الكلام حولها في ثلاثة أمور:
1/ كيف يتحقّق إحياء ليلة القدر؟
إن ليلة القدر كما تعبر عنها الروايات هي ليلة الإحياء، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوقظ فيها أهله للطاعة، ويرش الماء على وجوه النائمين منهم.
وليس يتحقق الإحياء بالذهاب لأماكن الإحياء بمقدار ساعة أو ساعتين، فهذا إحياء لبعض ليلة القدر، والمطلوب هو إحياؤها حتى الفجر، كما يستفاد من الأخبار الشريفة، وقد لا يسع سوادها لاستيعاب كل الأعمال الواردة فيها.
إيقاظٌ:
والجدير بالذكر أنّ يوم القدر كليلته في الأجر والفضل والقداسة، كما في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام)، غير أن ذلك من المغفول عنه للأسف الشديد عند شريحة من الناس، فتراهم يهتمون بإحياء ليلة القدر إحياءً منقطع النظير، ولكنهم يتعاملون مع يوم القدر كما يتعاملون مع سائر أيام شهر رمضان، بل كسائر أيام السنة.
2/ ما هو أهم الأعمال العبادية في ليلة القدر؟
والظاهر أن من أهم أعمالها – إن لم يكن هو الأهم – التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، والوجه في ذلك: أن ليلة القدر رحلة عبادية قربية لله تعالى، ولا يمكن أن يتحقق التقرب إليه تعالى إلا من الإنسان التائب المنكسر بين يديه تعالى، وأما الشامخ بمعاصيه وسيئاته والمصر عليها فإنه أبعد ما يكون عن الله تعالى، ومن هنا نفهم أن أهم عمل ينبغي أن يحققه الإنسان قبل الشروع في أعمال ليلة القدر هو التوبة لله تعالى، ولعل هذا هو سر تأكيد الروايات الشريفة على محبوبية الإكثار من الاستغفار في ليالي القدر الثلاث.
تنبيهٌ:
وليس المطلوب إظهار التوبة كذبًا، بأن يدّعي الإنسان التوبة بين يدي الله وهو لا يزال غارقًا في المعصية، كأن يكون على صلة بامرأة أجنبية مثلًا، فإنه لو أعلن التوبة بين يدي الله وهو لا يزال على علاقة بها لكان كاذبًا، والكذب في التوبة أشنع من عدم التوبة.
تنبيهٌ آخر:
وهمسة أخيرة تقال هنا، هي: أن بعض الناس قد يتوهم أنّ هذا الحديث لا يعنيه، وأن التوبة لغيره، فمن توهم ذلك فليعلم أنه أشد حاجة للتوبة من غيره، لأن الشيطان قد تمكّن من نفسه الأمّارة.
3/ بماذا ندعو في ليلة القدر؟
لا شك في أنّ ليلة القدر هي ليلة تقديم طلبات العباد وتنفيذها، وهذا ما يدعو الإنسان للتفكير في قائمة طلباته وحاجاته التي سيقدّمها بين يدي الله تعالى.
ومشكلة الإنسان أنه عندما يعيش هذه الحياة ومصاعبها فإنها تفرض عليه التفكير في المطالب المادية المرتبطة بها، ولذلك فهي التي تتبادر لذهنه وقلبه كلما مرّت عليه عبارة (اطلب حاجتك) ضمن أعمال ليلة القدر.
والحال أن الأولوية ليست لها، وإنما هي للحاجات المعنوية، كالعتق من النار، ورضا الله وأوليائه، وتهذيب الروح والأخلاق، ونحو ذلك من مهمّات الأمور المعنوية، وعليه فلتكن الأولوية هذه الليلة لهذه المطالب ثم تتلوها المطالب المادية.
وإنّ من المخجل جدًا أن نتقدم لله تعالى بطلب وظيفة أو مال أو نحو ذلك، قبل أن نطلب منه رضاه والفوز بجنته.
ب/ العلاقة الثانية: علاقة الإنسان مع إمامه.
وهنالك ثلاثة تعاليم قد ركزت عليها الروايات من أجل ترسيخ هذه العلاقة:
1/ الاهتمام بزيارة الإمام الحسين (عليه السلام).
فقد ورد عن الإمام الجواد (عليه السلام): “من زار الحسين عليه السلام ليلة ثلاث وعشرين.. وهي الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.. صافحه روح أربع وعشرين ألف ملك ونبي، كلهم يستأذن الله في زيارة الحسين عليه السلام في تلك الليلة .
ولعلّ المقصود بالمصافحة هو الحصول على بركات وألطاف وهبات هذه الأرواح المقدسة التي تفيضها عليهم روح سيد الشهداء عليه السلام.
2/ ترسيخ المعرفة الحقّة بعقيدة الإمامة والولاية.
وكم نحن بحاجة إلى ذلك في زمن التزييف والتحريف وتشويه الحقائق وتقلب القلوب، ومن جملة ما يساعد على ذلك بعض أعمال ليلة القدر، كقراءة سورة القدر ألف مرة، فقد ورد أنها ترسخ المعرفة الولائية عند الإنسان، وتعمّق اليقين بها.
3/ تعميق الارتباط بإمام العصر وسلطان الزمان (أرواح مَن سواه فداه).
فقد ورد عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) قولهم: كرر في الليلة الثالثة والعشرين ساجدًا وقائمًا وقاعدًا، وعلى كل حال.. اللهم كن لوليك الحجة بين الحسن في هذه الساعة… إلى آخر الدعاء المشهور.
ولعلّ السر في ذلك:
أولًا: إنّ ليلة القدر هي ليلة تنزّل الأرزاق والآجال والسعادات والأقضية على قلب إمام العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه)، فلنمد يدنا إليه من خلال دعائنا له لنحظى منه بنظرة كريمة تقلب حياتنا الملوثة إلى حياة ملؤها الطهارة والنقاء.
وثانيًا: إنه عليه التحية والسلام ولي النعم، وأقل ما نقدمه هدية متواضعة لولي نعمتنا هو الدعاء المكثف له والتصدق عنه، بل أن نجعل الأولوية له قبل أنفسنا.
ج/ العلاقة الثالثة: علاقة الإنسان مع إخوانه.
وهذه العلاقة لها بعدان:
١/ بُعْد التآلف:
فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): أنّ الله يأمر ملكًا ينادي في كل يوم من شهر رمضان: أبشروا عبادي فقد وهبت لكم ذنوبكم السالفة، وشفعت بعضكم في بعض ليلة القدر إلا.. مَن حقد على أخيه.
وهذا يعني أنّ الإنسان حين يحمل في قلبه ضغينة على أحد إخوانه المؤمنين، لا لشيء سوى عدم تلائمه مع مزاجه أو لبعض المشاكل الشخصية مثلًا، فإنّ ذلك قد يحجب الإنسان في ليلة القدر عن عطائها وألطافها وبركاتها.
وهذه دعوة من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لتطهير النفوس وتنقيتها من شوب الأحقاد والضغائن.
2/ بُعْد التكاتف:
فعندما يقرأ الإنسان أدعية ليلة القدر بتأمّل يجدها تدعوه أن يعيش آلام المجتمع الذي يعيش فيه وأحزانه وأفراحه، نظير الدعاء القائل: (واغفر لي في هذه الليلة ولوالدي ولجميع المؤمنين والمؤمنات… اللهم اقضِ ديني ودين كل مديون، وفرج عني وعن كل مكروب، وأصلحني وأهلي وولدي، وأصلح كل فاسد).
وأقل ما يتحقق به التكاتف هو الدعاء لبعضنا البعض، وهذا ما يوجب توجهنا بالدعاء لجميع شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، سيما الذين يعيشون ظروفًا صعبة وحرجة في مناطق مختلفة من العالم.
هذه كانت بعض عطاءات ومغانم تعاليم العترة المعصومين (عليهم السلام) في ليلة القدر المباركة، وهذا ما يفرض علينا اغتنامها وتنظيم العلاقات الثلاث على ضوئها.
والحمد لله رب العالمين
[1] ملخّص محاضرة (ليلة القدر وتنظيم علاقات الإنسان).
وفقكم الله تعالى لجهودكم نسألكم الدعاء