أصول الدين بين المتكلّم والفقيه

توطئةٌ :

مما لا ريب فيه : أنَّ المسائل الدينية يصح تقسيمها إلى قسمين :

القسم الأول : أصول الدين ، ويراد بها : المسائل التي لا يتحقق انتماء الإنسان للدين إلا بالاعتقاد بها ، كالتوحيد .

القسم الثاني : فروع الدين ، ويُراد بها : المسائل الدينية التي لو أخلَّ الإنسان بالاعتقاد أو العمل بها ، فإنَّ ذلك لا يؤثر على انتمائه الديني ، بحيث يوجب خروجه عن دائرة الدين ، كالصلاة .

وقد اشتهر كثيراً : أنَّ الشيعة الإمامية ( أعزّ الله كلمتهم ) يرون انحصار الأصول في خمسة ، وهي : التوحيد ، والنبوة ، والعدل ، والإمامة ، والمعاد ، إلا أنَّ ذلك – كما يقتضيه التتبع – ليس محل وفاق عند جميع العلماء ؛ ولذا لزم تنقيح البحث حوله مفصلاً ، ونبدأ ذلك بعرض الأقوال في المسألة ، فنقول :

عرضُ الأقوال في المسألة :

ذهبَ المشهور إلى خماسية الأصول بالنحو الذي ذكرناه ، غيرَ أنَّ التتبع يوقف الباحث على آراء أخرى في المسألة ، ومن الممكن حصرها في الآراء التالية :

1 – الرأي الأول : أنها خمسة أصول [1]، وقد ادعيت عليه الشهرة [2]، بل بالغ بعضهم فادعى عليه إجماع الإمامية [3].

2 – الرأي الثاني : أنها أربعة ، وهي : التوحيد ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد [4].

3 – الرأيُ الثالث : أنها أربعة ، وهي : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة [5].

4 – الرأيُ الرابع : أنها ثلاثة ، وهي : التوحيد ، والنبوة ، والمعاد [6]، وقد ادعيَ الشياع بين الإمامية على هذا الرأي [7].

5 – الرأيُ الخامس : أنها اثنان : التوحيد ، والإيمان بنبوة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا هو الذائع بين المتأخرين [8].

توجيهُ تعدد الآراء :

وأمام هذا الاختلاف المثير ، ينبغي توضيح أمرين :

أ / الأمر الأول : إنَّ الغاية من وراء كل علم تختلف عن الغاية من وراء العلم الآخر ، ونظراً لاختلاف الغايات فإنَّ العِلْمين حتى لو بَحَثا عن مسألةٍ واحدة ، إلا أنَّ النتيجة التي قد يتوصل إليها أحدُ العِلْمين ليس من اللازم أن تتفقَ مع نتيجة العلم الآخر ، بل طبيعة اختلاف الغايات تقتضي عادةً اختلاف المنهج والنتائج .

ب / الأمر الثاني : إن الإسلام – في كلمات الفقهاء – يُستخدم بمعنيين :

– الإسلام الظاهري .

– الإسلام الواقعي .

والفرق بينهما : أنَّ الأول ما يكون أثره دنيوياً ، وهو الذي يتحقق بمجرد التلفظ بالشهادتين ؛ إذ بهِ تُحقن الدماء ، وتُحفظ الفروج ، وتُحترم الأموال ، بينما الثاني ما يكون أثره أخروياً ، وهو الفوز بالجنة ، وهذا هو الذي يتحقق بالإيمان التام بالله تعالى وبكلِّ ما يجب الاعتقاد به .

ومن الواضح أنَّ الإسلامين قد يجتمعان لدى شخصٍ واحد ، وقد ينفكان ، فيكون الشخص مسلماً بالإسلام الظاهري ، ولكنه ليس مسلماً بالإسلام الواقعي ، كما هو الحال عند المنافقين .

المائز بين المنهج الفقهي والكلامي :

إذا عرفتَ ما ذكرناه ضمن الأمرين المذكورين ، تعرف الوجه في تعدد الآراء المتقدمة ؛ إذ أنَّ الغاية للفقيه إنما هي البحث عمّا له ارتباط بالجانب العملي في حياة المكلف ، أي : ما يلزم وما لا يلزم ؛ ولذا فإنَّه عندما يبحث حول أصول الدين فإنه يبحث عنها مِن زاوية ما يجب التلفظ به منها وإظهارُ اعتقاده وما لا يجب ، فما كان يجب التلفظ به فهو أصلٌ من أصول الدين وإلا فلا ، وهو بهذه الغاية لا يتجاوز دائرة الإسلام الظاهري .

بينما الغاية عند الكلامي – عالِم الكلام والعقائد – مختلفة ، فهو يبحث عمّا له ارتباط بالجانب الاعتقادي في حياة المكلف ، أي : ما يلزمه أن يعتقد به ، وبهِ تكون نجاته في الآخرة ، وما لا يلزمه الاعتقاد به ، مما لا يتوقف عليه مصيره الأخروي ، فما انتهى إلى لزوم الاعتقاد به اعتبره من أصول الدين ، وما انتهى إلى عدم لزوم الاعتقاد به اعتبره من فروع المعارف العقائدية .

ومن هذا المنطلق : فإنَّ الفقيه – مِن زاويته – إما أن يرى انحصار أصول الدين في أصلين ، كما هو الرأي الشائع بين الفقهاء ، وإما أن يضم للأصلين أصلاً ثالثاً وهو المعاد – كما صنعَ ذلك المحقق الخوئي ( قده ) – إذا قام الدليل عنده على دخالته في تحقق الإسلام الظاهري .

وأما الكلامي فإنه – مِن زاويته – يرى دائرة الأصول أوسع من ذلك ؛ إذ هو يبحث عن كلِّ ما تتوقف على معرفته النجاةُ في الآخرة ، وتمييزه عما لا تتوقف عليه ؛ ولذا تراه لا يكتفي بذكر التوحيد والنبوة حتى يعطف عليهما المعاد والإمامة ، والعدل أيضاً على رأيٍ آخر .

     وبما ذكرناه يتضح إمكان تقليص الأقوال المذكورة ، وتضييق دائرة الخلاف؛ لأنه ناشئ عن تداخل العلمين : الفقه والعقائد ، فمع إرجاع كل رأيِ إلى حقله المناسب له ستنحسر نسبة الخلاف المذكور .

أصول الدين بين التقسيم الثنائي والرباعي :

وما دمنا قد وصلنا إلى هذه النقطة ، فلا بدَّ أن نُخرج القارئ من دوامة النزاع بتحديد التقسيم الصحيح لأصول الدين ، وذلك مِن خلال مرآتي الفقه والكلام ، فنقول :

أصول الدين مِن مرآة علم الفقه :

أما إذا نظرنا من خلال مرآة الفقه : فالتقسيم الثنائي هو الراجح ؛ إذ هو صريح عدة من الروايات الدالة على عدم دخالة شيء في تحقق الإسلام سوى التوحيد والنبوة ، ومنها : موثقة سماعة ، عن أبي عبد الله الصادق u  أنه قال : ” الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، والتصديق برسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، بهِ حُقنت الدماء ، وعليهِ جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس ” [9].

رأيُ السيد الخوئي ( قده ) :

إلا أنَّ السيد الخوئي ( قده ) رجّحَ التقسيم الثلاثي على الثنائي ، فأضاف المعاد للتوحيد والنبوة ، وقد تحدث عن ذلك فقال : ” الاعتراف بالمعاد وإن أهمله فقهاؤنا ( قدهم ) إلا أنّا لا نرى لإهمال اعتباره وجهاً ، كيفَ وقد قُرِن الإيمان به بالإيمان بالله سبحانه في غير واحد من الموارد ، كما في قوله ( عزَّ من قائل ) : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، وقوله : { إن كنَّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر } ، وقوله : { مَن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } ، وقوله تعالى : { مَن آمنَ بالله واليوم الآخر } إلى غير ذلك من الآيات ، ولا مناص معها من اعتبار الإقرار بالمعاد على وجه الموضوعية في تحقق الإسلام ” [10].

وخلاصةُ ما أفاده ( قده ) : أنَّ القَرْن بين الإيمان بالله تعالى والإيمان بالمعاد في العديد من الآيات القرآنية يدل على أنَّ الإيمان بالمعاد كالإيمان بالله في كونه دخيلاً في تحقق الإسلام .

مناقشةُ رأي السيد الخوئي ( قده ) :

ويمكن أن يُناقش رأيه الشريف بمناقشتين :

أ – المناقشة الأولى : مناقشة نقضية ، وقد أفادها الشيخ الميرزا التبريزي ( قده ) ، وحاصلها :

أنَّ مجرد القَرْن بين الإيمان بالله والإيمان بشيء آخر في الآيات القرآنية ، لو كان مستلزماً لدخالته على نحو الموضوعية في تحقق الإسلام ؛ للزم من ذلك دخالة الإيمان بالقرآن الكريم بشكلٍ مستقل في تحقق الإسلام ؛ لاقترانه بالإيمان بالله تعالى في عدة من الآيات ، ومنها : قوله تعالى : { فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } وقوله : { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله } ، مع أنَّ أحداً من الفقهاء لا يلتزم بذلك [11].

ب – المناقشة الثانية : مناقشة حلية ، وحاصلها : أنَّ عطف شيء على شيء لا يقتضي مشاركته معه في كلّ خصوصياته ، وعلى ذلك فإنَّ عطف الإيمان بالمعاد على الإيمان بالله مكرراً ، لا يدل على أكثر من لزوم الإيمان بذاك كالإيمان بهذا ، وأما كونه مثله في موضوعيته في تحقق الإسلام ، فالآيات قاصرة عن إثباته .

فتحصل : أنَّ التقسيم الثنائي هو الأوفق بما تقتضيه الأدلة .

أصولُ الدين من مرآة علم الكلام :

وأما إذا نظرنا من خلال مرآة الكلام : فإنَّ التقسيم الثلاثي – الدائر بين التوحيد والنبوة والإمامة – هو الراجح ، ولا تُهمنا وحشة التفرد به ما دام الدليل يساعدنا عليه ، وبيانه :

أما بالنسبة إلى التوحيد والنبوة الخاصة – أعني بها نبوة النبي الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) – فاعتبارهما كأصلين مستقلين في تحقق الإسلام ظاهراً وواقعاً غنيٌ عن البيان .

الإمامةُ من أصول الدين :

وأما بالنسبة للإمامة : فهيَ وإن لم تكن دخيلة في تحقق الإسلام الظاهري ، إلا أنه لا ريب في دخالتها على نحو الموضوعية في تحقق الإسلام الواقعي [12]، والأدلة على ذلك كثيرة ، ومن أهمها الحديث المستفيض نقله عن النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) من طريق الفريقين : ” مَن مات ولم يعرف إمامَ زمانه ماتَ ميتة جاهلية ” [13]، فإنَّ وصفه لموت غير العارف بالإمام بالميتة الجاهلية – التي تعني ميتة الكفر كما هي ميتة أهل الجاهلية – كالصريح في كون الإمامة أصلاً مستقلاً من أصول الدين الواقعي ، ضرورة أنَّ غير العارف بإحدى المعارف العقائدية غير الضرورية – كالرجعة – أو أحد الفروع الفقهية – كوجوب الإخفات في الظهرين – لا يخرج عن دائرة الإسلام ، بحيث يموت على الكفر .

ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بمناقشتين :

1 / المناقشة الأولى : إنَّ التعبير المذكور في الحديث وهو ” الميتة الجاهلية” واردٌ أيضاً بالنسبة لترك بعض الفروع الفقهية، كما في قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ” من مات بلا وصية مات ميتة جاهلية[14]، مع أنَّ ترك الفروع – ككتابة الوصية – لا يوجب أكثر من الفسق ، وهذا يعني عدم دلالة الحديث المذكور على كون الإمامة من الأصول ؛ لاحتمال أن يكون المراد من ميتة الجاهلية : ميتة الضلال التي تجتمع مع الفسق ، لا خصوص ميتة الكفر .

ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بجوابين :

الجواب الأول : إنَّ حديث ” مَن مات بلا وصية مات ميتة جاهلية ” حديث مرسل ، فلا يصح الاحتجاج به ، كما أنه حديث يتيم ليس له نظير
في الفروع الفقهية كلها ، فما دام لم يثبت لم يصح القول بورود التعبير المذكور
” الميتة الجاهلية ” بالنسبة إلى ترك بعض الفروع .

الجواب الثاني : إنَّ التعبير المذكور في الحديث : ” الميتة الجاهلية ” حتى لو تنزلنا عن ظهوره في الموت على الكفر ، واحتملنا كون المقصود منه الموت على الضلال الأعم من الكفر والفسق ، إلا أنَّ لدينا بعض الأحاديث الواردة في تفسيره تلغي هذا الاحتمال ، وتعين كون المقصود منه هو الموت على الكفر فقط .

ومنها : صحيحة الحرث بن المغيرة ، قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ” من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ” ؟ قال : نعم ، قلت : جاهلية جهلاء ، أو جاهلية من لا يعرف إمامه ؟ قال : ” جاهلية كفر ونفاق وضلال ” [15].

ومقصود السائل من سؤاله المذكور : أنَّ غير العارف بالإمام هل يموت ميتة جاهلية مطلقة – أي : كمن لم يؤمن بالله والرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهي الميتة على الكفر – ولذلك جاءَ بها مؤكدة فقال : ” جاهلية جهلاء ” على وزان ليلة ليلاء ، أم أنَّ ميتته ليست كذلك ، وإنما هي ميتة ضلال فقط ، من جهة عدم معرفته بالإمام ، نظراً لاحتمال الراوي أن لا تكون معرفة الإمام على وزان معرفة الله تعالى ونبيه ؟

فأجابه الإمام ( عليه السلام ) بقوله : ” جاهلية كفر ونفاق وضلال ” وبما أنَّ الأصل في ( الواو ) – كما يقرر النحاة – أنها للعطف المقتضي لمطلق الجمع ؛ لذلك يُفهم من جواب الإمام ( عليه السلام ) أنَّ مَن مات بغير معرفة الإمام فقد جمع بين الكفر والنفاق والضلال .

أما الضلال : فهو بلحاظ حكمه الدنيوي ؛ إذ ليس يحكم عليه بالكفر ما دام قد تشهد الشهادتين ، ولكنه محكوم بالضلال ، وأما الكفر : فهو بلحاظ حكمه الأخروي ، وأما النفاق : فلعلّه بلحاظ جمعه بين الحق والباطل نظير سائر المنافقين الذين يُظهرون الحق ويبطنون الباطل .

ويمكن أن يُستأنس لما ذكرناه بصحيحة محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) – في حديثٍ مطول – يقول : ” والله يا محمد مَن أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله  ( عزَّ وجلَّ ) ظاهراً عادلاً أصبحَ ضالاً تائهاً ، وإن ماتَ على هذه الحال مات ميتة كفرٍ ونفاق ” [16]، فإنَّ هذه الصحيحة صريحة في التفصيل بين الحكمين الدنيوي والأخروي ، فغير العارف ضال في الدنيا ، وكافر في الآخرة .

وبهذا ننتهي إلى عدم تمامية المناقشة الأولى ، وننتقل للحديث عن المناقشة الثانية .

2 / المناقشة الثانية : ما أفادها بعض أجلاء المعاصرين ( دام عزه ) ، بقوله : ” إنَّ المراد بالميتة الجاهلية : ميتة الضلال – إذ كيف يُعرف الحق بدون الإمام – لا ميتة الكفر، ويدل عليه أخبار ، منها : خبر الحسين بن أبي العلا ، قال : سألتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ” مَن مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية ” ؟  فقال ( عليه السلام ) : نعم ، لو أنَّ الناس تبعوا علي بن الحسين ( عليهما السلام ) وتركوا عبد الملك بن مروان اهتدوا .

فقلنا : مَن مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ، ميتةَ كفر ؟ فقال   ( عليه السلام ) : ” لا ، ميتة ضلال ” [17].

ويمكن أن يُجاب عن هذه المناقشة بجوابين :

أ – الجواب الأول : ما أفاده العلامة المجلسي ( قده ) بقوله : ” لعلّه   ( عليه السلام ) عدلَ عن تصديق كفرهم إلى إثبات الضلال لهم ؛ لأنَّ السائل توهم أنه يجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا – كالنجاسة ، ونفي التناكح والتوارث ، وأشباه ذلك – فنفى ذلك ، وأثبتَ لهم الضلال عن الحق في الدنيا وعن الجنة في الآخرة ، فلا ينافي كونهم في الآخرة ملحقين بالكفار ، مخلدين في النار ، كما دلّت عليه سائر الأخبار ” [18].

والإنصاف أنَّ هذا الجواب مجرد احتمال لا شاهد عليه ، فتبقى الرواية ظاهرة في نفي موت الكفر عنهم ، وإثبات موت الضلال لهم .

ب – الجواب الثاني : أن يُقال : إنَّ صحيحة الحرث بن المغيرة ظاهرة في موت غير العارف بالإمام على الكفر ، وأما هذه الصحيحة فهي صريحة في نفي ذلك عنه ، إلا أنه لا تنافي بين الصحيحتين ، ضرورة أنهما ناظرتان إلى وصف حال غير العارف عند موته ، وهل أنه يموت على الضلال أم الكفر ؟ والصحيحُ إمكان وصفه بكلا الوصفين ، أما الأول : فبلحاظ أنه هو وصفه في حال الدنيا الذي مات عليه ، وأما الثاني : فبلحاظ أنه هو وصفه الذي تلبسَ به بمجرد انقطاع الحياة عنه .

ونفي الإمام ( عليه السلام ) لوصف الكفر لا يعني النفي المطلق ، بل غاية ما يستفاد منه نفيه حال الموت بلحاظ الحالة التي كان عليها في الدنيا ، فلا يعارض ما دلَّ على وصفه بالكفر بلحاظ النشأة الأخرى ، وشاهد ما ذكرناه هو صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : ” مَن أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله  ( عزَّ وجلَّ ) ظاهراً عادلاً أصبحَ ضالاً تائهاً ، وإن ماتَ على هذه الحال مات ميتة كفرٍ ونفاق ” .

وبما عرضناه ننتهي إلى أنَّ الإمامة أصلٌ موضوعي مستقل في تحقق الإسلام واقعاً ، وإن لم تكن كذلك في تحققه ظاهراً .

العدل والمعاد ليسا من أصول الدين :

وأما بالنسبة للمعاد : فقد اتضح مما تقدم عدمُ تمامية ما استُدلَّ به من الأدلة على كونه أصلاً موضوعياً في تحقق الإسلام ظاهراً ، وكذلك واقعاً أيضاً ، إلا أنَّ الإنصاف أنَّه وإن لم يكن كذلك غيرَ أنه من أوضح وأبده ضروريات الإسلام ، فيصعب التفكيك بينه وبين النبوة ، بحيث يوجد شخص يؤمن بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولكنه لا يؤمن بالمعاد ، وإذا كان كذلك كان دخيلاً في تحقق الإسلام – ظاهراً وواقعاً – بالضرورة ، وإن لم يكن أصلاً موضوعياً وقيداً مستقلاً ، كما التزم بذلك بعض أعاظم الأعلام ( قدهم ) [19].

وأما بالنسبة للعدل : فهو وإن قال عنه بعضُ المعاصرين : ” إنَّ العدل أساسٌ وأصلٌ مستقلٌ من أصول الدين عند الشيعة ” [20]، إلا أنه على ظاهره مما لا يمكن التسليم به .

ضرورة أنَّ العدل لا ميزة تميزه عن بقية الصفات الإلهية ، وعليه فلو كان باعتباره صفة من صفات الله مصنفاً ضمن أصول الدين ؛ لوجب أن نعد صفات الله الأخرى – كالعلم والقدرة والحياة – من أصول الدين أيضاً ، والحال أنَّ أحداً لا يلتزم بذلك .

ولعلَّ مَن اعتبره أصلاً أرادَ بالأصل معناه اللغوي – وهو الأساس – بلحاظ أنَّ العدل أساس تبتني عليه الكثير من القضايا العقدية المهمة ؛ إذ على ضوئه يتأكد لزوم بعث الأنبياء ، وإنزال الكتب والشرائع ، وجعل الأئمة ، ووجود يوم القيامة .

المحصلة النهائية :

وبما ذكرناه نكون قد انتهينا إلى أنَّ أصول الدين – من مرآة علم الكلام – تنحصر في ثلاثة : التوحيد ، والنبوة الخاصة ، والإمامة ، وكلُّ واحد منها مستقلاً دخيل في تحقق الإسلام الواقعي .

أصولُ الدين وأصول المذهب :

    ويتفرع على ذلك بوضوح صحةُ تقسيم الأصول إلى أصول دينٍ ومذهب ، فما كان دخيلاً في تحقق الإسلام الظاهري فهو من أصول الدين ، وينحصر ذلك بالتوحيد والنبوة الخاصة ، وما لم يكن دخيلاً في تحققه ولكنه دخيل في تحقق الإسلام الواقعي المتحد مع المذهب الحق فهو من أصول المذهب ، وينحصر هذا بالإمامة .

وبما ذكرناه يتضح وجهُ الخدشة فيما أفاده بعض المعاصرين ( أعزه الله ) بقوله : ” والعجب من بعض الإمامية كيف جعلَ الإمامة من أصول المذهب ، مدّعين أنها من مختصات الشيعة الإمامية المتفردين بها دون بقية المسلمين ، إلا أنَّ هذا التفريق بين أصول الدين والمذهب لم نجد له وجهاً علمياً سوى تخمينات خالية من البرهان ؛ لأنَّ الدين عند الله الإسلام ، وهذا منحصر بمن كان مع الحق والحق معه يدور معه حيثما دار ” [21].

فإنه لا يخفاك وهنُ كلامه هذا ؛ لما فيه من الخلط البيّن بين المنهجين الفقهي والكلامي ، والذي أدّى إلى عدم تصور التفكيك بين أصول الدين وأصول المذهب، وإلا فمن عرف الفرق بين المنهجين – بالنحو الذي ذكرناه – لم تخفَ عليه قيمة هذا التقسيم وأهميته .

والحمد لله رب العالمين


[1] اختاره المولى الوحيد البهبهاني ( قده ) في حاشيته على مدارك الأحكام : 2 / 35 ، وصرّحَ به الحجة المحقق الشيخ أبو الحسن الخنيزي ( قده ) في روضة المسائل : 3 .

[2] بداية المعارف الإلهية : 15 .

[3] الفوائد البهية : 1 / 61 .

[4] نُسبَ هذا الرأي إلى العلامة المظفر ( قده ) في كتابه ( عقائد الإمامية ) ، وقد نسبه إليه كُلٌ من السيد الخرازي في شرحه على الكتاب المذكور ( بداية المعارف الإلهية ) : 15 ، والشيخ العاملي في شرحه أيضاً على الكتاب المذكور ( الفوائد البهية ) : 1 / 61 ، والحق أنَّ النسبة – لمن أعطى عبارة الشيخ المظفر ( قده ) حقها من التأمل – ليست في محلها ؛ لأنه كان بصدد بيان أهمِّ أصول الدين ، لا بصدد بيان جميعها .

[5] اختاره الشيخ الفقيه ابن أبي المجد الحلبي ( قده ) في ( إشارة السبق ) : 13 .

[6] اختاره المرجع الديني الكبير ، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( قده ) في ( أصل الشيعة وأصولها ) : 57 ، والسيد الخوئي ( قده ) في ( التنقيح في شرح العروة الوثقى ) : 3 / 53 ،  والسيد الروحاني ( قده ) في ( منهاج الصالحين ) : 1 / 26 ، والشيخ الوحيد الخراساني ( دام  ظله ) كذلك أيضاً في ( منهاج الصالحين ) : 2 / 120 ، والسيد الحكيم ( دام ظله ) في ( أصول العقيدة ) : 45 ، والشيخ البشير النجفي ( دام ظله ) في بعض أجوبته العقائدية .

[7] الإحكام في علم الكلام : 7 .

[8] اختاره السيد الحكيم ( قده ) في ( مستمسك العروة الوثقى ) : 1 / 378 ، والسيد الخميني ( قده ) في ( كتاب الطهارة ) : 3 / 445 ، والسيد السبزواري ( قده ) في ( مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام ) : 1 / 373، والسيد الشهيد الصدر ( قده ) في( بحوث في شرح العروة الوثقى ) : 3 / 295، والأستاذ السيد الروحاني ( دام ظله ) في ( فقه الصادق ) : 3 / 306 ، والشيخ التبريزي ( قده ) في ( تنقيح مباني العروة الوثقى ) : 2 / 190 .

[9] الكافي : 2 / 25 .

[10] التنقيح في شرح العروة الوثقى : 3 / 53 .

[11] تنقيح مباني العروة الوثقى : 2 / 190 .

[12] ولذلك ذهبَ عدةٌ من الأعلام ( قدهم ) إلى كون الإمامة من أصول الدين ، منهم : الشريف المرتضى ( قده ) في رسائله : 1 / 211 ، والشيخ محمد تقي المجلسي ( قده ) في ( روضة المتقين ) : 1 / 428 ، والشيخ محمد باقر المجلسي ( قده ) في ( مرآة العقول ) : 3 / 226 ، والشهيد التستري ( قده ) في ( إحقاق الحق ) : 2 / 306 ، والمحدث البحراني ( قده ) في ( الحدائق الناضرة ) : 1 / 85 ، والشيخ الوحيد البهبهاني ( قده ) في ( مصابيح الظلام في شرح مفاتيح الشرائع ) : 10 / 473 ، والشيخ المولى محمد صالح المازندراني ( قده ) في ( شرح أصول الكافي ) : 12 / 331 ، والشيخ كاشف الغطاء الكبير ( قده ) في ( كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء ) : 1 / 125 ، والعلامة الماحوزي ( قده ) في ( الأربعين ) : 223  ، والشيخ صاحب الجواهر ( قده ) في ( جواهر الكلام ) : 6 / 63 ، والشيخ المامقاني ( قده ) في ( غاية الآمال ) : 1 / 112 ، والسيد عبد الله شبر ( قده ) في ( الأنوار اللامعة ) : 86 ، والسيد شرف الدين ( قده ) في ( الفصول المهمة ) : 32 و 154 ، والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ( قده ) في ( أصل الشيعة وأصولها ) : 24 ، والشيخ المظفر ( قده ) في ( عقائد الإمامية ) : 65 ، والعلامة الأميني ( قده ) في ( الغدير ) : 3 / 152 ، والسيد البجنوردي ( قده ) في ( منتهى الأصول ) : 2 / 510 ، والسيد البهبهاني ( قده ) في ( مصباح الهداية ) : 114 و 133 ، والسيد المروج ( قده ) في ( منتهى الدراية ) : 6 / 638 ، وغيرهم في غيرها .

[13] نُقلَ هذا الحديث بألفاظ متقاربة في كتب الفريقين ، منها : مسند أحمد : 4 / 96 ، وصحيح مسلم : 6 / 22 ، والسنن الكبرى : 8 / 156 ، ومسند أبي يعلى : 13 / 366 ، وصحيح ابن حبان : 10 / 434 ، والمعجم الأوسط : 6 / 70 ، والمعجم الكبير : 19 / 388 ، ومسند الشاميين : 2 / 437 ، وكنز العمال : 1 / 103 .

[14] وسائل الشيعة : أبواب أحكام الوصايا ، الباب الأول ، الحديث 8 .

[15] الكافي : كتاب الحجة ، باب مَن مات وليس له إمام من أئمة الهدى ، الحديث : 3 .

[16] الكافي : كتاب الحجة ، باب معرفة الإمام والرد إليه ، الحديث : 8 .

[17] الإحكام في علم الكلام : 100 .

[18] مرآة العقول : 4 / 220 ، بحار الأنوار : 23 / 77 .

[19] منهم : السيد الخميني ( قده ) في ( كتاب الطهارة ) : 3 / 445 ، والسيد الشهيد الصدر  ( قده ) في ( بحوث في شرح العروة الوثقى ) : 297 .

[20] معتقدات الشيعة : 108 .

[21] الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية : 1 / 62 .


قراءة المقال كملف pdf

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *