تاريخ المحاضرة: 20/06/1441
نقاط البحث:
- هل ما تضمّنته الرواية من مقاطعة نساء مكة للسيدة خديجة (ع) على خلاف الحقائق التاريخية؟
- هل تدلّ الرواية على جهل النبي (ص) بخصائص ابنته الزهراء (ع) الغيبية؟
- هل من المعقول ألا تلبّي ولا واحدة من نساء مكّة طلب السيّدة خديجة (ع)، رغم وجود نساء مسلمات آنذاك؟
- كيف نتعقّل حدوث ما ذكرته الرواية من انتشار نور الزهراء (ع)، مع أنّه حدث غريب تتكثّر الدواعي لنقله فلا يُحْتَجّ بقليل نقله؟
التسجيل الصوتي:
تنزيل التسجيل الصوتي:
تأملاتٌ ووقفاتٌ مع رواية ولادة الصديقة الزهراء (ع)
اليوتيوب (تسجيل مجلس الزهراء عليها السلام):
تسجيل حسينية بن جمعة:
مواضيع ذات صلة:
نص المحاضرة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلى اللهُ على أشرفِ بريتهِ وخير خلقهِ محمدٍ وآلهِ الطاهرين، واللعنةُ الدائمة على أعدائهم أجمعين.
نصُّ رواية الولادة:
وردَ في كتاب (الأمالي) للشيخ الصدوق (قُدّس سرّه) ما هذا نصّه:
حدّثنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى ابن بابويّه القمّي “رضِيَ الله عنه”، قال: حدّثنا الحسين بن علي بن أحمد الصّائغ، قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمّد بن محمّد الخليلي، عن محمّد بن عليّ بن أبي بكر الفقيه، عن أحمد بن محمد النّوفلي، عن إسحاق بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن زرعة بن محمّد، عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): كيف كان ولادة فاطمة (عليها السلام)؟ فقال: نعم، إنَّ خديجة (عليها السلام) لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرتها نسوة مكة، فكنَّ لا يدخلن عليها، ولا يسلمنَّ عليها، ولا يتركنَّ امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة (عليها السلام) لذلك، وكان جزعها وغمها حذرًا عليه (صلى الله عليه وآله).
فلما حملت بفاطمة كانت (عليها السلام) تحدِّثها من بطنها وتصبِّرها، وكانت تكتم ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يومًا فسمع خديجة تحدث فاطمة (عليها السلام)، فقال لها: يا خديجة، مَن تحدِّثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. قال: يا خديجة، هذا جبرئيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة الطاهرة الميمونة، وإنَّ الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة (عليها السلام) على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا، ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدًا يتيم أبي طالب فقيرًا لا مال له، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئًا.
فاغتمت خديجة (عليها السلام) لذلك، فبينا هي كذلك، إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال، كأنهنَّ من نساء بني هاشم، ففزعت منهنَّ لما رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنَّا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة، فلمَّا سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور.
ودخل عشر من الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة، وإبريق من الجنة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضًا من اللبن وأطيب ريحًا من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة، وقنعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها السلام) بالشهادتين، وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأنَّ بعلي سيد الأوصياء، وولدي سادة الأسباط، ثم سلمت عليهن، وسمَّت كل واحدة منهن باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشَّر أهل السماء بعضهم بعضًا بولادة فاطمة (عليها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك، وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة، وألقمتها ثديها، فدرَّ عليها، فكانت فاطمة (عليها السلام) تنمي في اليوم كما ينمي الصبي في الشهر، وتنمي في الشهر كما ينمي الصبي في السنة)[1].
الإثارات:
لقد سُئل بعض المعاصرين عن رأيهِ ورأي المحقق الخوئي (طيّب الله ثراه) في سند هذه الرواية، فأجاب بجوابٍ يتضمن عدّة من الإثارات، وإليك نصّ جوابه:
(هذا الحديث ضعيف بالسند الذي ذكرتموه وورد في كتاب الأمالي، وذلك لعدّة جهات:
أولًا: إنّ الحسين بن علي بن أحمد الصائغ رجل مجهول، كما لم يوثقه السيد الخوئي (راجع: معجم رجال الحديث 7: 43).
ثانيًا: إنّ أحمد بن محمد الخليلي الوارد في السند رجلٌ مهمل، لم يذكره أحد من علماء الرجال القدامى، ولا يعتبره السيد الخوئي ثقةً (راجع: معجم رجال الحديث 3: 124).
ثالثًا: إنّ محمد (بن علي) بن أبي بكر الفقيه (والظاهر أنه ليس بإمامي) لم يرد له توثيق في كتب الرجال الإماميّة، ولهذا لم يذكره السيد الخوئي أساسًا في كتابه، وكلّ شخص لا يذكره فليس له ذكر في الكتب الأربعة ولا في كتب الرجال عند الإماميّة.
رابعًا: إنّ أحمد بن محمد النوفلي الوارد في السند رجل مجهول عند السيد الخوئي، واسمه الكامل: أحمد بن محمّد بن موسى بن عون بن عبد الله بن الحارث بن نوفل (راجع: معجم رجال الحديث 3: 114 ـ 115).
هذا هو حال هذا السند عند السيد الخوئي، والسند عندي ضعيف أيضًا.
خامسًا: إنّ البعد الغيبي في متن الحديث لا أرى فيه مشكلةً، فالله على كلّ شيء قدير، وليس كثيرًا على السيدة الزهراء (عليها السلام) أن تحاط بالكرامة والسؤدد، لكن جاء في متن الحديث أنّ نسوة مكّة هجرن السيدة خديجة، وهذا كلام يمكن التشكيك فيه، من حيث إنّ رجال المسلمين في تلك الفترة لم يكن قد هجرهم المشركون إلا عقب المقاطعة أواخر البعثة وقبيل وفاة خديجة وبعد ولادة السيدة الزهراء (عليها السلام) بسنوات، فكيف يعقل هجران النساء لخديجة لزواجها من محمّد؟! بل المفروض أنّها تزوّجت منه قبل البعثة، فما هو الموجب لهجرانهنّ لها عند زواجها منه؟! وقضيّة المال سيأتي الحديث عنها.
سادسًا: إنّ ظاهر هذا الحديث أنّ النبي محمّدًا (صلى الله عليه وعلى آله وسلّم) لم يكن يعرف بعلاقة خديجة مع جنينها، وهذا لا يتناسب مع قول الذين يرون علم النبي بكلّ صغيرة وكبيرة في هذا العالم، وهذا إشكال نقضي عليهم.
سابعًا: هل يعقل حقًّا أنّ نساء بني هاشم هجرن السيدة خديجة وهجرتها كلّ النسوة أيضًا حتى عندما احتاجتهنّ للولادة؟ ألم تكن بينهنّ أيّ امرأة قد أسلمت بعد سنوات من البعثة الشريفة؟ ألم تكن في نساء قريش امرأة مسلمة في ذلك الحين؟ ثم لو هجرتها نساء قريش فلماذا تهجرها نساء بني هاشم لزواجها من النبيّ، وهو من بني هاشم، ولم يقطع رجال بني هاشم علاقتهم بشخص النبي، فكيف تقطع نساؤهم العلاقة بخديجة لأنها تزوّجت شخص النبي الهاشمي؟
وهل يمكن هذا في الثقافة العربية العشائريّة، وقد كان أبو طالب كفيل النبي وهو زعيم بني هاشم؟ هل كان يرضى بوقوع أمرٍ من هذا النوع؟ وهل كانت امرأةٌ هاشميّة ستجرؤ ـ في حياة أبي طالب ـ على أن تقول هذا الكلام: (وتزوّجْتِ محمّدًا، يتيمَ أبي طالب فقيرًا لا مالَ له)؟
بل في رواية نقلها لنا الكليني والصدوق في (الكافي 5: 374، وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 397) تفيد أنّ الذي طلب خديجة لمحمّد من أهلها هو شخص أبو طالب ومعه وفدٌ من قريش!! فمن هذا حاله هل تجرؤ نساء عشيرته على فعل شيء من هذا القبيل؟ وإذا كانت لامتها بعض النسوة من صاحبات المال والجاه فهل يعقل أن تكون قد لامتها كلّ نسوة بني هاشم وقريش ومكّة بأنّه فقير؟ أفهل كان كلّ رجال مكّة أغنياء بمن في ذلك أزواج هذه النسوة؟ وهل كان يبلغ الحال بثقافة العرب أنّ المرأة الغنيّة لو تزوّجت بفقير لقاطعها أهلها والناس أجمعين، مع أنّ النصوص تحكي عن موافقة أهلها؟ فأيّ معنى لمقاطعتها لفقره؟! نعم يمكن أن يكنّ قد آخذنها لأيام، لكن بعد أن أصبحت زوجته هل من المنطقي استمرار القطيعة للفقر والحديث عن الفقر واليتم حتى بعد سنوات من البعثة الشريفة والزواج الكريم؟!
ثامنًا: تقول الرواية بأنّ نورًا شعّ في كلّ بيوت مكّة، بل في كلّ بيوت العالم، وهناك قاعدة في علم التاريخ والحديث والفقه، وقد استخدمها الفقهاء كثيرًا بمن فيهم السيد الخوئي، وهي قاعدة: (لو كان لبان) أو قاعدة: (ما تكثر الدواعي لنقله فلا يحتجّ بقليل نقله)، فلو حصل أمرٌ من هذا القبيل ألم يكن من المنطقي أن يتداوله المسلمون فيما بينهم، أو يحتجّون به على المشركين؟ فكيف لم ينقل لنا سوى برواية واحدة ضعيفة السند؟ ولو صحّ مثل هذا النور في كلّ العالم، فلماذا لم ينقله مؤرّخ أو كاتب أو شاعر أو غير ذلك، وهو ظاهرة غير متكرّرة على خلاف الخسوف والكسوف؟
والنتيجة: إنّ جملة الملاحظات السنديّة والمتنيّة المشار إليها، مع تفرّد الشيخ الصدوق بنقل هذا الخبر بسندٍ واحد، يوجب عدم إمكان الاعتماد عليه في إثبات حدث تاريخي من هذا النوع. والعلم عند الله[2].
الملاحظات:
ولنا حول هذه الإثارات عدّة تعقيبات وملاحظات:
1– الملاحظة الأولى: إنَّ السائل قد سأل عن صحة سند الرواية، ولكنَّ المجيب لم يكتفِ ببيان ضعف السند بل أغرق في توهين الرواية من خلال إبداء العديد من الملاحظات على متنها، ولا ندري ما هو الهدف وراء ذلك!! وقد كان يكفيه أن يقول إنَّ الرواية ضعيفة السند على مباني السيد الخوئي (قدّس سرّه) وانتهى الأمر، بل كان الأولى به أن يلفت نظر السائل إلى وقوعه في الاشتباه لسؤاله عن قيمة سند الرواية لدى المحقّق الخوئي (قدس سره)، والحال أنّها يمكن تصنيفها ضمن الروايات التاريخية، ومثلها – بحسب مبانيه (طابَ ثراه) – لا يضرُّ به ضعف السند إن كان له من القرائن ما يشهد بصحته.
2 – الملاحظة الثانية: إنَّ المجيب قد سجَّل ملاحظة على متن الحديث لما تضمنه من أنّ نسوة مكّة قد هجرن السيدة خديجة (عليها السلام) فقال: بأنَّ هذا كلام يمكن التشكيك فيه، وعلَّلَ ذلك بأنَّ رجال المسلمين في تلك الفترة لم يكن قد هجرهم المشركون إلا عقب المقاطعة أواخر البعثة وقبيل وفاة خديجة (عليها السلام) وبعد ولادة السيدة الزهراء (عليها السلام) بسنوات، فكيف يعقل هجران النساء لخديجة لزواجها من محمّد (صلى الله عليه وآله)، والمفروض أنّها تزوّجت منه قبل البعثة، فما هو الموجب لهجرانهنّ لها عند زواجها منه؟!
وهذه الإثارة غريبةٌ عجيبة، ولو تأمّل صاحبها في نفس فقرات الحديث لما توهمها؛ إذ أنَّ مقاطعة النساء للسيدة خديجة (عليها السلام) غير مربوطة ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله) ومقاطعة المشركين له، بل هي مرتبطة برفض السيدة خديجة لإرادة نساء مكة وإصرارها على الزواج من النبي (صلى الله عليه وآله)، كما يشهد بذلك قول نفس الرواية في فقرة لاحقة من فقراتها، وهي: (فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدًا يتيم أبي طالب فقيرًا لا مال له).
وقد جاء مزيد من الإيضاح لهذه الفقرة في بعض المصادر الموغلة في القدم، فقد جاء في كتاب (الاستغاثة) لأبي القاسم الكوفي: (إنَّ الإجماع من الخاص والعام، من أهل الآثار ونقلة الأخبار، على أنه لم يبق من أشراف قريش، ومن ساداتهم وذوي النجدة منهم، إلا من خطب خديجة، ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك؛ فلمَّا تزوجها رسول الله « صلى الله عليه وآله » غضب عليها نساء قريش وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش وأمراؤهم فلم تتزوجي أحدًا منهم، وتزوجت محمدًا يتيم أبي طالب، فقيرًا، لا مال له؟!)[3].
تنبيه:
وربما يستفاد من هذا المقطع أنها لم تتزوج بشخصٍ قبل النبي (صلى الله عليه وآله)؛ إذ لو كانت قد رفضت الزواج بأشراف مكة، وتزوجت بنكرتين – وهما: أبو هالة زرارة التميمي، وعتيق بن عائد المخزومي – قبل زواجها بالنبي (صلى الله عليه وآله)، لمّا صحّت مؤاخذتها على زواجها بالنبي (صلى الله عليه وآله) ليتمهِ وعدم ثرائه، والحال أنّها قد سبق لها الزواج بغيره ممن لا ينافسه في المكانة والشرف، فتأمّل.
3 – الملاحظة الثالثة: قال المجيب: (إنّ ظاهر هذا الحديث أنّ النبي محمّدًا “صلى الله عليه وعلى آله وسلّم” لم يكن يعرف بعلاقة خديجة مع جنينها، وهذا لا يتناسب مع قول الذين يرون علم النبي بكلّ صغيرة وكبيرة في هذا العالم، وهذا إشكال نقضي عليهم).
وأقول: لا يكاد ينقضي العجب من طرح هذا المجيب لمثل هذه الإثارة، فإنَّنا لو قبلناها لقبلنا أنَّ قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [4] ظاهر أيضًا في عدم معرفة الله تعالى بما في يمين موسى (عليه السلام)!!
فإن قيل: إنَّ القرينة الخارجية – وهي علمنا بعالمية الله تعالى – تمنع من حمل الاستفهام في الآية على الاستفهام الحقيقي، فيحمل على الاستفهام التقريري.
والمراد منه هو: أن يطلب المستفهم من المخاطب الإقرار بما يُسأل عنه نفيًا وإثباتًا، وذلك لأغراض مختلفة قد تعود إلى المُستفهِم، وقد تعود للمُخاطَب، وقد تعود للمُستفهَم عنه (كما في المقام).
قلنا نحن الذين نعتقد بعلم النبي (صلى الله عليه وآله) بكل صغيرة وكبيرة: كذلك يُقال بالنسبة للرواية الشريفة حذو القذَّة بالقذَّة، فالنقضُ ليس بواردٍ علينا.
4 – الملاحظة الرابعة: قال المجيب: (هل يعقل حقًّا أنّ نساء بني هاشم هجرن السيدة خديجة وهجرتها كلّ النسوة أيضًا حتى عندما احتاجتهنّ للولادة؟ ألم تكن بينهنّ أيّ امرأة قد أسلمت بعد سنوات من البعثة الشريفة؟ ألم تكن في نساء قريش امرأة مسلمة في ذلك الحين؟ ثم لو هجرتها نساء قريش فلماذا تهجرها نساء بني هاشم لزواجها من النبيّ، وهو من بني هاشم، ولم يقطع رجال بني هاشم علاقتهم بشخص النبي فكيف تقطع نساؤهم العلاقة بخديجة لأنها تزوّجت شخص النبي الهاشمي؟).
وهذه الإثارة كأخواتها في إثارة التعجب، فإنها مبنية على ما توهمه المجيب من أنَّ المراد من (نساء مكة وبني هاشم) مطلق نسائهن بمقتضى عموم اللفظ، والحال أنَّ العموم ليس مقصودًا قطعًا، وذلك لأمور:
1 – أولًا: إنَّه ليس من المحتمل – بمقتضى طبيعة الأمور – أن تكون علاقة السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) بجميع نساء مكة وبني هاشم بمستوى واحد من القرب وعدم التكلف حتى تبعث إليهن جميعًا تطلب منهنّ الحضور عند ولادتها.
2 – وثانيًا: إنَّ مناسبات الحكم والموضوع – كما يسميها الأصوليون – تقتضي تخصيص العنوان بخصوص مَن يمارسن مهنة التقبيل من النساء؛ إذ لا معنى لئن تبعث السيّدة خديجة (عليها السلام) إلى غير القابلات.
3 – وثالثًا: إنَّ نفس التعبير الوارد في الرواية (لتلين مني ما تلي النساء من النساء) يقتضي تخصيص العنوان ببعض النساء، إذ من المعلوم الواضح أنه ليست كل النساء تلين النساء عند ولادتهن، بل خصوص من يمارسن مهنة التقبيل.
وإذا كانت دائرة العنوان ضيقة بهذا المقدار الذي أوضحناه، فأيُّ مانع أن لا تكون بين أفراده امرأة مسلمة آنذاك؟! وبذلك ينقطع قول المجيب في ملاحظته: (هل يعقل؟ وألم تكن؟ ولماذا؟).
والذي يؤكّد ما ذكرناه هو جواب النساء لها – والذي نقلته نفس الرواية – وهو: (فأرسلن إليها: أنت عصيتنا، ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدًا يتيم أبي طالب فقيرًا لا مال له، فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئًا)، فإنّ هذا الجواب – كما هو ظاهر – لا يمكن أن يصدر من امرأة مؤمنةٍ بنبوة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، مما يعني أنَّ اللاتي أرسلت إليهن لم يكنّ من المؤمنات به.
5 – الملاحظة الخامسة: تقول الرواية بأنّ نورًا شعّ في كلّ بيوت مكّة، بل في كلّ بيوت العالم، وهناك قاعدة في علم التاريخ والحديث والفقه، وقد استخدمها الفقهاء كثيرًا بمن فيهم السيد الخوئي، وهي قاعدة: (لو كان لبان) أو قاعدة: (ما تكثر الدواعي لنقله فلا يحتجّ بقليل نقله)، فلو حصل أمرٌ من هذا القبيل ألم يكن من المنطقي أن يتداوله المسلمون فيما بينهم، أو يحتجّون به على المشركين؟ فكيف لم ينقل لنا سوى برواية واحدة ضعيفة السند؟ ولو صحّ مثل هذا النور في كلّ العالم، فلماذا لم ينقله مؤرّخ أو كاتب أو شاعر أو غير ذلك، وهو ظاهرة غير متكرّرة على خلاف الخسوف والكسوف؟
والجوابُ عن هذه الإثارة: أنَّ الأحداث غير الطبيعية تارة تكون قريبةً من المألوف، أو تحصل في وقت لا يستلزم الالتفات إليها، وتارة تكون بعيدة عنه، وتتحقق في وقت يستلزم الالتفات إليها، والثانية هي التي تنطبق عليها قاعدة (ما تكثر الدواعي لنقله لا يحتج بقليل نقله) بخلاف الأولى، ولتوضيح ذلك بالمثال نقول:
إنَّ حادثة شقّ القمر إلى نصفين – مثلًا – حادثة بعيدة عن المألوف، ولكنَّها وقعت في الليل، والكثير من الناس نيام، فلا عجب أن لا يكثر نقلها، بينما حادثة رجوع الشمس بعد مغيبها لأمير المؤمنين (عليه السلام) – إذا فسرنا المغيب بالإشراف عليه، كما يظهر ذلك من شعر السيد الحميري (رحمه الله تعالى)[5] – حادثة وقعت في النهار، ولكنّها قريبة من المألوف، إذ كثيرًا ما يتكرر أن تحجب الغيوبُ الشمس ثم تنجلي فيظهر نورها، وبما أنَّ الناس بحسب العادة تصرفهم أشغالهم الحياتية عن متابعة السماء والنظر إليها، لذا فلا عجب أن لا يلتفت الكثيرُ من الناس للحادثة المذكورة، ولا ينقلها إلا مَن شهد الحدث، فإنّه كثيرًا ما يحدث خفوتٌ لنور الشمس يعقبه ظهور وإضاءة، ولا يستدعي ذلك التفات الناس وتوجههم.
وتطبيقًا لذلك على المقام نقول: إنَّ الأقوال قد اختلفت في تحديد وقت ولادتها (عليها السلام)، فالمشهور أنه في يوم الجمعة، وظاهره أنّه في النهار، وقول أنه في سحر ليلة الجمعة وآخر ساعة منها، وقد فُسِّرَ بذلك قوله تعالى: {إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين} [6]، فقيل أي: أنزلنا نور فاطمة[7]، ويرى بعض العلماء أنَّ هذا هو سرُّ استحباب قراءة سورة القدر عشر مرات في تلك الساعة من ليلة الجمعة[8].
وكيف كان، فعلى كلا القولين ينحل الإشكال.
أما على الأوّل: فلأنَّ إشعاع نورها (عليها السلام) في النهار يُفترض فيه أنّه كان ظاهرة قريبة من المألوف، إذ كثيرًا ما يخفت نور الشمس قليلًا بسبب تراكم السحاب ثم يظهر بقوة مع الانجلاء، ولأنَّ هذه الظاهرة مألوفة فكلُّ مَن يشاهد نورًا قويًّا سيفسره بهذا التفسير، ولن يكون هنالك ما يثيره ليستوجب الالتفات للسماء ثمَّ النقل للغير.
وأما على الثاني: فلأنَّ إشعاع نورها (عليها السلام) في الليل وإن كان ظاهرةً بعيدةً عن المألوف، إلا أنّه بما أنَّ أغلب الناس في ذلك الوقت كانوا يغطّون في سبات عميق، لذلك فلا عجب أن لا يكثر نقل القضية، لحدوثها في وقت لا يستلزم الالتفات إليها، فاتضّح أنَّ هذه الإثارة كسابقاتها في الوهن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
[1] الأمالي: 690.
[2] مدى صحّة رواية الشيخ الصدوق التاريخية في مولد الزهراء عليها السلام (hobbollah.com).
[3] الاستغاثة: 1 / 70.
[4] سورة طه، الآية: 17.
[5] قال (رحمه الله) كما جاء في كتاب (الإرشاد): 1 / 347:
رُدَّت عليه الشمسُ لمّا فاتهُ – وقتُ الصلاة وقد دنت للمغربِ
حتى تبلَّجَ نورها في وقتها – للعصر ثم هوت هوي الكوكب
[6] سورة الدخان، الآية: 3.
[7] اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء: 228.
[8] اللمعة البيضاء في شرح خطبة الزهراء: 228.
شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > مناسبات متفرّقة > أفراح آل محمّد