الأدعية والزيارات بين التأصيل والتشكيك

تاريخ المحاضرة: 13/01/1432

نقاط البحث:

  1. بيان منهج التعامل مع نصوص الأدعية والزيارات
    • منهج التأصيل ونماذجه في كلمات علماء الطائفة
    • منهج التشكيك وعوامل ظهوره
  2. مناقشة مبرّرات منهج التشكيك
    • المبرّر الأول: المناقشة العلميّة
    • المبرّر الثاني: تنبيه الناس على خطأ قصد الاستحباب
  3. بيان القيمة العلميّة لحديث الكساء
    • مكانة هذا الحديث عند علماء الطائفة
    • بيان لغويّة تضعيف حديث الكساء وعبثيّته

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

معلومات أخرى:


نصّ المحاضرة

تحميل الأدعية والزيارات بين التأصيل والتشكيك.pdf

قال سيدنا ومولانا وإمامنا الصّادق (عليه السلام): ((الرّاوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد)) [1].

انطلاقًا من هذه الرواية المباركة نتحدث في نقطتين:

النقطة الأولى: بيان منهج التّعامل مع نصوص الأدعية والزيارات.

هنالك منهجان في السّاحة الشيّعيّة للتّعامل مع نصوص الأدعية والزّيارات:

المنهج الأول: منهج التأصيل.

وهو المنهج الذي يحاول المحافظة بقدر الإمكان على الأدعية والزيارات الواردة إلينا عن طريق المعصومين (عليهم السلام)، وعدم إثارة الشّكوك حولها، بحيث حتى لو كانت هنالك ثغرةٌ في سند بعضها لدى أصحاب هذا المنهج؛ فإنهم يحاولون ترميمها ومعالجتها بمقدار ما يسمح به المجال العلمي.

وهذا المنهج هو الذي دأب عليه مشهور علماء الطائفة (أعلى الله كلمتهم)، ولا بأس بالإشارة إلى بعض النماذج من فتاواهم وأجوبتهم التي تكشف عن تبنيهم لهذا المنهج.

النموذج الأول: مرجع الشيعة الأكبر، السيد البروجردي (طيّب الله ثراه)، فإنه لما سئل عن سند دعاء الندبة أجاب إجابة مطولة، ثم تحدث في نهايتها عنه وعن محمد بن الحسين بن سفيان البزوفري الراوي للدعاء في كتابه، بما يدل على منهج التأصيل، حيث أفاد قائلًا: ((وعلى كلّ حالٍ هو من الشيوخ الثقات، وقد روى الشيخ أبو جعفر الطوسي في مشيخة التهذيبين عن شيوخه عنه كثيرًا، وظاهره الاعتماد عليه، فبعد ثبوت نقل الدعاء عن كتابه يمكن أن يُعتمد عليه في نقله، وكان هذا المقدار في أمثال الأدعية والمستحبات كافيًا، وقراءته برجاء المطلوبية لا بأس بها))[2].

النموذج الثاني: العَلَم المجاهد، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (أعلى الله درجته)، حيث أجابَ عن سؤالٍ موجهٍ إليه حول دعاء الصباح بقوله: ((وبالجملة، فما أجود ما قال بعض علمائنا الأعلام: (إننا كثيرًا ما نصحح الأسانيد بالمتون)، فلا يضرّ بهذا الدعاء الجليل ضعف سنده مع قوة متنه، فقد دلّ على ذاته بذاته، سبوح لها منها عليها شواهد))[3].

النموذج الثالث: سيد الفقهاء والمجتهدين السيد الخوئي (قدّس سرّه)، ويتضح منهج التأصيل من خلال عدة فتاوى له، أكتفي بنقل ثلاث منها:

الأُولى: سُئِلَ (أعلى الله مقامه) عن زيارة عاشوراء الواردة في كتاب (مصباح المتهجد)، وإجزاء قراءتها عن الزيادة المذكورة في كتاب كامل الزيارات لابن قولويه (أعلى الله مقامه)، فأجابَ عن ذلك بقوله: ((يجزئك أن تقرأ من أيٍ من النسختين مورد مخالفتهما عن الأخرى، برجاء أن يكون هو الواقع الوارد))[4].

الثانية: سُئِلَ (أعلى الله مقامه) عن الدعاء الذي نقلَ السيد اليزدي (أعلى الله مقامه) في عروته الوثقى عن جمعٍ من العلماء استحباب المداومة عليه في القنوت، وهو: (سبحان من دانت له السماوات والأرض بالعبودية، سبحانَ من تفرّد بالوحدانية، اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم، اللهم اغفر لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، واقضِ حوائجهم وحوائجي بحق حبيبك محمد وآله الطاهرين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين)، فأجاب (أعلى الله مقامه) عن ذلك بقوله: ((لا بأس به رجاءً، والله العالم))[5].

الثالثة: سُئِلَ (أعلى الله مقامه) عن (دعاء الفرج) الذي قيلَ بأنه أفضل ما يقال في القنوت، فأجاب بقوله: ((يؤتى به رجاء الفضل، يعطى ثواب الفضل، والله العالم))[6].

النموذج الرابع: سماحة آية الله العظمى، السيد السيستاني (دام ظلّه)، فإنه لما سئل عن دعاء السمات والعشرات والسيفي الصغير، وسُئِل عن جميع الأدعية المذكورة في كتاب مفاتيح الجنان، أجابَ عن ذلك بإجابةٍ واحدة فقال: ((إنّها أدعيةٌ مأثورةٌ عن الأئمة المعصومين (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، فلا بأس بقراءتها، وقارئها مأجورٌ ومُثابٌ إن شاء الله تعالى))[7].

النموذج الخامس: سيدنا الأستاذ، سماحة آية الله العظمى، السيد محمد صادق الحسيني الروحاني (قدّس سرّه)، فإنه لما سئل عن صحة سند دعاء التوسل والزيارة الجامعة وزيارة عاشوراء، أجابَ عن ذلك بقوله: ((سند زيارة عاشوراء والجامعة معتبرٌ لا إشكال فيه، وأما دعاء التوسل فهو دعاءٌ مشهورٌ، وضعفُ سنده لا يضرّ به، بعد البناء على تمامية قاعدة التسامح في أدلة السنن))[8].

ولمّا سُئِلَ عن سند دعاء الندبة أجاب: ((الدعاء واردٌ في غير واحدٍ من كتب القدماء المعتمدة، وعدم وروده بسندٍ معتبر لا يضر به بعد كونه مشمولًا لقاعدة التسامح في أدلة السنن))[9].

النموذج السادس: سماحة آية الله العظمى، السيد محمد سعيد الحكيم (قدّس سرّه)، فإنه لما سئل عن دعاء الندبة سندًا ومتنًا أجابَ قائلًا: ((سنده ليس صحيحًا بالمعنى المصطلح، إلا أنه مشهور بين قدماء الأصحاب، وذلك مما يوجب الوثوق به مع تعدد طرقه، وأما متنه فهو عالي المضامين جيّد السبك، وعلو مضمونه وجودة سبكه من شواهد صدقه))[10].

والذي ننتهي إليه من خلال مرورنا بهذه النماذج: أنَّ دأب علمائنا (أنارَ اللهُ برهانهم) ليس على إثارة الشّكوك حول نصوص الأدعية والزيارات، بل إنَّ ديدنهم على الدوام محاولة تأصيلها والمحافظة عليها، وفتح المجال أمام النّاس من أجل قراءتها والمداومة عليها.

المنهجُ الثاني: منهج التّشكيك.

وهذا المنهج المعاصر هو المنهج الذي يتبنى مشروع التّشكيك في الأدعية والزّيارات، ومن جملة إفرازات هذا المنهج: تضعيفُ كلٍ من زيارة عاشوراء والزيارة الجّامعة ودعاء الندبة وزيارة النّاحية وحديث الكساء ودعاء التّوسل وغير ذلك، وأصحابُ هذا المنهج قد اشتهروا وعُرِفوا بمخالفتهم لمنهج المشهور، ولا نجد حاجةً لسرد شيء من كلماتهم وأقوالهم؛ فإنها قد ملأت الخافقين.

ولكنَّ الذي أجدني بحاجةٍ للوقوف عنده هو بيان عوامل ولادة هذا المنهج التشكيكي في قبال منهج التأصيل، والذي انتهيت إليه من خلال تتبعي لكلماتهم أنه وليد عاملين رئيسيّين، وهما:

العامل الأول: القصور العلمي والمعرفي.

وهذا ما يظهر من كلمات بعضهم، ويشهد لذلك – مثلًا – ما عوَّلَ عليه أحدهم في حكمهِ بعدم صحة الزيارة الجامعة، حيث بنى حكمه على أنَّ بعض مضامينها تتصادم مع القرآن الكريم، بضميمة ما ورد في الروايات الشريفة مِن أنَّ ما خالف القرآن فاضربوا به عرض الجدار، وقد صوَّر التعارض بين مضامين الزيارة والقرآن من خلال الفقرة القائلة: ((وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم))[11]، وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[12] بادّعاء أنَّ الآية الكريمة صريحة في كون حساب الخلق على الله تعالى، بينما الزيارة صريحةٌ في أنّ الحساب بيد الأئمة (عليهم السلام)، وهذا تعارضٌ بيّنٌ مع القرآن الكريم؛ ولذا لا بُدَّ من ضرب زيارة الجامعة بالجدار.

وليس يخفى أنّ هذا الإشكال نابعٌ عن قصورٍ علميٍّ ومعرفيٍّ؛ إذ أنّنا لو التزمنا بهذا النحو من التّفكير للزم علينا أن نرفض عدةً من الآيات القرآنية، ومنها: قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ}[13]، وقوله تعالى أيضًا: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ}[14]؛ لأنهما يتنافيان مع قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[15]، حيث صرّحت هذه بأنّ المتوفّي هو الله تعالى، بينما تلك الآيتان صرحتا بأنَّ المتوفِّي هو ملك الموت والملائكة.

وحلُّ الإشكال بأن يُقال: إنّ الفاعل الذي يُسْنَد إليه الفعلُ على قسمين:

  1. القسمُ الأول: الفاعل بالتسبيب.
  2. القسم الثاني: الفاعل بالمباشرة.

فمثلًا: عندما يأخذ شخصٌ مسدّسًا ويطلق النّارَ على شخصٍ فيقتله، فإنّه يكون فاعلًا للقتل بالمباشرة، وأمّا لو أعطى المسدّس بيد إنسانٍ وأمره بأن يقتل شخصًا آخر، فإنّه يكون فاعلًا للقتل بالتسبيب؛ لأنّه هو الذي تسبّب في القتل، وإن كان المباشر شخصًا آخرًا.

وكما تصحّ نسبة الفعل إلى الفاعل بالمباشرة، تصحّ نسبته إلى الفاعل بالتسبيب؛ ولذلك يصح أن يُقال: (صدام قتل الشعب العراقي) لأنّه الفاعل للقتل بالتسبيب وإن لم يباشر عملية القتل بنفسه، فالفعل كما يُنْسَب إلى فاعل القتل بالمباشرة كذلك يُنْسَب إلى الفاعل بالتسبيب.

وهكذا يُقال بالنسبة لقضية الإماتة، فإنّها لا يمكن أن تتحقق إلا بإذن الله تعالى وأمره، إلا أنه لا يباشرها بذاته المقدّسة إلا في موارد مخصوصة، وإنما يباشرها ملك الموت وأعوانه من الملائكة؛ ولذلك نُسِبت الإماتة تارةً إلى ملك الموت وأعوانه لأنّهم المباشرون، ونُسِبَت تارةً أخرى إلى الله تعالى لأنّه المسبّب.

وبنفس هذه الإجابة نجيب عن إشكالية تعارض الزيارة الجامعة مع القرآن الكريم؛ إذ أنَّ الله تعالى هو المالك للحساب كما أنّه المالك للإماتة، وكما أنه بإذنه لملك الموت في الإماتة يكون مسببًا لها، كذلك بإذنه للمعصومين (عليهم السلام) بالحساب يوم القيامة يكون مسبّبًا له، وكما أنَّ ملك الموت بعد إذن المميت تعالى له بالإماتة يكون هو المباشر لها، كذلك المعصوم (عليه السلام) بعد إذن المُحاسب تعالى له بالحساب يكون هو المباشر له.

وكمّا صحّت نسبة الإماتة لله تعالى لتسبيبه لها، ولملك الموت لمباشرته، كذلك تصح نسبة الحساب لله تعالى لتسبيبه له، وللمعصوم (عليه السلام) لمباشرته له، فلا يوجد تعارضٌ بين زيارة الجامعة والقرآن الكريم، وليس هذا الإشكال نابعًا إلا عن القصور المعرفيّ والعلميّ.

العامل الثاني: المجاملة مع الآخر.

لا شك في أنَّ التّعايش السلمي مع المخالِف – ولو كان كافرًا – إذا كان مسالمًا لا حزازة فيه، فهو أمرٌ عقلائي تقتضيه طبيعة الحياة، وقد دعا إليه القرآن الكريم في قوله: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[16].

وقد يصطلح البعض على ذلك فيما لو كان المخالِف مسلمًا مصطلح (الوحدة الإسلامية)، ولا مشاحة في الاصطلاح إن كان مقصوده من هذا الاصطلاح ما ذكرناه.

ومما يؤسف له أنَّ بعض من تبنّى هذا المصطلح لم يفهم مغزاه – بل قد يكون تعمّدَ إساءة فهمه – فراح يتنازل عن بعض الثوابت والأدعية والزيارات والروايات؛ لأنّها تثير الطرف الآخر، ومن شواهد ذلك تشكيك بعضهم في زيارة عاشوراء؛ لأنّها مشتملةٌ على اللّعن، واللّعن مثيرٌ للطرف الآخر، بل إنَّ بعض دور الطبع الشيعيّة قد أقدمت على طباعة كتاب (مفاتيح الجنان)، وحذفت اللّعن من زيارة عاشوراء من أجل عدم إثارة الطرف الآخر.

وهذا فهمٌ خاطئٌ لمبدأ التعايش؛ إذ أنه لا يقتضي تنازلًا عن شيءٍ من النّصوص والثوابت والقيم والمبادئ، بل يعني التعايش السلمي بين الأطراف، ووضع اليد مع يد الطرف الآخر في مقابل العدو المشترك، مع تحفظ كلّ طرف على ما يدين الله تعالى به، كما كان عليه الحال في المجتمعات الإسلامية المختلطة في الأزمنة السابقة.

وإلا لو كان قوام التعايش السلمي بإبداء التنازلات عما يعتبره الطرف الآخر من المثيرات، فإنَّ مقتضى الإنصاف للدين والمذهب أن لا يبدي الطرف الشيعي تنازلًا من غير مقابل؛ إذ ليس منطقيًا أن يتنازل الوحدوي عن اللعن الوارد كتابًا وسنة، مراعاةً لمشاعر الآخر، والحال أنَّ هذا في المقابل ليس يلعن مولانا وسيدنا أبا طالب (عليه السلام) فحسب، بل يكفّره ويبالغ في تكفيره، من غير أدنى مراعاة لمشاعر الطرف الشيعي.

وهذا أيضًا غير منطقي، وإن بدا كذلك لأوّل وهلة؛ لما يستلزمه من تمييع المنظومة الدينيّة لكلِّ طرفٍ من الأطراف، بداهة أنَّ كلّ ما يتفرّد به مذهبٌ من المذاهب فهو مثيرٌ للمذهب الآخر – مع تفاوت مستوى الإثارة – فلو انفتح باب التنازل عن المثيرات لما بقيَ حجرٌ على حجر.

النقطة الثانية: بيان عدم المبرّر لمنهج التّشكيك.

إنَّ بعض المتبنين لمنهج التشكيك والمروّجين له يحاولون تبريره بتبريرين، وهما:

المبرّر الأول: النقاش العلمي.

إنَّ عدة من المشكّكين في بعض نصوص الأدعية والزيارات – كزيارة عاشوراء – والمضعّفين لها، قد برّروا تشكيكهم بأنه مجرّد مناقشةٍ علميّةٍ، والعلم ليس حكرًا على أحد.

نقد المبرّر الأول:

ولنا مع هذا المبرّر وقفتان:

الوقفة الأولى: إنَّ هذا المبرّر وإن كان صحيحًا في حدّ ذاته؛ لكون باب العلم والاجتهاد مفتوحًا في المدرسة الشيعيّة، إلا أنه ليس متّجهًا في المقام؛ وذلك لأنَّ المناقشة العلميّة لها مجالها وفضاؤها الخاص، ولا يصح إطلاقها في غير موضعها وفضائها كما هو الحاصل.

ولأجل إيضاح الفكرة نقول: إنَّ هناك خلافًا بين الفقهاء في العديد من المسائل الفقهيّة، فبعضهم يرى لزوم الإتيان بالتسبيحة الرباعية ثلاث مرات في ثالثة الثلاثية والرباعية وكذا في رابعتها، بينما البعض الآخر يكتفي بالواحدة، فهل من المقبول ممن يحيط بأدلّة الفقهاء ومدارك الفتاوى أن يرجّح إحدى الفتويين من خلال المنبر العام أو خطبة الجمعة؟! من الواضح أنّ الجواب بالنفي؛ إذ أنّ هذه الأبحاث أبحاث تخصّصيّة، والأبحاث التخصّصيّة ليس المنبر الحسيني أو مصلَى الجمعة هو الفضاء المناسب لها، وإنّما الفضاء المناسب لها هي الحوزات العلميّة المباركة؛ لأنها هي المعنية بالأبحاث التخصصية المرتبطة بالنصوص الدينية.

الوقفة الثانية: إنّ تصحيح الراوية وتضعيفها عند علماء الطائفة (أعزَّ اللهُ كلمتهم) لا يعتمد على منهج واحدٍ فقط؛ إذ يوجد منهجان:

1/ المنهج الأوّل: منهج الوثوق المُخْبِرِي.

وأصحابُ هذا المنهج من علمائنا يقولون: إنَّ الرّواية لا يمكن الحكم عليها بالصحة إلا إذا كان المخبِرُ بها ثقةً؛ ولذلك يُعَبَّر عن هذا المنهج بمنهج الوثوق المُخْبِرِي؛ إذ يلاحَظ فيه وثوق المخبِر والراوي، فعندما نقف على رواية يرويها الشّيخ الكليني (أعلى الله مقامه) مثلًا، فإنه لا بدَّ من ملاحظة أحوال الرواة من الشيخ الكليني إلى المعصوم (عليه السلام)، فإذا ثبت أنّهم ثقاتٌ لا يكذبون جميعًا كانت الرواية محكومة بالصحة، وإلا لو وجدوا ولو راويًا واحدًا فقط غير موثّق فإنّهم يحكمون على الرّواية حينئذٍ بالضعف، وهذا المنهج هو منهج العديد من علمائنا، وفي طليعتهم المحقق السيد الخوئي (قدّس سرّه).

2/ المنهج الثاني: منهج الوثوق الخبري.

وأصحاب هذا المنهج من علمائنا يقولون: إنّ تصحيح الرّواية لا يعتمد على وثاقة المخبِر، وإنّما يعتمد على الوثوق بنفس الخبر، بغضّ النّظر عن المخبِر، وذلك من خلال جمع القرائن من هنا وهناك، فمثلًا لو افترضنا أنّ رواة زيارة الجامعة غير ثقات؛ فإنّ زّيارة الجامعة تكون ضعيفةً على ضوء المنهج الأوّل، ولكنّها ليست كذلك بالضرورة على ضوء المنهج الثّاني؛ إذ أنّ ضعف الرواة ليس كافيًا للحكم على الزّيارة بالضعف؛ لإمكان الحكم عليها بالصّحة فيما لو أمكن جمع القرائن الموجبة للوثوق بالخبر، كما لو استطعنا إثبات تواتر مضامينها، نظير ما لو وضعنا يدنا على أحد مضامينها التي أشارت إليها بقولها: ((خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين))، ووجدنا أنّ الروايات بهذا المضمون كثيرة بل متواترة؛ فإنّ هذا يوجب الاطمئنان بصحة الرواية ولو كان رواتها غير ثقات، أو فقل: إنَّ هذا يجعلنا نثق بالخبر وإن لم نثق بالمخبِر، وهذا هو معنى ما اصطلحوا عليه بالوثوق الخبري.

وعلى ضوء ذلك؛ فإنه إذا كان لدينا منهجان في تصحيح الرّوايات وتضعيفها، أمكنَ أن يكون نصٌّ ضعيفًا على المنهج الأول وصحيحًا على المنهج الثاني، والعكس بالعكس، وعليه فعندما يأتي شخصٌ ويحكم من خلال المنبر العام بضعف زيارة عاشوراء، فإنّ المفترض فيه أن يكون قد توصل إلى هذه النتيجة على ضوء أحد المنهجين، وبما أنَّ ضعفها على ضوء أحد المنهجين لا يلازم ضعفها على ضوء المنهج الآخر، فتصويرها للنّاس ضعيفة بشكلٍ مطلقٍ يكون تغريرًا بالجهل، والتغرير بالجهل أمرٌ منهيٌّ عنه.

المبرّر الثاني: تنبيهُ النّاس على عدم الإتيان بالزّيارة أو الدّعاء على نحو الوجه الخاص.

من الواضح أنه لكل عمل عباديٍّ وجهٌ خاصٌ، فمثلًا: صلاة الصبح ونافلة الصبح مشتركتان من حيث الصورة وعدد الركعات، وإنما الفرق بينهما من ناحية الوجه الخاص؛ فإنّ وجه الفريضة هو الوجوب بينما وجه النافلة هو الاستحباب، وهذا يعني أنَّ الاستحباب والوجوب هما وجها العبادة؛ ولذلك فإنَّ بعض النّاس يقول قبل صلاته: “أصلّي لوجهه”، ومراده من الوجه في هذه النّيّة – وإن كانت نيّةً غير معتبرة – الوجوب أو الاستحباب.

إذا عرفتَ ذلك فإنَّ دعاة منهج التشكيك يقولون: إنَّ الهدف من تضعيف بعض الأدعية والزّيارات إنما هو تصحيح أعمال المكلفين، وتنبيههم على خطأ قصد الوجه الخاص؛ إذ أنَّ الكثير من الناس عندما يقرؤون الزيارة الجامعة أو دعاء التوسل أو دعاء الندبة – مثلًا – يأتون بها بعنوان الاستحباب، مع أنَّ هذه الأدعية والزيارات محكومة بالضعف، ومن الواضح أنَّ الأدعية والزيارات لا يمكن الإتيان بها بعنوان الاستحباب إذا كانت ضعيفة، فتنبيهًا للنّاس على هذا الخطأ لا بدَّ من تفعيل مشروع تضعيف الأدعية والزيارات.

نقد المبرّر الثاني:

والصحيح أنّ هذا المبرّر ليس مبرّرًا؛ إذ أنَّ المكلّف عندما يريد أن يأتي بالعمل بعنوانه الخاص أو بغيره، فإنه يلزمه – كما هو الحال في بقية أعماله الأخرى – الرجوع في ذلك إلى المرجع الأعلم الذي يجب عليه تقليده، فعندما يقرأ في كتاب (مفاتيح الجنان) ونحوه من كتب الأدعية والآداب والسنن عن استحباب الإتيان ببعض الأعمال، وليس يعلم برأي مرجعه فيها، فإنه قد يتمكن حينئذ من قصد الوجه الخاص وقد لا يتمكن؛ إذ أنّ لفقهائنا رأيين في مسألة الأعمال العباديّة التي يُشَكّ في استحبابها:

1/ الرأي الأول: صحّة قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

وأصحاب هذا الرأي – ومنهم: المرحوم السيد الگلبيگاني والشيخ الغروي وأستاذنا السيد محمد صادق الروحاني (قدّست أسرارهم) – يقولون: إن مقتضى قاعدة التسامح في أدلة السنن أنَّ كلّ عمل يبلغ المكلّف أنَّ له ثوابًا معينًا، ولا يعلم باستحبابه، فإنه يصحّ له أن يأتي به بعنوان الاستحباب.

2/ الرأي الثاني: عدم صحّة قاعدة التسامح في أدلّة السنن.

وأصحابُ هذا الرأي – ومنهم: السيد الخوئي (أعلى الله مقامه) ومعظم تلامذته، كالمرحوم السيد الروحاني والشيخ التبريزي (قدس سرهما)، والسيد السيستاني والشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّهما) – يرون أنَّ العمل العبادي وإن بلغ المكلف أنَّ له ثوابًا معينًا، ليس يصح له الإتيان به بعنوان الاستحباب إلا أن يفتيه بذلك مرجعه في التقليد، وما دام لا يعلم برأي مرجعه فلا طريق أمامه إلا الإتيان بالعمل برجاء المطلوبيّة، أي: برجاء أن يكون مطلوبًا في الواقع، ولا يصحّ له قصد الاستحباب.

وعلى ضوء ذلك، فالمكلّف إمّا أن يكون مقلّدًا مرجعًا يقول بالرأي الأول أو يكون مقلّدًا مرجعًا يقول بالرأي الثّاني، فإن كان يقلّد من يقول بالرأي الأول فإنّه يستطيع الإتيان بزيارة عاشوراء – ونحوها من الأدعية والزيارات – بعنوان الاستحباب حتّى ولو ضعّفها ألف شخص، وإن كان يقلّد مرجعًا من القائلين بالرأي الثّاني لم يستطع الإتيان بزيارة عاشوراء وغيرها من الزيارات والأدعية بعنوان الاستحباب ولو صحّحها ألف شخص، مما يعني أنَّ المسألة – فيما يرتبط بالوجه الخاص – راجعةٌ إلى مرجع التقليد أولًا وأخيرًا.

وبذلك تبيّن أنَّ تبرير مشروع تضعيف الأدعية والزيارات بتنبيه المكلّفين على عدم الإتيان بها بوجهها الخاص ليس مقبولًا؛ لأنّ المسألة ترجع إلى تقليد المكلف، فقد يستطيع المكلّف طبقًا لتقليده أن يأتي بالوجه الخاص وقد لا يستطيع، كما اتضح من خلال ما عرضناه مفصّلًا.


هوامش:

[1] وسائل الشيعة: 27/ 78.

[2] استفتاءات: 2/ 491.

[3] الفردوس الأعلى: 90.

[4] صراط النجاة: 2/ 449.

[5] صراط النجاة: 2/ 471.

[6] صراط النجاة: 2/ 473.

[7] http://www.sistani.org/index.php?p=297396&id=474

[8] أجوبة المسائل: 1/ 317.

[9] أجوبة المسائل: 1/ 307.

[10] الفتاوى: 1/ 394.

[11] من لا يحضره الفقيه: 2/ 612.

[12] سورة الغاشية، الآيتان: 25 و26.

[13] سورة السجدة، الآية: 11.

[14] سورة النحل، الآية: 28.

[15] سورة الزمر، الآية: 42.

[16] سورة الممتحنة، الآية: 8.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1432

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *