المنهج العلمي للتعامل مع أخبار واقعة الطف في فكر المرجع الحكيم

تاريخ المحاضرة: 05/02/1443

نقاط البحث:

  1. الاعتماد على الوثوق والاطمئنان، لا القطع واليقين
  2. تولّد الوثوق والاطمئنان بملاحظة القرائن
  3. عدم التفريط في الأخبار غير المحفوفة بالقرائن
  4. اعتماد التاريخ المسموع إلى جانب التاريخ المكتوب
  5. معالجة إشكالية الكذب في نقل الأخبار الظنية

اليوتيوب:

تسجيل محمد السنان:

تسجيل صوتي:

https://soundcloud.com/user-147101541/djzbjcw7j23t


نص المحاضرة

نتناول هذا الموضوع لثلاثة أسباب:

السبب الأول: هذه الليلة هي ليلة شهادة سيدتنا ومولاتنا السيدة رقية بنت الحسين (عليهما السلام)، وهي إحدى ضحايا منهج التشكيك.

السبب الثاني: أنَّنا خلال هذه الأيام لا زلنا نعيش حدث رحيل المرجع الكبير السيد الحكيم (قدّس سرّه)، وكلّنا لمسنا مدى التفاعل الكبير الذي أبداه العالم الشيعي إزاء هذا الحدث المؤلم، وفي طليعة ما لمسناه تفاعل مراجعنا العظام (أدام الله تعالى بركتهم)، حيث أبّنوه بتأبينات تنمّ عن عظيم مقامه ومدى الخسارة التي تركها برحيله، فهذا مرجع الطائفة الأعلى السيد السيستاني (دام ظلّه الشريف) يتحدث عن المرجع الراحل (أعلى الله مقامه) فيصفه بأنه فقيه أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه من نذر نفسه الشريفة لنصرة الدين والمذهب وكرّس حياته المباركة لخدمة العلم وأهله، ويصف تراثه العلمي بأنه تراث علمي جليل يحظى بمكانة سامية، وهذا يعني أنَّ السيد الراحل قد ترك تراثًا علميًا جليلًا ينبغي أن يستفيد منه شيعة أهل البيت (عليهم السلام).

السبب الثالث: أنَّنا نشهد في الآونة الأخيرة حربًا شرسة تجاه المنبر الحسيني وخطبائه الكرام، فيقال مثلًا: إنَّ الخطباء يحاربون كلَّ من يحاول التحقيق في أحداث الطف وقضايا كربلاء، ويصرّون على تداول الأخبار الضعيفة في المنابر؛ لأنَّ هذه الأخبار هي مدار معيشتهم!! ونحن نريد هنا أن نوضِّح بأنَّ الخطباء فيما يتداولونه من الروايات والأخبار هل يستندون إلى أساسٍ وركنٍ وثيق أم لا.

ومن أجل بيان المنهج العلمي للتعامل مع أخبار واقعة الطف في فكر المرجع الحكيم (قدّس سرّه)، نتحدّث عن خمس ركائز مهمّة مستفادة من كلماته الشريفة توضِّح المنهج الصحيح المرضي عند علماء الطائفة وفقهائها، ليتّضح هل الخطباء يختلفون عن منهج المراجع أم لا.

الركيزة الأولى: الاعتماد على الوثوق والاطمئنان بالخبر، لا اليقين والقطع.

ذكر السيد الحكيم (قدّس سرّه) أنَّ سيرة العقلاء في قبول الأخبار التاريخية إنَّما هي جارية على الأخذ بالخبر الذي يطمئنون به، سواء كان قطعيًا أو لا، وسواء كان واردًا بأسانيد وعنعنات أو كان واردًا بطريق مرسل، فإذا حصل الوثوق به كفى ذلك للأخذ به.

وأمّا لو أردنا في قبول أخبار التاريخ وأخبار كربلاء أن نعتمد على الأخبار القطعية واليقينية فقط لما بقي عندنا تاريخ، فإنَّ تاريخ المسلمين كلّه -بل التاريخ العالمي لجميع الأمم- مبنيٌّ على الوثوق والاطمئنان، ولا توجد قضايا تاريخية قطعية يقينية سوى قضايا قليلة، وإلا فأكثر القضايا التاريخية قد نثق بها إلا أننا لا نقطع بها قطعًا جازمًا، وسيرة العقلاء جارية على الأخذ بهذا النحو من الأخبار.

وهذا ما نقرؤه في كلمات السيد الحكيم (قدّس سرّه)، حيث يوجد عنده كتاب اسمه (رسالة أبوية ومسائل تهمُّ طلبة الحوزة والمبلّغين) يقعِّد فيه ويؤسِّس المنهج العلمي الصحيح، فيقول في ص85: ((لا يفترض في التاريخ أن يعتمد على اليقينيات ولا على الحجج الشرعية، وإلا لم يبقَ تاريخ، بل أحسن ما يتوقَّع أن يعتمد على الوثوق والاطمئنان)).

ثم قال في ص86: ((أما أنَّ التاريخ لا يعتمد على اليقينيات ولا الحجج الشرعية فهو من البديهيات، فإنَّ اليقينيات في التاريخ غالبًا أصول الوقائع المتواترة إجمالًا، كهجرة النبي (صلى الله عليه وآله) وحروبه المشهورة، وحادثة السقيفة، وحروب أمير المؤمنين (عليه السلام) ومقتله، ونهضة الحسين (عليه السلام)، ونحوها على إجمالها، والتفاصيل ليست إلا في روايات متناثرة لا يتقيّد المؤرخون في إثباتها بالتواتر الموجب لليقين، ولا بالسند الذي يبلغ مرتبة الحجية الشرعية، وتكمن الحقيقة في تلك الروايات المتناثرة المتنافرة إجمالًا من دون أن تتميّز بسند حجّة)).

فبمجرد أن نسمع قائلًا يقول: هذه الرواية التاريخية غير مقبولة لأنَّها لم ترد بسند صحيح! نعرف أنّه لم يفهم المنهج العلمي، إذ من الخطأ المطالبة بالسند الصحيح في القضايا التاريخية، بل يعوَّل فيها على الوثوق والاطمئنان.

وهنا توجد كلمة مهمّة جدًا للسيد الحكيم (قدّس سرّه) يوجّهها للمؤمنين، حيث يقول في كتابه (الفتاوى: ج2، ص427): ((ومن هنا فيحسن بالمؤمنين وفّقهم الله تعالى التنبّه إلى أنَّ السند إنَّما يهتمُّ به فيما يتوقَّف ثبوته على السند، أما ما لا يتوقَّف ثبوته عليه فلا ينبغي فيه سماع أصوات المشكّكين وشبهات المشبوهين))، فالذي يتوقّف عند قضية تاريخية كربلائية عاشورائية ويقول: هذه القضية غير واردة بسند صحيح! لا ينبغي سماع كلامه، بل هذه شبهات مشبوهين وأصوات مشكّكين.

الركيزة الثانية: تحقّق الوثوق والاطمئنان بملاحظة القرائن.

بعد أن ثبت أنَّ المعوَّل في قبول الخبر التاريخي إنَّما هو على الوثوق والاطمئنان، فحينئذ نتساءل: كيف يحصل هذا الوثوق والاطمئنان؟

ويجيبنا عن هذا التساؤل السيد الحكيم (قدّس سرّه) فيقول: إنَّ الوثوق والاطمئنان يحصل بملاحظة القرائن، وهي عديدة، منها:

القرينة الأولى: تعدّد الأخبار وتعضيد بعضها بعضًا، فإنَّ الرواية التاريخية تارة نجدها في مصدر واحد، وتارة أخرى نجدها في أكثر من مصدر، فإذا تعددت مصادرها فهذا من القرائن المفيدة للوثوق والاطمئنان، من غير حاجة إلى عنعنة سندية.

القرينة الثانية: نقل الثقة الثبت، فعندما ترد الرواية التاريخية عن طريق الثقة الثبت -ولو بنحو الإرسال- فإنَّ ذلك من قرائن الوثوق والاطمئنان، كما لو نقل الرواية عالم من علمائنا أو فقيه من فقهائنا أو مرجع من مراجعنا في أحد كتبه -كالشيخ الطريحي في كتابه المنتخب- فحينئذ لا يضرّ الإرسال ما دام الناقل ثقة ثبتًا نعلم أنه لا يختلق ولا يضع الروايات.

القرينة الثالثة: نقل المخالف للرواية التاريخية التي ليست من صالحه، كما لو نقل مؤرِّخ غير شيعي روايات تاريخية عن واقعة كربلاء، وكانت هذه الروايات تدين من يعتقد بهم، وتصرّح بأنهم قد ظلموا الحسين (عليه السلام) وعترته، فإنَّ هذه أيضًا من القرائن المفيدة للوثوق والاطمئنان، لأن الإنسان لا يختلق شيئًا ليس من صالحه، وإنَّما ينقل شيئًا ليس من صالحه إذا كان واضحًا لا يستطيع إنكاره.

ولذلك يقول السيد الحكيم (قدّس سرّه) في (الرسالة الأبوية: ص41): ((فالأحاديث التي لم تشتمل على شرائط الحجية المصحّحة للفتوى في الأحكام الشرعية قد توجب الاطمئنان بلحاظ بعض القرائن، منها: تعدّد تلك الأخبار ودعم بعضها لبعض، ومنها: ذكرها في كتب أهل التثبت والتمحيص ممن يحترمون أنفسهم وكتبهم، ومنها: ذكرها في كتب المخالفين إذا كانت مخالفة لخطهم، إذ ليس من شأنهم أن يذكروا ما يخالف خطهم لولا وضوحه عندهم وفرضه عليهم بحقيقته، إلى غير ذلك من القرائن التي يدركها الباحث المنصف)).

وله كلمة أخرى مهمّة أيضًا، وهي في كتابه (من وحي الطف: ص89) حيث يقول: ((لما كانت غالب روايات المقاتل مراسيل فالركون إليها إنَّما يكون بسبب سمو شخصية مؤلف المقتل في العلم والوثاقة وحسن الاختيار، كمقتل الشيخ الصدوق في أماليه، واللهوف لابن طاووس، ومثير الأحزان لابن نما، إلى غير ذلك))، فما دام الناقل معروفًا بالعلم والوثاقة والتثبّت فهذا يكفي للاعتماد على منقولاته، ولذلك عندما ينقل الخطيب عن كتاب المنتخب للطريحي أو عن كتاب إكسير السعادات وأسرار الشهادات للدربندي أو ينقل عن غيرهما فهو ينقل عن كتب لعلماء ثقات أثبات، فيكون نقله على طبق المنهج العلمي الذي أسَّس له مراجعنا العظام.

الركيزة الثالثة: عدم التفريط في الأخبار غير المحفوفة بالقرائن.

وهذه الركيزة مهمة جدًا، فلو جاءنا خبر من أخبار الطف لم ينقله عالم من العلماء الأثبات، ولم تتعدد فيه الروايات، ولم نظفر له بأي قرينة تشفع له، فحينئذٍ لا ينبغي أن نضرب به عرض الجدار، بل إنَّ هذا النحو من الأخبار يصلح كمؤيِّدات للحق الثابت المعلوم، ولتحفيز العواطف نحوه.

وتوضيح ذلك: إنَّنا حين نتداول قضية تاريخية كربلائية فإنَّ هذه القضية تثبت لنا أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) وأهله وأطفاله وعياله وأصحابه قد ظُلِموا، وهذه المظلومية الحسينية مضمونٌ تاريخيٌّ ثابتٌ يحاول الخطباء أن يعمّقوه في الوجدان الشيعي، ومن هنا يأتي دور هذه الروايات غير المحفوفة بالقرائن، فإنَّها تؤيد تلك الأخبار الثابتة وتؤكِّد المظلومية وترسِّخها، ولذلك لا ينبغي التفريط فيها.

ويشهد لهذه الركيزة قول السيد الحكيم (قدّس سرّه) في (الرسالة الأبوية: ص42): ((أما مع عدم احتفافها بالقرائن فهي لا تنهض دليلًا بل تكون مؤيدًا لا غير، فيصحّ أن يستشهد بها لتأكيد حقيقة ثابتة أو تحفيز العواطف نحوها، من دون أن تنهض بإثبات أمر مشكوك فيه)).

وهنا ترى البون شاسعًا بين منهج مراجعنا ومنهج من يدعو لإسقاط الأخبار، فإنَّ السيد الحكيم (قدّس سرّه) -في قبال الدعوات لإسقاط التراث الكربلائي العاشورائي- يقول: حتى الرواية غير المحفوفة بالقرائن لا ينبغي إسقاطها ولا رفع اليد عنها، بل يستفاد منها في مقام التأييد.

الركيزة الرابعة: الاعتماد على التاريخ المسموع إلى جانب التاريخ المقروء.

وقد تحدّثنا عن هذه الركيزة المهمّة ليلة شهادة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، ولكن بما أنَّنا نتحدث هذه الليلة عن منهج السيد الحكيم (قدّس سرّه) وعن رؤاه متكاملة فلا بدَّ من ذكر هذه الركيزة مع زيادة في البيان، ومن أجل أن تتّضح هذه الركيزة جيّدًا ينبغي الالتفات إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول: إنَّ قضية الإمام الحسين (عليه السلام) تختلف عن غيرها من القضايا، إذ لا توجد قضية شغلت قلوب الشيعة وخالطت دماءهم وقلوبهم كقضية سيد الشهداء (عليه السلام)، فهي لا تقاس على غيرها من القضايا التاريخية، بل هي لمحوريتها قد أخذت نصيبها من قلوب الشيعة وفكرهم، وشغلت الكبير والصغير والرجل والمرأة والعالم والجاهل، ولذا ليس من العجيب أن يتداول الشيعة تاريخها جيلًا بعد جيل عبر الألسنة، بحيث في كل جيل ينقلها الآباء إلى أبنائهم وذرياتهم، ويحرصون على تعليمهم تفاصيلها، فلا عجب في أن يبقى جزءٌ مهمٌّ من تاريخ هذه القضية تتناقله الأجيال عبر الصدور، ولا يمكن تغافل هذا الجزء المهمّ.

الأمر الثاني: إنَّ القضية الحسينية قد وصلتنا عبر مقاتل معدودة، ولم يصلنا جميع ما كُتِب عنها، فنحن نقرأ في تاريخ الأصبغ بن نباتة -صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)- أنَّه أول من كتب مقتل الحسين، وذلك يُذْكَر ضمن مؤلفاته، كما أنَّ جابر بن يزيد الجعفي -صاحب الإمامين الباقرين (عليهما السلام)- قد كتب أيضًا مقتل الحسين، وكذلك عمار الدهني -وهو فقيهٌ عالمٌ- صاحب الإمام الصادق (عليه السلام)، ولكن لم يصلنا شيء من هذه المقاتل التي كتبها الرواة من أصحاب الأئمة (عليهم السلام).

وكذلك الحال في تأليفات علمائنا، فهذا شيخ الطائفة الطوسي (أعلى الله مقامه) على عظمته وجلالته قد كتب مقتل الحسين (عليه السلام)، ويُذْكَر ذلك ضمن مؤلّفاته، لكن هذا المقتل لم يصلنا، وهذا يعني أنَّ هناك قسمًا كبيرًا من المقاتل لم تصلنا، وذلك بسبب إحراق المكتبات الشيعية، ومنها مكتبة الشيخ الطوسي في بغداد، حيث تلفت العديد من كتب أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وكتب علمائنا.

ومن جهة أخرى: ليس كل ما وصل طُبِع، فهذا السيد ابن طاووس (قدّس سرّه) -صاحب المؤلفات المعروفة الذائعة- عنده كتاب في المقتل اسمه (المصرع الشيب في مقتل الحسين)، وهذا الكتاب موجود لكنه لم يطبع بعد، بل لا زال مخطوطًا.

ويوجد الآن عند العتبة الحسينية في العراق مشروع اسمه موسوعة المقاتل الحسينية، وقد طُبِع منه إلى الآن ثلاثة أجزاء، ولعله إذا تم يصل إلى عشرات الأجزاء، وربّما يتجاوز الخمسين جزءًا، وهم -جزاهم الله خيرًا- في هذا المشروع يقومون بجمع مقاتل الحسين (عليه السلام)، حيث ذهبوا إلى المكتبات المشتملة على المخطوطات التي لم تُطْبَع في مختلف البلدان، كالمملكة وإيران والعراق، ولبنان وسوريا واليمن، والهند وباكستان وأفغانستان، وإسبانيا وألمانيا وإيرلندا، وسوف تطبع الموسوعة -إن شاء الله- أكثر من 230 كتابًا تتحدث عن مقتل الحسين (عليه السلام).

ومع وجود هذا التراث الكبير الذي لم يصل والذي لم يُطْبَع كيف يستطيع الإنسان أن يقول: هذا الحدث غير صحيح لأننا لم نجد له مصدرًا؟! وهل بحث المشكّك في كل الكتب المطبوعة والمخطوطة حتى يتسنّى له أن يقول بضرس قاطع: هذا الحدث لم يتحقّق ولم يصح؟! إن هذه إلّا جرأة على قضية الحسين (عليه السلام).

الأمر الثالث: حين يقول السيد الحكيم (قدّس سرّه) في منهجه العلمي بأنَّ التاريخ المسموع معتمدٌ، فهو لا يريد بذلك كلّ قضية يذكرها أي إنسان من غير أن تكون متناقلة جيلًا بعد جيل، بل المقصود هذا النوع من القضايا التي نسمعها من الخطباء، وحين نبحث عنها في المصادر لا نجدها، وعندما نسأل الخطباء: من أين جئتم بها؟ يقولون: سمعناها من الخطباء السابقين، والسابقون سمعوها ممن قبلهم… وهكذا، فهذا التاريخ الذي نُقِل جيلًا بعد جيل لا يصح تجاهله وتغافله، بل يُعْتَمَد عليه.

ولذلك يقول السيد الحكيم (قدّس سرّه) في كتبه (من وحي الطف: ص90): ((إنَّ عدم العثور على مصدر الرواية لا يصلح شاهدًا على كذبها، لأنّه قد ألّفت في العصور الأولى كثرةٌ كاثرةٌ من الكتب حول مقتل الحسين (عليه السلام) تعتمد على الروايات المسندة لمشاهدي الحوادث أو على ما يحدِّث به أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في عصورهم الطويلة، حيث بذلوا جهدهم في الإعلان والتذكير بهذه المصيبة بما أحاط بها من مآس وفجائع وعظات وعبر، وإذا كانت تلك الكتب قد ضاعت علينا فمن القريب جدًا أن يكون كثير من مضامينها قد بقي في الصدور، يتناقله الناس جيلًا بعد جيل، أو أودع بنحو مرسل في بعض المقاتل المتأخرة التي وصلتنا، كما أنَّ كثيرًا من الأحداث ربما لم يسجَّل وإنما بقي متناقلًا بين الناس في الأجيال المتعاقبة حتى وصل إلينا مرسلًا من دون مصدر، واحتمال ذلك كافٍ في حسن ذكره لتشييد حقٍّ معلومٍ أو للتنفير من باطلٍ معلومٍ)).

وفي مقابل هذا الكلام يأتي المشكِّك ويقول: هذه رواية مرسلة في كتاب المنتخب للطريحي، فكيف تعتمدون أيها الخطباء على رواية مرسلة؟! وبمجرد أن نسمع متكلِّمًا يتكلم بمثل هذا الكلام نعرف أنَّه لم يحط بالمنهج العلمي في التعامل مع أخبار الطف الذي يبني عليه مراجعنا.

الركيزة الخامسة: معالجة إشكالية الكذب.

قد يقول قائلٌ: إذا جاز لنا نقل كل خبر وجدناه في مصدر لأحد علمائنا وإن لم نقطع به، فإنَّ ذلك يستلزم الوقوع في محذور الكذب؛ لأنَّ الكذب هو الإخبار عن الواقع بما لا تعلم، فلا يصح لأحد أن يقول: “هذا هو الواقع” مع أنَّه لا يقطع بأنَّه الواقع، بل يكون ذلك من الكذب المحرّم.

ويجيبنا عن ذلك السيد الحكيم (قدّس سرّه)، فيبيِّن أنَّ محذور الكذب ليس بوارد في المقام، وذلك عبر عدّة حلول مستفادة من كلماته، ولكنَّنا نكتفي بذكر أمرين:

أولًا: إنَّ الخطيب أو قارئ النسخة أو الشاعر حين ينظم قضية تاريخية معينة، فإنَّما ينقل الرواية ويسندها إلى مصدرها، أي إلى كتاب أو إلى خطيب آخر، فهو ناقل عن غيره، وهذا النوع من الإخبار لا كذب فيه، فلو قلتُ مثلًا: فلان حدّثني بأنَّ حادثًا مروريًا وقع في الشارع الفلاني، وكان إخباره غير مطابق للواقع، حيث لم يحصل أي حادث هناك، فحينئذٍ لا أكون كاذبًا، لأنَّ ما نقلته: “فلان أخبرني كذا” وأنا صادق فيما قلتُ، وكذلك الخطيب عندما يقول: في الكتاب الفلاني كذا، أو الخطيب الفلاني ينقل كذا، فحينئذٍ لا يتطرق محذور الكذب إطلاقًا؛ لأنَّه صادقٌ في النقل عن المصدر.

ثانيًا: إنَّ الخطيب عندما ينقل رواية فهو لا يقصد الإخبار عن الواقع حتى يلزم من ذلك محذور الكذب إذا لم تكن القضية مطابقة للواقع، وإنما يقصد أنَّ هذه القضية هي القضية الواصلة إلينا بحسب الموازين المتعارفة، فحين يقول مثلًا: إنَّ السيدة رقية (عليها السلام) استشهدت في الشام بهذه الكيفية، فهو لا يقول: هذا ما حصل قطعًا بكل تفاصيله! بل هو لا يعلم بالواقع، لأنّه لم يعش ذلك اليوم، لكنّه يقول: بحسب الضوابط المتعارفة في التعامل مع الخبر التاريخي هذا ما حصل، وأمّا ما هو الواقع؟ فلا يستطيع الخطباء الجزم بذلك بكلِّ تفاصيله.

وقد ذكر السيد الحكيم (قدّس سرّه) تنظيرًا لطيفًا جدًا، فبيَّن أنَّ الخطيب كالفقيه، إذ الفقيه حين يُسْأل عن حكم شرعي ويجيب فهو لا يخبر عمّا هو في اللوح المحفوظ، وإنَّما يخبر عمّا قادته إليه الحجج الشرعية والطرق الظاهرية التي ربما توافق الواقع وربما تخطئه، ومع ذلك إخبار الفقيه لا يقال عنه كذب والعياذ بالله، وكما أنَّ الفقيه لا يخبر عن الواقع وإنما يخبر عمّا أدت إليه الأدلة، فكذلك الخطيب أيضًا لا يخبر عن الواقع وإنما يوصل ما أدّت إليه الأدلة، فلا يرد احتمال الكذب فيما ينقله الخطيب.

وقد تحدّث السيد الحكيم (قدّس سرّه) عن هذه الركيزة في (الرسالة الأبوية: ص89) حيث قال: ((عدم قصد المخبر الإخبار عن الواقع الحقيقي، بل عمّا وصل بالطرق المتعارفة، خصوصًا مع قيام القرينة العامة أو الخاصة على ذلك، وهو الظاهر في الحوادث التاريخية بوجه عام لما سبق من أنها غالبًا ليست متواترة يقينية، بل هي مجرد تاريخ مستند إلى روايات لا يحصل منها غالبًا أكثر من الوثوق والاطمئنان، فمبنى الإخبار ليس على بيان الواقع ليلزم الكذب، بل على ذكر المثبَت في كتب التاريخ، أو الذي يثق به الناقل من ذلك، وإن لم يصرّح بذلك، ولذا فإذا ذكر الخطيب أمرًا غير مسموع إذا سئل عن مدركه يكتفي منه ببيان المصدر الذي أخذ منه الخبر، ونظيره في ذلك إخبار المفتي بالأحكام الشرعية، حيث لا يبتني على بيان الحكم الواقعي المثبت في اللوح المحفوظ، بل على ما تقتضيه الطرق والوظائف الظاهرية التي عليها العمل وهي المعيار في براءة الذمة)).

فتحصّل من مجموع ذكرناه: أنَّ المنهج العلمي لسيدنا الحكيم (قدّس سرّه) يتّفق مع ما عليه الخطباء، وليس للخطباء منهج آخر يغاير ما عليه مراجعنا، بل هم ينقلون الروايات التي وصلتهم على طبق منهج علمي أسَّس له المراجع العظام، كما اتّضح من كلمات هذا المرجع العظيم (قدّس سرّه).

ويا ليتنا نتعلم من كلمات فقهائنا قبل أن نخوض هذه الغمار ونوقع الناس في أمواج التشكيك في أحداث كربلاء، وما أشنع التهمة الرخيصة التي قالها بعضهم، حيث ادّعى أنَّ الخطباء يرفضون التحقيق ويصرّون على تداول الأخبار الضعيفة من أجل الحفاظ على لقمة عيشهم! ويا لها من كلمة عظمت عند سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، ويا له من اتّهامٍ لا يغتفر في ساحته المقدّسة (عليه السلام).

وكيفما كان، فإذا كان الخبر الكربلائي العاشورائي لا يعتبر فيه القطع واليقين، بل يكفي فيه الوثوق والاطمئنان، وكان الوثوق والاطمئنان يحصل من ملاحظة القرائن، وكانت إحدى القرائن وروده في كتاب معتبر، فحينئذٍ يصحّ لنا أن نحيي هذه الليلة ذكرى شهادة سيدتنا رقية (عليها السلام)، فإنَّ حادثة شهادتها قد ذكرها الشيخ عماد الدين الطبري -وهو عالمٌ من علماء الشيعة في القرن السابع، معروفٌ بالتثبّت- في كتابه (كامل البهائي) نقلًا عن مصادر متقدمة، كما أنَّ اسم هذه السيدة المباركة ذكره نسّابة معروفون، كابن فندق البيهقي في كتابه (لباب الأنساب)، حيث نصّ على اسمها وعلى أنَّها من بنات الحسين (عليه السلام)، وهذا يكفي للاطمئنان والوثوق بهذه القضية التاريخية بحسب المنهج العلمي الذي بيّناه.

شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > عشرات حسينية > العشرة الثالثة 1443

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *