لا يخفى ما للشعر من دورٍ مهمٍّ في شعيرة الإبكاء وإثارة الدمعة في المآتم الحسينيّة، ومن هنا ستناول مسألة الشعر الحسينيّ من خلال ثلاث زوايا [1]:
الزاوية الأولى: أهمّية إنشاء الشعر في أهل البيت (ع).
إنَّ من أفضل الطاعات وأشرف العبادات – كما يقول الفقيه المحقق الشيخ يوسف البحراني (قده)[2] – كتابة الشعر في أهل البيت (ع)، سيّما في سيّد الشهداء الحسين (ع)، ويُستفاد ذلك من خلال أربعة منبِّهات:
1/ المنبِّه الأول: كثرة الأحاديث الشريفة.
فإنَّ الأحاديث التي تتحدّث عن فضل كتابة الشعر في أهل بيت العصمة والطهارة (ع) قد تصل في كثرتها إلى حدِّ الاستفاضة، وقد اعتنت مجاميع الحديث بجمعها ورصدها[3]، فإنَّ هذه الكثرة وحدها كافية للتنبيه على أهمّية هذه الطاعة العبادية؛ إذ إنَّ تناول الموضوع الواحد في عشرات الخطابات تعني عند العقلاء اهتمام المتحدِّث بذلك الموضوع.
2/ المنبِّه الثاني: العطاء الأخروي الجزيل.
وتشهد لذلك عدّة من الروايات:
فمنها: ما ورد عن الإمام الصادق (ع): «من قال فينا بيتَ شعرٍ بنى الله تعالى له بيتًا في الجنّة»[4].
وعن الحسن بن الجهم، قال: سمعتُ الرضا (ع) يقول: «ما قال فينا مؤمنٌ شعرًا يمدحنا به، إلّا بنى الله له مدينةً في الجنّة أوسع من الدنيا سبع مرّات، يزوره فيها كلُّ ملكٍ مقرَّبٍ وكلُّ نبيٍّ مرسلٍ»[5].
ولا تعارض بين الخبرين، فهما محمولان إمّا على اختلاف مراتب إخلاص الشعراء، وإمّا على اختلاف مراتب الشعر وجودته.
3/ المنبِّه الثالث: التأييد بروح القُدس.
وهذا مما نبّهت عليه الروايات كثيرًا، فعن عليّ بن سالم، عن أبيه، عن أبي عبد الله (ع)، قال: «ما قال فينا قائلٌ بيتَ شعرٍ حتّى يؤيَّد بروح القُدُس»[6].
وعن الكميت بن زيد قال: دخلت على أبي جعفر (ع) فقال: «والله يا كميت لو كان عندنا مالٌ لأعطيناك منه، ولكن لك ما قال رسول الله (ص) لحسّان: لا يزال معك روح القدس ما ذببتَ عنّا»[7]، وفي نقلٍ آخر: «لا تزال مؤيّدًا بروح القدس ما دمتَ تقول فينا»[8].
ولا شك في كون هذا المضمون من المضامين المثيرة جدًا، سيّما مع الالتفات إلى أنَّ روح القدس من مختصات المعصومين (ع)، بل هو –بغضِّ النظر عن تفسير حقيقة روح القدس– منشأ علمهم ومعرفتهم، كما في الرواية عن الإمام الباقر (ع): «فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى»[9]، وإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ معية روح القدس لشعراء أهل البيت (ع) وتأييده لهم يعني ما يصعب إدراكه وتصوّره، والذي يقوى في النفس أنّه قوّةٌ إلهيّةٌ خاصّةٌ تسدِّد الشاعر وتلهمه المعاني الشامخة.
إلا أنَّ ما يجدر الالتفات إليه: أنَّ هذا التأييد ليس مطلقًا، وإنما هو مشروطٌ باستمرار كتابة الشعر فيهم (ع)، كما هو صريح الروايات المتقدّمة، وتشهد به بعض المنقولات الذائعة، كقضية الشاعر الخطيب الجمري وغيره[10].
4/ المنبّه الرابع: اهتمام الملائكة المقرّبين باستماع الشعر الولائي.
ويشهد لذلك ما رواه زيد الشحام في حديث: «أنَّ الإمام الصادق (ع) قد قال لجعفر بن عفّان الطائي: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين (ع) وتجيد؟ قال: نعم.
فأنشده فبكى ومن حوله حتى سالت الدموع على وجهه ولحيته، ثم قال: يا جعفر والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون ها هنا، يسمعون قولك في الحسين (ع)، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر، ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها، وغفر لك. فقال: ألا أزيدك؟ قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحد قال في الحسين (ع) شعرًا فبكى وأبكى به إلا أوجب الله له الجنة وغفر له»[11].
ونظرًا لما تدلّ عليه هذه المنبِّهات من أهمّية الشعر الولائي، فقد عكس ذلك مجموعة من النتائج المهمّة المترتّبة عليه، حتى على مستوى تزاحم الملاكات والمصالح والمفاسد الدخيلة في الأحكام الشرعية، ويشهد لذلك ما ورد عن خلف بن حمّاد: «قلت للرضا (ع): إنَّ أصحابنا يروون عن آبائك (ع) أنَّ الشعر ليلة الجمعة، ويوم الجمعة، وفي شهر رمضان، وفي الليل مكروهٌ، وقد هممت أن أرثي أبا الحسن (ع)، وهذا شهر رمضان؟ فقال لي: ارث أبا الحسن في ليلة الجمعة، وفي شهر رمضان، وفي الليل، وفي سائر الأيّام؛ فإنّ الله يكافئك على ذلك»[12].
فإنَّ هذه الرواية صريحةٌ في نفي الكراهة المروية، ممّا يعني أنَّ كراهة الشعر في الأوقات المذكورة – النابعة عن مفسدة واقعية؛ لما هو الحق من تبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد – لا تقوى إزاء المصلحة التكوينية الكامنة في كتابة الشعر في أهل بيت العصمة والطهارة (ع)، وهذا ما دعا مجموعة من فقهاء الطائفة (قدّست أسرارهم) لاستثناء الشعر الولائي من الحكم بالكراهة[13].
الزاوية الثانية: شمول الاستحباب للشعر الشعبي.
لا يخفى أنَّ ما تقدم من الفضل والأهمّية كما يشمل الشعر بجميع لغاته، كذلك يشمل الشعر بجميع أنواعه – التي يصدق عليها عرفًا عنوان الشعر – ومنه ما يسمّى بالشعر (الشعبي) أو (الدارج) أو (العامّي) أو (النبطي)[14].
وقد صرَّح بذلك الفقيه المعروف بالفاضل الدربندي (قده)، حيث قال: «لا فرق في الأشعار بين كونها عربية فصيحة أو ملحونة، وبين كونها عجمية فصيحة أو ملحونة»[15].
وتمامية ما أفاده (قده) تتوقّف على تمامية مقدّمتين:
المقدمة الأولى: إنَّ عنوان (الشعر) يصدق على الشعر الشعبي من غير أدنى شكٍّ، فإنه لا يُراد به إلا الكلام الموزون المقّفى، وهذا كما يصدق على الشعر بجميع لغاته، كذلك يصدق على الشعر بجميع مدارسه وأقسامه، ومنه الشعبي، ولا فرق في ذلك بين كونه موزونًا على طبق أحد الأوزان الخليلية الستة عشر أم لا، فإنَّ عنوان الشعر يصدق على الجميع عرفًا، اللهمَّ إلا أن يخرج عن دائرة كونه موزونًا، فإنَّ العرف يأبى عن إطلاق عنوان الشعر عليه حينئذ.
المقدمة الثانية: إنَّ الروايات التي تحدّثت عن أهمّية الشعر الولائي وفضله، لم يقيّدها المشرِّع بنوعٍ خاص منه، فهي بإطلاقها تشمل حتّى الشعر الشعبي.
ولا يضرُّ بذلك كون الشعر الشعبي فنًا مستحدثًا كما قيل؛ لأنَّ الموضوع ما دام هو الكلام الموزون المقفّى، فإنَّه يتّسع لاستيعاب حتى الأفراد الجديدة التي لم تكن موجودة في زمن المعصوم (ع)، حاله حال الكثير من الموضوعات ذات القدرة الاستيعابية بحسب وضعها وذاتها؛ فإنها لا تأبى عن شمولها لمصاديقها العرفية المستحدثة، فتصدق عليها، ويترتّب عليها أثرها وحكمها، بدون أدنى شك.
فظهرَ ممّا ذكرناه: أنَّ الشعر الشعبي –سيّما مع الالتفات إلى مناسبات الحكم والموضوع– مشمولٌ للأخبار المذكورة جزمًا.
الزاوية الثالثة: نقد إشكالية الكذب في الشعر المنبريّ.
هناك إشكالية مثارة حول الشعر الشعبي بالخصوص، وإن كانت تشمل حتى الشعر الفصيح أيضًا، وهي: أنَّ كثيرًا من هذا الصنف من الشعر ينسب للمعصومين (ع) أفعالًا أو أقوالًا لم تصدر عنهم، نظير قول الشيخ محسن أبو الحب (رحمه الله) على لسان سيد الشهداء (ع):
ومثله في الشعر الشعبي قول الشاعر الشهير الملا عطية الجمري (رحمه الله):
ومنشأ الإشكالية هو كون هذا النحو من الشعر كذبًا؛ إذ الفرض عدم صدور القول المذكور وأمثاله من المعصوم (ع).
ولكنَّ هذه الإشكالية قد عالجها فقهاء الطائفة -أعلى الله كلمتهم- بمعالجات عدّة، أهمّها المعالجتان التاليتان:
أ – المعالجة الأولى: أنه من باب المبالغة في الشعر والإغراق في الخيال، فإنه مستحسنٌ في الشعر؛ لكونه متعارفًا فيه، فلا يكون حرامًا، نظرًا لالتفات السامع إلى ذلك وتوجّهه إليه.
وهذا ما يظهر من كلمات المحقق النراقي (قده)، حيث يقول: «ما ينسب إليهم (ع) من الأقوال في أشعار المراثي ونحوها مما نقطع بعدم صدوره عنهم، فإن كان مما يعلم أنه من مبالغات الشعر وإغراقاته المتعارفة فيها المستحسنة فيها، فالظاهر أنه لا بأس به»[18].
ب – المعالجة الثانية: الحملُ على لسان الحال، والمراد من لسان الحال – كما يُستفاد من كلمات المحدِّث النوري (قده)[19] – هو: أنَّ لكلِّ إنسانٍ أو حيوان أو نبات أو جماد حالة خاصة وصفة معينة، يمكن من خلالها معرفة لسان حاله، بحيث لو كان له لسانٌ حقيقةً، وأراد أن يخبر عن حاله، لقال عين ما قاله الشاعر، وعليه فإذا قال الشاعر إنَّ المعصوم (ع) قال: كذا، وأجابه البيت الحرام – مثلًا – بكذا، وكان مراده أنَّ لكلٍّ منهما حالة معينة، بحيث لو كان له لسان أو أراد أن يخبر عن حاله، لقال ذات القول، فهذا كلام صادق، وليس من الكذب في شيء.
وقد تبنّى هذه المعالجة غير واحد من أعلام الطائفة (أعلى الله كلمتهم)، وإليك بعض كلماتهم الشريفة:
1/ سُئلَ المحقّق الخوئي (قده) السؤال التالي: بعض القصائد التي تذكر في مصيبة سيد الشهداء (ع) تنسب للإمام الحسين (ع) أو لزينب (ع) أو للإمام السجاد (ع)، دون الإشارة إلى أنَّ هذه الأبيات عن لسان حالهم، نعم بعض الناس يعرف كون ذلك عن لسان الحال، وبعضهم الآخر لا يعرف ذلك، فما هو الحكم؟
فأجابَ بقوله: «لا بأس، ما لم يقصد واقع النسبة إليهم»[20].
والنقطة المهمّة في هذا الاستفتاء أنَّ السائل قد فصّلَ بين كون المستمع ملتفتًا إلى كون الشعر بلسان الحال وعدم كونه ملتفتًا، فأجابَ المحقق الخوئي (قده) بأنَّ المدار على قصد الشاعر، فإنه ما لم يقصد النسبة فلا إشكال.
ويُضاف إليه: أنَّه من البعيد جهل المستمعين بكون الكثير من الشعر معبِّرًا عن لسان الحال، بحيث يضطر ذلك الشاعر أو الخطيب للتنبيه عليه، فإنه لكثرة استعماله في الشعر من بداية مسيرته – المتزامنة لعلّها مع مسيرة الإنسانية – لم يعد بحاجة لقرينةٍ تدلّ على أنه لسان الحال، وليس لسان المقال، وهذا ما دعا المحقق النوري (قده) للتفريق بين الشعر والنثر في احتياج الثاني للقرينة عند إرادة لسان الحال دون الأول[21].
2/ وسُئِلَ شيخ الولاء الأكبر، الفقيه الميرزا التبريزي (قده) السؤال التالي: يقوم البعض من كتّاب الشعر الحسيني إلى كتابة أبيات وكأن المعصوم (ع) يخاطب من خلالها عامّة الناس أو أجداده الطاهرين، كأن تُعْرَض الأبيات بشكل نصيحة للأمة الإسلامية، أو لوم عتاب وما أشبه ذلك، وكل ذلك غير موجود بطبيعة الحال، ولكن يعمد الشاعر لاستخدامها من أجل التأثير على نفسية المتلقي السامع، فهل في ذلك الأمر إشكال؟
فأجاب (قده) قائلًا: «باسمه تعالى، الشعراء الحسينيون، وكذا قرّاء التعزية، لا ينسبون الكلام أو الحوار إلى الأئمة حقيقةً، وأنه صادر عنهم (ع)، وإنما يعبِّرون بلسان الحال، وما تقتضيه طبيعية المصيبة، وهذا لا بأس به، وإن كان الغرض منه التأثير على مشاعر المستمعين لزيادة حزنهم على مصائب أهل البيت (ع) وكثرة البكاء، والله العالم»[22].
وسُئلَ أيضًا: هل يجوز كتابة الشعر عن لسان حال الأئمة في كلام لم يقولوه (ع)، كأن يتخيّل شاعرٌ أنَّ الإمام الحسين (ع) قال لمولاتنا زينب (ع) بعد مقتله: (ليست لدي قدرة على النهوض، ولكن اذهبي للعباس، فيمكن أن يسل سيفه البتّار)؟
فأجاب (أعلى الله درجته) بقوله: «باسمه تعالى، إذا كان بقصد ما تقتضيه المصيبة ولسان الحال فلا بأس، والله العالم»[23].
3/ ووُجِّهَ للمرجع الديني الكبير، سماحة السيد محمد سعيد الحكيم (قده) الطلب التالي: نرجو بيان شرعية كتابة القصائد الحسينية بلسان حال المعصومين (ع)، أو الحوراء زينب (ع)، في استبيان مصيبة الطفّ وحسب الروايات المتواترة عندنا.
فأجابَ (قده) إجابة كافية شافية، قائلًا: إنشاء تلك القصائد وكتابتها وإنشادها من أفضل الأعمال وأجلّها؛ فقد حثّ الأئمة (ع) على إنشاء الشعر وإنشاده فيهم (ع)، وأكّدوا على ذلك، وذكروا له أجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا يضيق المقام عن استقصائه، وكأن الشبهة قد نشأت مِن توهّم أن الشعر المذكور كذبٌ محرَّمٌ، لأنهم (ع) لم ينطقوا بالكلام المذكور فيكون كذبًا عليهم، ولكن لا أساس لهذه الشبهة؛ لأنَّ الكذب هو مخالفة الخبر المقصود بالكلام للواقع، بأن يقصد المتكلم الإخبار عن شيء لا واقع له، وهو غير حاصل في المقام؛ ضرورة أنه ليس من قصد الشاعر الإخبار عن الكلام الحقيقي ليلزم الكذب بعدم تحقّقه، بل الإخبار عن لسان الحال تبعًا للصورة التخيّلية التي يخترعها، من أجل تركيز الحديث في نفس المستمع، وللإنسان أن يخترع ويتخيّل ما شاء، وإذا قصد الحكاية عنه كان صادقًا، وعلى ذلك جرى الشعراء والبلغاء في جميع الفنون وبمختلف العصور، كقول شاعر أهل البيت السيد الحلّي عن الحسين (ع) مخاطبًا نفسه:
وله عن أصحاب الحسين (ع) وثباتهم في الواقعة:
وقول السيد جعفر الحلي:
وغير ذلك ممّا هو كثير.
وقبل ذلك الشعرُ الذي رُوي أنَّ الإمام الهادي (ع) أنشده في مجلس المتوكل العباسي:
وما ورد عن أمير المؤمنين (ع) في رثاء الصدّيقة الطاهرة سيّدة النساء الزهراء (ع)، كقوله:
وقوله (ع) في خطبته عن الجنة: «لم تبرح عارضة نفسها على الأُمم الماضين منكم والغابرين»، لوضوح أن الجنّة لا تنطق ولا تعرض نفسها، وإنما حكى (ع) عن لسان الحال تبعًا لما اخترعه من الصور التخيلية، وقبل ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [سورة فصّلت: 11]، وقوله (عزّ من قائل): ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [سورة ق: 30]، إذ من القريب جدًا عدم كون المراد بذلك الحكاية عن الكلام الحقيقي بين الله تعالى والأرض والسماء وجهنم، بل عن لسان الحال تبعًا للصورة المخترعة من أجل خدمة القضية المعروضة وتركيزها في نفس المستمع، وكثير مما يضيق المقام عن استقصائه كثرةً وشيوعًا.
وعلى ذلك لا أساس لهذه الشبهة ولا مجال لاحتمال الحرمة، بل يتعيّن أن يكون الشعر وإنشاؤه فيهم (ع)، وللشاعر أن يختلس من أُسلوب البيان ما يتسنّى له، وأن يخترع من الصور التخيّلية ما شاء، من أجل تركيز القضية الشريفة المعروضة في نفس المستمع وخدمتها عاطفيًا وولائيًا.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقكم لخدمة قضية أهل البيت (ع)، وتركيزها في نفوس المؤمنين، وحملهم على الانشداد لهم ولائيًا وعاطفيًا، والتخلّق بأخلاقهم، والخير والحكمة والموعظة الحسنة».
وممّا عرضناه – من كلمات هؤلاء الأعلام – ظهرَ أنَّ كتابة الشعر التي تتضمّن نسبة بعض الأقوال أو الأفعال لبعض الأشخاص، إذا كانت من قبيل الحكاية عن الخيال، أو بلسان الحال الراجع إلى الخيال أيضًا، فلا إشكال في جوازه، وإن كانت تلكم الأقوال والأفعال لم تصدر عن أولئك الأشخاص.
بل ادّعى المحقّق النوري (قده) أنَّ سيرة العلماء الأخيار جارية على ذلك[24].
نعم، ينبغي أن يُستثنى من ذلك ما لا يتناسب مع شأن المعصوم (ع)، بحيث لا يمكن أن يكون حاكيًا لحاله، فإنه لا يجوز نظرًا لما يستلزمه من الهتك لمقام المعصوم (ع) وخصوصيّات قدسه[25].
الهوامش:
[1] هذا البحث مقتبسٌ من مقدّمة سماحة السيّد لديوان الشاعر الولائي الأستاذ علي آل كويل (آيات الولاء: ج1، ص7) بشيء من التصرّف.
[2] الحدائق الناضرة: ج13، ص163.
[3] لاحظ على سبيل المثال: وسائل الشيعة، ج14، ص593 و597، باب استحباب إنشاد الشعر في رثاء الحسين (ع) وأهل البيت (ع) وبكاء المنشد والسامع، وباب استحباب مدح الأئمة (ع) بالشعر ورثائهم به وإنشائه فيهم ولو في شهر رمضان ويوم الجمعة وفي الليل.
[4] وسائل الشيعة: ج14، ص597.
[5] وسائل الشيعة: ج14، ص598.
[6] وسائل الشيعة: ج14، ص597.
[7] وسائل الشيعة: ج14، ص594.
[8] وسائل الشيعة: ج14، ص598.
[9] الكافي: ج2، ص272.
[10] جاء في مقدمة ديوان (الجمرات الودية: ص28): «ولما كان ما كان من أمر الهيئة في الخمسينات – وهي أحداث سياسية مرّت على البحرين – كان شاعرنا فيها اللسان المحفِّز وشاعرها الهزبر، بيد أنه تراجع عن مسيرته عندما رأى طيفًا مفاده أنَّ الحسين (ع) يقول له: أرجِع علينا سيفنا؛ لأنك الآن خادمٌ لغيرنا».
[11] وسائل الشيعة: ج14، ص594.
[12] وسائل الشيعة: ج14، ص599.
[13] وعلى ضوء ما أوضحناه من المكانة الشامخة للشعر الولائيّ يتّضح الوجه فيما حُكيَ عن صاحب الجواهر – وهو سماحة آية الله المحقّق، الفقيه الأكبر، الشيخ محمّد حسن النجفي (قده) – من أنه كان يتمنّى أن يكون كتابه الجليل (جواهر الكلام) – وهو أعظم موسوعة فقهية عند الشيعة – في ميزان أعمال شاعر أهل البيت الكبير الشيخ كاظم الأزري (رحمه الله تعالى)، بينما في المقابل تكون قصيدة هذا الشاعر الشهيرة المعروفة بـ(الأزرية) في صحيفة أعمال الشيخ صاحب الجواهر، كما نقل العلامة الشيخ عباس القمي (قده) في (الكنى والألقاب: ج2، ص23).
وسمعتُ من الخال المعظّم، العلامة الحجّة، الشيخ حسين العمران (دامت بركاته): أنَّ المجتهد الكبير، سماحة آية الله المعظّم، الشيخ عليّ الجشيّ القطيفيّ (قده) – صاحب الديوان المعروف – كان يكتب كلّ يوم بيتًا من الشعر على أقلِّ تقدير في أهل البيت (ع)، وكان يعتبر ذلك وردًا من أوراده العباديّة اليوميّة، وهذا كاشفٌ آخر عن مكانة الشعر الولائي لدى علماء الطائفة المحقّة.
ومن هنا يتبيّن وهنُ دعوة بعض الأدباء إلى مجانبة الشعر الولائيّ والمنبريّ، بحجّة أنه ليس ميدانًا للإبداع الأدبيّ، فإنَّ ذلك ليس إلا من أحابيل الشيطان وتسويلاته، بهدف حرمان الإنسان من جليل الثواب، وإلّا فإنَّ الشاعر المبدع أينما اتّجه فالإبداع رفيقه.
[14] للعلّامة الكبير، الشيخ عبد الحميد الخطي (قده) – كما جاءَ في مقدّمته لديوان (ثمرات الأفكار: ج3، ص6)، والمثبتة في كتابه (خاطرات الخطي: ص153) – كلامٌ لطيفٌ حول التسميات المذكورة، حيث يقول: «ويعترض بعض شعرائه على تسميته بالنبطي؛ لأنَّ النبط ليسوا بعرب، وهذا الشعر عربي المسماة والمنبت.
ولا يصح أن يُوصم بالعامية؛ لأنَّ بعض شعرائه مثقّفون، وكما يقول علماء المنطق: (إنَّ الجزئية ترفع الكلّية).
ولعلَّ أقرب اسم لهذا الشعر: (الشعر الشعبي)؛ فإنَّ لغته يفهمها السواد الأعظم من أبناء بيئة الشاعر، سواء كان حضريًا أو بدويًا أو إفريقيًا».
[15] إكسير العبادات في أسرار الشهادات: ج1، ص167.
[16] ديوان الشيخ محسن أبو الحب: ص169.
[17] الجمرات الودية: ص182.
[18] مستند الشيعة: ج10، ص256. وبما ذكرناه في توجيه عبارته (قده) يندفع تعليق العلّامة الحجّة الشيخ عبد الحسين الحلّي (قده) عليها، حيث قال – في رسالة (النقد النزيه) المطبوعة ضمن (رسائل الشعائر الحسينية: ج3، ص37) – ما نصّه: «وهذا من الغرائب؛ فإنَّ الخلاص عن الكذب لا ينحصر بالمبالغة والإغراق، لأنَّ الشعر أكثر ما يكون خيالًا أو متضمّنًا لحكاية حال».
ووجهُ الاندفاع هو: احتمال إرادة المحقّق النراقي (قده) من (الإغراق) الإغراق في الخيال، وليس الإغراق بحسب الاصطلاح البلاغي، والذي يصنّف دون الغلو وفوق المبالغة.
[19] اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر: ص158.
[20] صراط النجاة: ج2، ص443.
[21] اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر: ص159.
[22] صراط النجاة: ج10، ص402.
[23] صراط النجاة: ج10، ص399.
[24] اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر: ص159.
[25] حدّثني أحد الشعراء من ذرّية العترة الطاهرة: أنه كتب قصيدة غزل في الصدّيقة الطاهرة الزهراء (ع) على لسان أمير المؤمنين (ع)، فتشرّف برؤيتها (ع) في المنام، وسمع منها أشدَّ العتاب، وقد أطلعني على قصيدته فعجبتُ كيف استطاع أن يكتبها، وإني حين أسجِّل هذه القضيّة فليس هدفي إلّا التنبيه على ضرورة الحذر من الوقوع في مثل هذا الخطر العظيم، في وقتٍ صرنا نشهد فيه بعض ما يعبَّر عنه بـ (الأناشيد الإسلامية) – التي تبثّها بعض القنوات الفضائية – وهي تتضمّن من الصور الخيالية ما لا يناسب شأن المعصوم (ع) على الإطلاق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم.
بسم الله الرحمن الرحيم وافضل الصلوات على محمد واهل بيته الطيبين الطاهرين اتقدم بالشكر الجزيل لسماحة السيد ضياء الخباز لنشر هذه المعارف القيمة التي هي من لوازم المعارف الدينيه والوعي والبصيرة في خط اهل البيت عليهم السلام واسال الله المتفضل المنان ان يمن علينا بالهدى والثبات على المبدءالحق وا ن يرزقنا شفاعة الحسين عليه السلام يوم الورود