شذراتٌ من حياة الأستاذ المقدَّس، آية العلم والتقوى والأخلاق، العالم الفقيه، سماحة الشيخ هادي العسكري القمي (قُدِّس سرُّه الشريف)
كلمةٌ في البدء:
اثنتا عشرة سنة قد مضت وأنا أريد أنْ أقضيَ حقَّ أحد أجلاء أساتذتي، ولكن تحول بيني وبين ذلك قلّةُ التوفيق، وبما أنَّ الفرصةَ الآن قد سنحت، فإنِّي أرجو أن أوفَّق لأداء شيءٍ من حقوقهِ الكبيرة والكثيرة بكتابةِ شيء من السطور عن شخصيتهِ العظيمة، ذلك هو الأستاذ البارع، الأخلاقيّ المربّي، العلامة الحجّة، سماحة آية الله، الشيخ هادي العسكري[1] القمّي (أعلى الله في الجنان درجاته).
الوالدُ العظيم:
ينحدر شيخنا الأستاذ المعظّم (قدَّس اللهُ نفسه الزكية) من صلب كريمٍ مبارك، فأبوهُ هو أحد أعلام حوزة النجف الأشرف في العلم والتقوى، وقد تحدّث عنه العلَمُ الكبير الشيخ آغا بزرك الطهراني (طيّب الله مثواه) فقال: (الشيخ غلام علي القمّي، عالمٌ صالحٌ ورع، وفاضلٌ جليلٌ مرضي، كانَ من أفاضل تلامذة شيخنا الكاظم الخراساني والمُبرَّزين منهم، فقد كانَ من المتكلِّمين في درسه، والمُتكلِّمون في درسهِ قليل، يُعدّون على الأصابع، وكان بالإضافة إلى سموّ مكانته وعلوّ كعبه في العلم والمعرفة على جانبٍ كبير من الزهد والتقى والورع والنسك والعبادة)[2].
الولادة والنشأة:
وُلِد شيخنا الأستاذ (طاب ثراه) في مدينة (النجف الأشرف) –حيث كان يقطن والده الجليل– سنة أربع وخمسين بعد الثلاثمئة والألف من الهجرة النبويّة المباركة (على مهاجرها وآلهِ أفضل الصلاة والتحيّة)، ونشأ في أفيائها، إلى أن بلغ السادسة من عمره فانتقل منها برفقة والده إلى مدينة سامراء، على إثر عارضٍ صحي أصاب والده المقدّس فأقعده الفراش – كما سمعتُ من الأستاذ (قُدِّس سرُّه) – وقطنَ فيها ثمانية عشر سنة، حيث توفي والده سنة ألف وثلاثمئة وثمانية وستين من الهجرة الشريفة[3] بعد ثمان سنواتٍ من هجرتهِ إليها، ومكثَ شيخنا الأستاذ بعد وفاة والده عشرًا من السنين.
المسيرةُ العلمية:
ابتدأ شيخنا الأستاذ (طيَّبَ اللهُ ثراه) حياته العلمية في رحاب الإمامين العسكريين (صلوات الله عليهما)، فحضرَ عند أساتذة سامراء وأجلّاء علمائها، وأكمل مقدماته وسطحه فيها، وكان عمدة أساتذته في هذه المراحل:
1 – سماحة الشيخ محمد رضا الشوشتري (طاب ثراه)، وقد حضرَ لديهِ (القوانين).
2 – سماحة السيد نصر الله گلستانة (طاب ثراه).
3 – سماحة الشيخ محمد حسين الاصطهباناتي (طاب ثراه)، وقد حضرَ لديهما (اللمعة).
4 – سماحة الشيخ الميرزا حبيب الله الاشتهاردي (أعلى الله درجته)، وقد حضرَ لديهِ (الرسائل).
8 – سماحة الشيخ الميرزا محمود الشيرازي (أعلى الله درجته)، وقد حضر لديه (الكفاية والمكاسب)، وجديرٌ بالذكر أنَّ أستاذه الجليل هذا قد كان أستاذًا –قبل ذلك– للمحقق الخوئي (طاب ثراه) في كتاب الكفاية أيضًا، وكان لهذا الشيخ المعظّم بالغ الأثر في صقل شخصية شيخنا الأستاذ في مقام العلم والعمل.
وقد تخلّلت مسيرته هذه رحلةٌ علمية صغيرة إلى كربلاء المقدّسة سنة ألف وثلاثمئة وتسعة وستين من الهجرة المباركة، وكان له من العمر حينها خمسة عشر سنة، فحضر فيها (القوانين) عند المرحوم الحاج حسن آقا مير (طابت روحه) في صحن مولانا العباس (عليه السلام) مع مجموعةٍ من الطلّاب، كما حضرَ (اللمعة) عند الشيخ محمد الخطيب (طابت روحه) في داره، ولكنَّ هذه الرحلة لم تدم أكثر من شهرين.
ولمّا أتمَّ دروس سطحه، وتهيأ للحضور في الأبحاث العليا –المعروفة بأبحاث الخارج– هاجرَ سنة ألف وثلاثمئة وثمانية وسبعين من الهجرة إلى حوزة العلم الكبرى (النجف الأشرف)، فلازم أبحاث زعيمها السيّد الخوئي (قُدِّس سرُّه) مدة اثني عشرة سنة، كما حضر أبحاث البيع عند السيّد الخميني (قُدّس سره) حين تمَّ تسفيره إلى النجف الأشرف، وكان في كلِّ حضورهِ مثالًا للطالب المُجِّد المثابر، حتى أنَّه كان يقول: “لقد مرَّ عليَّ زمانٌ في النجف الأشرف لم أكن أجلس فيه لتناول الطعام إلا على نحو التجافي“.
كما كان حضوره في الأبحاث العالية حضورَ تحقيقَ وتدقيق وبحث وتتبع، فكانت له مع أستاذهِ المحقق الخوئي (طيَّب الله ثراه) صولاتٌ وجولاتٌ؛ إذ كان يلاحقه بعد الدرس بإشكالاتهِ إلى أن يصل معه إلى باب بيته، وربّما اتفق له في بعض الأحيان أن يطلب منه أستاذه المحقق الخوئي (قُدِّس سرُّه) أن يلتقيَ بهِ في وقتٍ آخر، لأجل معاودة البحث ومعالجة الإشكال، ممّا يدلُّ على كمال عنايتهِ به واهتمامه بصقلهِ وتربيته.
وفي رحاب حوزة النجف الأشرف تألّق نجمه، وذاعَ صيته، فصار يُشار إليه بالبنان، كأحد أفاضل الحوزة وأجلّاء علمائها، وقد وصفه البحّاثة الكبير الشيخ آغا بزرك الطهراني (أعلى الله درجته) في موسوعته (طبقات أعلام الشيعة) فقال: (فقد صارَ من الأفاضل والأعلام)[4]، والملفت أنَّ هذا الوصف قد رشحَ عن يراعه (طابَ ثراه) وكان شيخنا الأستاذ حينها في الثلاثينات من عمره؛ إذ أنّه مولودٌ –كما تقدم– سنة 54 من الهجرة، بينما انتهى الشيخ الطهراني من كتابه سنة 88[5]، فإذا افترضنا أنَّ ما كتبه عن الشيخ الأستاذ كان في نفس سنة الانتهاء منه، فهذا يعني أنَّ عمره الشريف حينها كان أربعًا وثلاثين سنة.
وكيف كان، فقد كان الشيخ العسكري إلى جانب دراستهِ مشتغلًا بالتدريس، ففي حوزة سامراء كان أستاذًا للمعالم واللمعة، وفي حوزة النجف الأشرف كان أستاذًا لمتون السطح العالي، سيما المكاسب والكفاية، بل كان من أبرز الأساتذة فيها، وقد درسَ على يديهِ الكثير من الفضلاء والعلماء الذين يصعب رصدهم في هذه العجالة.
وحين طالت حملاتُ التهجير العلماءَ الإيرانيّين خشيَ الشيخ الأستاذ (أعلى الله مقامه) أن يكون أحد المُهجَّرين، ممّا حدا بهِ أن يقلِّل مِن ظهوره وينزوي في بيته، علّه يسلم من بطش البعثيّين، ولا يُحرم من نعمة جوار أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكان له ما أراد، إلى أن حصلت حرب الخليج، واضطربت أوضاع العراق اضطرابًا شديدًا، وداهمت الشيخ الأستاذ بعضُ العوارض الصحيّة الصعبة، فاضطرَ أن يهاجر إلى مدينة قمّ المقدسة –موطن آبائه وأجداده– واستقرَّ فيها عالمًا جليلًا وأستاذًا قديرًا، حيث لازم درسه العديد من طلبة العلوم الدينية واستفادوا من نمير علمه، وإنْ كان لم يحظَ –للأسف الشديد– بالمكانة اللائقة به.
مِن خواطره مع أساتذته:
أ – مع الشيخ محمود الشيرازي (قُدِّس سرُّه):
سمعتُ من الأستاذ (طيَّبَ اللهُ ثراه) أنَّهُ حين كان يحضر لدى أستاذه الحجّة الشيخ محمود الشيرازي (قُدِّس سرّه) –وهو أحد تلامذة المحقق الآخند (أعلى الله مقامه)– تشرّف المرجعُ الكبير السيد محمد هادي الميلاني (أعلى الله درجته) بزيارة مرقد الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، فنزل أو زار –والترديد مني– الشيخ الشيرازي، باعتبارهِ وجهَ حوزة سامراء آنذاك[6]، فاحتفى بهِ هو وتلامذته –ومنهم شيخنا الأستاذ– ولمّا أراد السيّدُ الميلاني الذهابَ إلى الحرم الشريف ذهبَ الشيخُ الأستاذ بمعيّتهِ، فسأله السيّد في الطريق: ماذا تحضر لدى الشيخ الشيرازي؟ فلمّا أجابهِ بحضورهِ لديه كتاب (كفاية الأصول) سأله مرّةً أخرى: في أيِّ مبحث؟ فلمّا أجابه قال له: هل تسمح أن تذكر لي ما أفاده أستاذك فيه؟ يقول الشيخ الأستاذ: فارتجَ عليَّ ولم أستطع الكلام حتى وصلنا إلى الحرم الشريف، حينها استأذنتُ السيّد أن أذهب وأعود ريثما ينتهي من الزيارة، فلمّا أذن لي ذهبتُ إلى المدرسة وطالعتُ الدرس مجدّدًا، وبعدها رجعتُ للحرم الشريف ورافقتُ السيّد في خروجه، وفي الطريق استأذنته في بيان الدرس له، فلما أذن شرعتُ في البيان، وهو يستمعني بكلّه، وما إن انتهيتُ حتى شكرني على ذلك شكرًا بالغًا، ثمَّ قال: لم يكن غرضي من طلبي أن أختبر مستوى فهمك، بل كلُّ ما في الأمر هو أنني قد اختلفتُ مع الشيخ عبد الحسين الرشتي (طاب ثراه) –صاحب الشرح المعروف على الكفاية– في فهم هذا المطلب بالخصوص، وأحببتُ أن أرى أنَّ أيَّ الفهمين هو الموافق لبيان المحقق الآخند، على ضوء ما أفاده تلميذه الشيخ الشيرازي.
ب – مع السيد الخوئي (قُدّس سره):
وسمعتُ من شيخنا الأستاذ (طاب مثواه) بأنّه سمع من أستاذهِ –بل أستاذ الأساتذة– المحقق الخوئي (قُدِّس سرّه): أنَّ سرَّ تمكّنهِ من علم الأصول، وسيطرته على إعمال الصناعة الأصوليّة في الفقه، هو أنّه قد قضى من عمره الشريف عشرًا من السنين لم يشتغل فيها بغير الأصول، درسًا وتدريسًا وبحثًا وتأليفًا، حتى صار علم الأصول بين يديه كالعجين بين يدي الخبّاز.
كما سمعتُ منه أيضًا: أنه سمع من أستاذهِ المحقق الخوئي (قُدِّس سرُّه) قوله في حق الجزء الثالث من تقرير بحوثه الأصولية (دراسات في علم الأصول): (الإشكالُ عليه إشكال علَيَّ)، ممّا يدلّ على مدى الضبط والإتقان الشديدين للتقرير.
وجديرٌ بالذكر أنَّ هذا التقرير بقلم الحجّة السيد علي الشاهرودي (طاب ثراه)، وكان قد طُبعَ منه الجزء الثالث فقط في حياة مؤلفه وحياة السيد الخوئي (طاب ثراهما)، وأما بقيّة الأجزاء فلم تُطبع إلا بعد رحيلهما معًا.
كمالاته العلمية والعملية:
أجد قلمي في هذا المقام عاجزًا عن المضيّ في الحديث عن كمالات شيخنا الأستاذ (أعلى الله درجته) في مقامي العلم والعمل، ولكنني سأختصر الحديث حولها في نقاط مختصرة:
أ– الأولى: لقد تشرّفتُ بمعرفة الشيخ الأستاذ (رضوان الله تعالى عليه) والحضور عنده، وكان حينها مبتلى بابتلاءَيْن عظيمين، أحدهما هو بتر إحدى رجليه، ممّا أعاق حركته وأجلسه في بيته، والآخر هو الفشل الكلوي، ومع ذلك فإنني لم أره –طوال السنوات التي قضيتها بخدمته– إلا شاكرًا حامدًا وصابرًا محتسبًا، وكانت الابتسامة لا تفارق محيّاه إلا إذا غضب في ذات الله تعالى لداهيةٍ قد دهت الدين والمذهب الشريف.
ولم تؤثِّر هذه الابتلاءات على نشاطه العلمي، فكان يمارس دوره في التدريس وتربية الطلّاب رغم ما كان يتسبّب له غسيل الكلى من المتاعب، ولم يكن ينقطع عن التدريس إلا نادرًا.
ب– الثانية: لقد وفّقني الله تعالى للاستفادة منه في كتاب البيع من المكاسب، بدءًا من مبحث بيع الوقف حتى نهاية الكتاب، كما حضرتُ عنده مبحث (الاستصحاب) من الكفاية، وقد أبهرني في تدريسهِ لكتاب المكاسب بمزايا لم أجدها عند غيره، ومن أهمّها ثلاث مزايا:
المزيّة الأولى: سيطرته التامّة على الكتاب من البدو إلى الختم، فخارطة الكتاب كانت جليّة واضحة في ذهنه الشريف، بحيث كان يربط بين فروعه المتناثرة في ثناياه، ولو أردتُ أن أختصر هذه المزيّة في عبارةٍ من العبارات لقلت: (إنَّ كتاب المكاسب قد اختلط بلحمهِ ودمه).
المزيّة الثانية: اهتمامه بتحقيق الأقوال التي ينقلها الشيخ الأعظم (قُدِّس سرّه)، والرجوع إلى مصادرها الأساسيّة، ممّا يوجب أن يختلف أحيانًا مع الشيخ الأعظم في فهمه للأقوال المنقولة، وإن اتّفق معه في أحيان أخرى.
المزيّة الثالثة: ملاحقة النصوص الروائية في مصادرها الأصلية كلما حدس بوقوع سقط أو زيادة أو نقيصة في النصّ المنقول، وكان هذا الحدس لديه مثيرًا للدهشة والتعجّب.
ج– الثالثة: التواضع الشديد وإنكار الذات، وقد لمستُ منه هذه الخصلة الكريمة حين أتممتُ لديه ما بقي لي من دروس السطح، ولأنّي كنتُ أحبُّ الاستزادة منه فقد طلبتُ منه أن يشرع معي ما يُعرف بـ(البحث الخارج)، ولكنّه رفض ذلك رفضًا تامًا، فحاولتُ أن أقنعه بتغيير صيغة الطلب، وعرضتُ عليه اقتراحين: أحدهما تدريس كتاب الخمس من (المستند في شرح العروة الوثقى)، والآخر المرور بكتاب (العروة الوثقى) مع ملاحظة تعاليق المحقق الخوئي (قُدّس سره) عليها، وبيان وجه الاختلاف، وترجيح الصحيح من الرأيين، فقَبِل بعد لأيٍ –وأظنُّ بعد الاستخارة– بالاقتراح الأوّل، وحين شرعنا في الدرس الأوّل لم تمضِ أكثر من خمس دقائق حتى أغلقَ الكتاب، وقال لي: (هذا بحث خارج، حتى وإنْ غيّرنا اسمه، فلن أستمر فيه)، وكلما حاولتُ معه في المضيّ والاستمرار لم يزدد إلا إصرارًا على موقفه، وحين صارحته برغبتي في استمرار استفادتي منه، وأن لا تكون دروس السطح هي نهاية المطاف، قال لي: إنَّ لديَّ مقترحًا، وهو أن تحضر أبحاث الأساتذة المعروفين ثمَّ تأتيني كلَّ يوم بعد الفراغ من دروسك، لنتذاكر على ضوء ما تتلقّاه من أساتذتك.
وأجد يراعي في هذا المقام قاصرًا عن التعليق، فإنَّ مثل هذا المستوى من التواضع يكاد أن يكون في الندرة كالكبريت الأحمر، وأقول ذلك بلحاظ أنَّ شيخنا الأستاذ (قُدّس سرّه) كان على درجةٍ عاليةٍ من العلم تؤهِّله لتدريس أبحاث الخارج بكلّ جدارة، ومع ذلك كان يأبى التصدّي لذلك، في الوقت الذي يتهالك فيه آخرون –ممّن هم دونه في الفضل والكفاءة بمراتب– لارتقاء المنصب المذكور، حتى صار –للأسف الشديد– شرعةً للنطيحة والمتردّية، ممّا أوجب أن يفتقد هذا المنصب الخطير بريقه وهيبته وأهمّيته، وهذا هو شأن أيّ تخصّصٍ تستباح حرمته لغير أهله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
د– الرابعة: الاهتمام بالدفاع عن المذهب الشريف، ولقد كانت هذه الصفة الشريفة همًّا من أكبر همومه، ونبضًا ينبض في دمائهِ، ولدي عليها العديد من الشواهد، ولكنني سأكتفي بذكر شاخصين من شواخصها:
الشاخص الأوّل: تصدّيه للإجابة عن المسائل والإشكالات والشبهات العقائدية، وقد كان أحد المُعتمدين لدى شبكة (رافد) الإلكترونية، فكانوا يحوّلون له بعض الأسئلة التي تصل إليهم من شتى أنحاء المعمورة، وكان (رضوان الله تعالى عليه) يجيب عنها بكلّ حماس.
ولا أزال أتذّكر أنني ذات يوم قد كنتُ بخدمته فرأيته كالبركان الذي تتدفّق حممه من شدّة الغضب والانزعاج، وكان سبب ذلك أنَّ أحد الزيدية قد كتب مئة وخمسة وعشرين إشكالًا، وأطلق عليها اسم (إشكالات على المذهب الاثني عشري)، وصدرت عن مركزٍ يسمى بـ (مركز الأبحاث الإسلامية) في صنعاء اليمن، وقد ارتأى مركز الأبحاث العقائدية في قم المقدّسة أن يكون شيخنا الأستاذ هو المجيب عنها، فتسلّمها منهم بكلّ شغف، وأكبَّ على مطالعتها، غير أنّه قد صُدِمَ بما اشتملت عليه من الوقاحة والتطاول على الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، فأجاب عنها بإجاباتٍ ناريّة لاذعة تتناسب مع لهجتها وتتناغم مع مضامينها.
الشاخص الثاني: سعيه الجادّ للمشاركة في برنامج (البالتوك)، وإني لأتذكّر جيّدًا ذلك اليوم الذي تشرّفتُ فيه بزيارته فسألني عن البرنامج المذكور قائلًا: لقد سمعتُ بأنَّ الشخص يستطيع من خلاله أن يتحاور مع أصحاب الإشكالات العقديّة والشبهات المذهبية، والتواصل مع المسلمين في مختلف بقاع العالم؟! فأجبته بالمقدار اليسير الذي كنتُ أعلمه عن ذلك البرنامج؛ لأنني لم أكن من روّاده، وحينها فاجأني (رضوان الله عليه) بإبدائه الرغبة الأكيدة في الاشتراك في ذلك البرنامج، ولكنني أوضحتُ له بأنَّ الأمر بالنسبة لمثله ليس بالسهل اليسير؛ لأنه لم يكن يعرف شيئًا من أبجديات عالم الكمبيوتر والإنترنت.
غيرَ أنَّ المفاجأة التي لم تكن في الحسبان أنّه قد اتّصل بي بعدها بأيام، وطلب مني أن أذهب لزيارته في اليوم التالي، وحينما تشرّفتُ بخدمته وجدته قد اشترى جهاز حاسوب، وطلبَ مني أن أعلّمه كيفية استخدامه من أجل الدخول إلى غرف البالتوك الحواريّة، فعجبتُ جدًّا من همّته القعساء وإرادتهِ الصلبة، إذ كان عمره الشريف حينها قد شارفَ السبعين أو جاوزها، فبدأتُ أشرح له الأساسيّات، غير أنَّ ما كنتُ أعانيه من ضيق الوقت قد أوجبَ أن تكون الجلسات مقصورة على نهاية كل أسبوع، وبما أنَّها كانت جلسات متباعدة، ولم يكن الأستاذ يحيط باللغة الإنجليزية بالمطلق، فقد حالَ ذلك دون تحقيق ما كان يتمنّاه.
تراثه العلمي:
في إحدى الجلسات التي جمعتني بشيخي الأستاذ (أعلى الله درجته) كان يحثّني على الاستمرار في التأليف والكتابة، ثمَّ أبدى حسرة شديدة على مضيّ عمره الشريف من غير استثماره في هذا المجال، رغمَ أنّه ممّن بارك اللهُ له في عمره، فقضاه بين الدرس والتدريس وتربية الكثير من الفضلاء والعلماء الذين كان له كبير الأثر في نضجهم وصقل ملكاتهم.
ولا يعني ذلك أنَّ يراعه لم يرشح بشيء، فقد ألَّف وصنّف غير أنّه قد كان مُقِلًّا في التصنيف، وأهمُّ ما برزَ عن قلمه –بحسب ما أعلم– أربعة آثار:
- شرح مشيخة التهذيب.
- شرح مشيخة الفقيه.
- شرح مشيخة الوسائل، وربّما كان هذا الأثر تعليقة وليس شرحًا، والترديد مني.
- تفسير القرآن الكريم، ويتكوّن من عدّة أجزاء.
والذي سمعتُه منه: أنَّ الأثر الأخير قد صادره منه أزلامُ النظام البعثي حين عثروا عليه في الجمارك عند مغادرته من العراق إلى إيران، وأمّا الآثار الثلاثة الأولى فقد أودعها كأمانةٍ لدى إحدى العوائل في بغداد، ولمّا سقط النظام[7] طلبتُ منه أن يتفضّل بتزويدي بالمعلومات التي نستطيع من خلالها أن نصل إلى تلك العائلة، من أجل استلام الكتب، فأوضحَ لي أنّه قد سبقني إلى ذلك، ولكنَّ النتيجة التي وصلَ إليها هي أنَّ الكتب قد تلفت؛ إذ أنَّ العائلة –في ظلِّ ظروف الخوف والقهر التي مرَّت بالعراق– قد خشيت على نفسها وعلى الكتب، فدفنتها تحت الأرض، وأصابها التلف.
وكان (رضوانُ الله عليه) يخبرني بذلك وملؤه الحسرة والألم، فقلتُ له: لعلّ الكتب لم تتلف كاملة، فيمكن تدارك ما أصابها من الضرر والنقص، وألححتُ عليه أن يزوّدني بالمعلومات، ولكنّه كان يائسًا، وقد مضى (قُدّس سرُّه) إلى ربّه ومضت المعلومات معه، ومع ذلك فإنني لم أقطع الأمل، ولا زلت أُؤمّل أن يطلّع أحد أفراد تلك العائلة على هذه الترجمة فيبشّرنا بوجود تلك الكتب، لكي تشقّ طريقها إلى الملأ العلمي.
الشيخ في عيون تلامذته:
وسوف أكتفي ها هنا بنقل كلمتين من كلمات علمين من أعلام تلامذته:
1 – الكلمة الأولى: كلمة سماحة السيد محمد رضا السيستاني (دام تأييده)، وقد تفضّل بكتابتها نزولًا عند طلبي، على إثر أسئلة وجّهتها لسماحته حول تلمذتهِ عند الشيخ الأستاذ (أعلى الله درجته)، فأفاد التالي:
- حضرتُ عنده (قُدّس سره) الجزء الأول من الكفاية في حلقةٍ صغيرة [تتألّف] من خمسة أشخاص في غرفته الملاصقة للمدرس الصغير في مدرسة السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي.
- كنتُ أحضر عند الشيخ المرواريد (دامت بركاته) بعض الدروس في المدرسة المذكورة، فعلمتُ أنَّ سماحة الشيخ العسكري بصدد الشروع في تدريس الكفاية، وكنتُ أبحث عمّن أدرس عنده هذا الكتاب، فعرضتُ ذلك على سماحة السيد فاستحسن حضوري عنده.
- كان (رضوان الله عليه) فاضلًا جليلًا، محترمًا في الأوساط العلمية النجفية، مهتمًا اهتمامًا بالغًا بأمر الدين والمذهب، أبيّ النفس، حسن الأخلاق، صبورًا على المكاره.
وقد وجدتُه عند تشرّفي بالحضور لديه متمكِّنًا من المادة العلمية التي يدرِّسها، حسن البيان، معتنيًا بطلابه، يبذل جهده في تعليمهم، بالإضافة إلى بعض اللفتات التربوية في أحاديثه وسلوكه العملي.
وقد استمرّت علاقتي معه بعد ذلك، حيث كنتُ أزوره في داره بين مدّة وأخرى، ولا سيما بعد أن بترت رجله نتيجة للإهمال الطبي، إلى أن اضطر إلى الخروج من العراق، فخسرت الحوزة العلمية بذلك أحد رجالها الأجلاء، وعندما استقر في قم المقدّسة كانت له مكاتبات متبادلة مع سماحة السيد في بعض شؤونه الخاصة (أعلى الله مقامه، وحشره مع أوليائه محمد وآله الطاهرين).
2 – الكلمة الثانية: كلمة سماحة الشيخ محمد الجواهري (دام تأييده)[8]، وقد تفضّل بكتابتها نزولًا عند طلبي، على إثر أسئلة وجّهتها لسماحته –بواسطة أحد الأصدقاء– حول تلمذتهِ عند الشيخ الأستاذ (أعلى الله درجته)، فأفاد التالي:
حضرتُ عند سماحته (قدَّس الله نفسه الزكية) الكفاية وقسمًا من المكاسب، وكانت استفادتي منه جسيمة، وزاملني في الدرس السيد محسن الهاشمي والشيخ بدر الواعظي.
[وقد] استفدت منه كثيرًا، [إذ] كان (قدّس سره) بحرًا في الفقه والأصول والتفسير، وله عدّة أجزاء في تفسير القران الكريم، وكان متأثرًا كثيرًا جدًّا على تفسيره هذا عندما أبعده النظام البائد إلى إيران.
وعند قدومه إلى إيران استقبل استقبالًا جليلًا من قبل السيد الشهرستاني –الوكيل المطلق لسماحة آية الله العظمى، المرجع الأعلى السيد السيستاني (دام ظله)– وكنّا نتشرّف بالحضور عنده بين الحين والآخر.
[وبكلمةٍ لقد] كان خير أستاذ لي في الفقه والأصول والأخلاق والتربية الصالحة.
كراماته:
كان شيخنا الأستاذ (رضوان الله تعالى عليه) عميق الصلة بالعترة الطاهرة (عليهم السلام)، وشديد المحبّة لهم، ومن مآثرهِ التي شاهدتها منه: أنّه كان يحيي مجلسين مختصرين في منزله الصغير المتواضع([9])، أحدهما في ذكرى شهادة الصديقة الشهيدة (صلوات الله وسلامه عليها)، والآخر في ذكرى عيد الغدير الأغرّ، وكان يطعم الطعام فيهما، ويوزّع الهدايا في الثاني.
وأتذكّر أنّه لمّا تناهى إلى مسامعهِ خبر (مشهد أردهال) –والمأساة الفادحة لمولانا الشهيد السيد علي بن الإمام الباقر (عليهما السلام)– أخذَ يحثّنا على زيارته، فتشرّفنا بالذهاب بصحبته –مع بعض الإخوة الأعزّاء– إلى تلك البقعة الطاهرة، وكان له في طريق الذهاب –الذي يطول قرابة ساعة وثلث– بحثٌ ماتعٌ حول مسألة سهو النبي (صلى الله عليه وآله)، حيثُ كنتُ أقرأ له ما كتبه أحد الأعلام حول هذه المسألة، وكان (طابَ ثراه) يصغي ويعلِّق ويُناقش.
ونظرًا لشدّة علاقتهِ بالمعصومين (عليهم السلام) فقد كان محلًا لعنايتهم، ولطف كرامتهم، وسوف أنقل عنه ها هنا ثلاث قضايا:
أ– القضيّة الأولى: كنتُ بخدمتهِ في يومٍ من الأيّام، فقال لي: لقد بلغني أنَّ أحد المشائخ من جاليتكم ينكر أفضلية تربة كربلاء؟! فلمّا أجبته بصحّة ما بلغه قال لي: ألا تستطيع أن تأتي به إليَّ لأعرّفه ما هي تربة الحسين (عليه السلام)؟! قال ذلك ثمَّ أخذته غمرةٌ من البكاء، فلما هدأ بدأ يتحدّث عن فضل التربة الحسينية وعظمتها، وانجرَّ الحديث إلى كرامةٍ شريفة حصلت له، فقال: إنني لمّا بُترت رجلي كنتُ حينها في النجف الأشرف، وقد تسبّب بترها –نظرًا للإهمال الطبّي آنذاك، وضعف الرعاية الصحيّة– في نزف جسدي لدمٍ كثير جدًّا، أوشكتُ بسببهِ على الموت، ودخلتُ في حالة غيبوبة لمدّة أربعة أيام، فما كان من أهلي إلا أن أخذوني إلى أحد مستشفيات بغداد، نظرًا لكونها من تلك الجهات متقدّمة على النجف الأشرف، ولكن بمجرد أن رآني الطبيب قال لأهلي: هذا في عداد الأموات، وليس يمكن علاجه، فخذوه من هنا.
وبما أنَّ الحوزة في النجف الأشرف قد تقلَّص حينها –بسبب البطش البعثي– عددُ أفرادها، وكان أهلها كالأسرة الواحدة، فقد انتشر بينهم خبر أزمتي الصحيّة، ولمّا انتهى هذا الخبر إلى مسامع المرجع المقدّس السيد السبزواري (أعلى الله درجته) بعث لي بشيءٍ من تربة سيد الشهداء (عليه السلام)، وأمرَ أن تُوضع في فمي[10]، فما وُضِعت التربة الشريفة في فمي حتى أفقتُ من الإغماء –بشكلٍ جزئي– فورًا وفي نفس اللحظة، وتحسّن حالي بعدها شيئًا فشيئًا.
ب– القضيّة الثانية: حدّثني الأستاذ (طيب الله ثراه)، فقال: أُجريت لي عملية جراحية في البروستات لأجل استئصال ورمٍ منها، وبعد أن أفقتُ من العملية جاءني الطبيب الجرَّاح الذي قامَ بإجرائها، لأجل تفقّد أحوالي والاطمئنان على سلامتي، وسألني قائلًا: ما هو العمل الذي قمتَ به لأجل نجاح العملية؟ يقول: فقلت له: لم أصنع شيئًا. فتعجّب وقال: لا يمكن ذلك!! فقلت له: ولماذا؟ فقال: لأنَّ أمرًا عجيبًا قد حصل أثناء العملية، ولا شك أنَّ له سببًا غير طبيعي. فقلت له: وما هو؟ فقال: إنَّ الورم الذي كنّا نريد استئصاله بالعملية كان يقع في منطقة صعبة من البروستات، ولكننا حين فتحنا الموضع فُوجئنا بأنَّ الورم قد تحرَّك من موضعه، وصار في متناول أيدينا، وكأنه يقول: ها أنا طوع أمركم، فأزيلوني وخلِّصوا الشيخ مني، وقد استأصلناه بسهولة وفي مدة قياسية، وتعجّبنا وقلنا: إنَّ هذا الشيخ من أهل العلم والدين، فلا بدَّ أن يكون قد صنع شيئًا، ليتحقّق هذا الأثر. ولكنَّ سماحة الشيخ الأستاذ أصرَّ على كلامه السابق، وقال: لم أصنع شيئًا!!
يقول الشيخ الأستاذ (طيب الله ثراه): فلمَّا جاء الأهل لزيارتي أخبرتهم بما قاله لي الطبيب، فقالوا لي: نعم، أنتَ لم تصنع شيئًا، ولكننا نحن ساعةَ إدخالك إلى غرفة العمليات قد صنعنا شيئًا، فقلت لهم: وماذا صنعتم؟ قالوا: لقد أقمنا سفرة أم البنين (عليها السلام)، وهذا الذي يتحدّث عنه الطبيب إنما هو من بركاتها. فسلام الله على السيدة الطاهرة أم البنين (عليها السلام)، ورزقنا شفاعتها، وقضى حوائجنا بحقّها.
ج– القضية الثالثة: يقول (طيّب الله تربته): إنه في إحدى السنوات قد سافرَ من النجف الأشرف إلى خراسان لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام)[11] برفقة المرحومة والدته، ولمّا قدم إلى مشهد شاع بين علماء مشهد وطلبة العلم أنَّ مدرِّسًا للسطح العالي في النجف الأشرف قد جاء إلى مشهد، فكان ذلك يقتضي أن يزوره علماء مشهد وكبار الفضلاء فيها، طبقًا للعادة الجارية.
وكان (قُدّس سرّه) ينزل في بيتٍ معروف كلّما وفد إلى مشهد، وكانت تقام في هذا البيت مجالس العزاء على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) في ليالي الجمعة، وبما أنّه قد اتّفق وروده إلى مشهد قريبًا من ليلة الجمعة فقد تأهّب في تلك الليلة لاستقبال زائريه، وصادف أنه لم يكن من أحدٍ يقوم بخدمة المستمعين إلا صاحب البيت فقط.
يقول (قُدّس سره): فجاء المستمعون، ولم يكن هنالك من يقدِّم الشاي لهم ويقوم بخدمتهم، فوجدتُ أنَّ الوظيفة منوطة بي؛ لأنني بمثابة الولد لصاحب البيت، غيرَ أنني كنتُ أفكّر بيني وبين نفسي في أنني إذا قمتُ بهذا العمل، لعلّه يؤثر على نظرة الحاضرين لعلماء النجف وفضلائها، بتوهُّم أنّهم لا يلتزمون بالآداب والأعراف، وهذا ما قد يتسبّب في الإساءة لحوزة العلم، ولكنني خاطبتُ نفسي وقلتُ: إنَّ هذه وساوس شيطانية، ولا شرف أعظم من شرف خدمة الحسين (عليه السلام)، وحينها أخذتُ الشاي وصرت أوزِّعه على الحاضرين.
وفي نفس الليلة حصلت له حالة كشف بين اليقظة والمنام، فرأى جنازة محمولة على الأكتاف، وهو كان يتبعها ولكن على أكتاف مشيّعيها، إلى أن وصلوا بها إلى الحرم الشريف وطافوا بها حول ضريح الإمام الرؤوف (عليه السلام)، ثمّ أخذوها إلى القبر، وهو ينظر إليها، فلمّا وضعوها في مثواها الأخير شعر بقوّة من خلفه تدفعه نحوها، فلما صار معها داخل القبر علم أنَّ تلك الجنازة كانت جنازته، فأصيب بالدهشة والحيرة، وكان كلُّ أسفه على والدتهِ التي خلَّفها بمفردها.
وحينها جاءه الملكان العظيمان، يقول: فأجلساني وقالا: أأنت هادي العسكري أستاذ السطح العالي في النجف الأشرف؟ فقلت: نعم، فقالا: إذًا نمتحنك فيما تدرِّس، ثمَّ سألاني مسائل حول المواضع الدقيقة من كتاب الكفاية والمكاسب.
وكان الشيخ الأستاذ يُعلِّق ها هنا –والدموع تملأ عينيه– فيقول: لعلّهما كانا يريدان القول: “في هذا المقام يتبيّن مدّعي العلم من غيره”.
وبعد أن أجابهما قبلا إجابته، ثمَّ قالا له: حان الآن وقتُ سؤالك عن عملك الصالح والسيِّئ، وكان أحدهما هو مَن يتولّى طرح الأسئلة والآخر هو مَن يتولّى تدوين الإجابات، فقال الثاني للأوّل: لقد نفد الحبر مني، يقول الشيخُ (قُدّس سرّه): فقلتُ لهما: أعطياني فرصة للخروج وأنا أحضر الحبر لكما، وكان هدفي –بالإضافة إلى إحضار الحبر– هو الاطمئنان على والدتي، ولمّا أذنا وخرجتُ من القبر رأيتُ جميع سواقي الماء الموجودة على أطراف الشوارع خالية من الماء ومتصحِّرة، ولمّا وصلت إلى البيت الذي كنتُ ساكنًا فيه ذهبتُ مباشرة إلى حوض الماء فوجدته أيضًا خاليًا من الماء، حينها بقيت متحيِّرًا، فحانت مني التفاتة إلى حثالة الشاي الذي تمَّ توزيعه في مجلس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام)، وكانت ملقاة على باب المجلس، وبها رطوبة متبقية، فأخذتُ منها ليكون حبرًا.
يقول: وقبل انصرافي من داخل المكان الذي انعقد فيه المجلس الحسيني سمعتُ صوتًا يناديني –وفي خلدي أنّه صوت الحسين (عليه السلام)–: (هذا يكفيك يا شيخ هادي، فو الله لا يكتبان لك سيئة إلا ستغدو حسنة)، وقد كرَّرها ثلاثًا، وفي هذا الموضع تمّت حالة الكشف التي حصلت للشيخ الأستاذ بين النوم واليقظة.
وقد علَّق عليها فقال: (إنَّ حثالة الشاي أمر مزهود فيه، وقد رُميَ على الأرض، ولكن لأنّه لا زال مرتبطًا بالحسين “عليه السلام” فقد كانت له قابلية أن يصنع أعظم شيء، وهو تصيير السيئات حسنات).
إلى الرفيق الأعلى:
لمّا انتهى (طيّب الله ثراه) من إحدى جلسات غسيل الكلى افتقد الشخص الذي كان يقوم بمساعدته للانتقال من كرسيّه المتحرّك إلى كرسيّ الغسيل والعكس، فما كان منه –بعد أن طال انتظاره، وهو ذو النفس العزيزة جدًّا– إلّا أن حاول الاعتماد على نفسه، ولكنّه لمّا لم يستطع التوازن فقد سقط وارتطم رأسه بالأرض، وأصيبَ من فورهِ بنزيفٍ داخلي لم تظهر عليه آثاره إلا في اليوم التالي، ونُقل على إثر ذلك إلى المستشفى، وفقد القدرة على النطق والكلام، ولمّا بلغني الخبر ذهبتُ إلى عيادته، وتشرّفتُ بمصافحتهِ والسلام عليه، فعلَّمني بقسمات وجهه الشريف درسًا جديدًا من دروس الصبر والرضا، وهكذا هم عباد الله الصالحون وأولياؤه الأبرار.
وقد فارقتُه قبيل شهر عاشوراء وهو على هذا الحال، ولكنّه بقي يسوء وضعه يومًا بعد يوم، فما رجعتُ بعد شهري وصفر إلى قمِّ المقدّسة إلا وقد دخل في غيبوبة تامة، ولم يمكن التشرّف بعيادته، وما هي إلا بضعة أيام حتى اتّصل بي أحد الأصدقاء وأبلغني بخبر رحيله المفجع، وذهبتُ ليلتها برفقة بعض الأصدقاء إلى بيته، فوجدنا مجموعة من أهله ومحبّيه من العلماء وغيرهم قد اجتمعوا هناك، وكان الوجوم والأسى يغمران المكان، وما إن شرع صديقنا العزيز فضيلة الشيخ محمد النويس التاروتي (دام توفيقه) بقراءة مجلس حسيني حتى انفجر المكان بالبكاء.
وتمَّ الإعلان عن تشييعهِ في صباح اليوم التالي، فشُيِّعَ –بعد أن صلّى عليه سماحة السيّد علي الميلاني (دام تأييده)– من حسينية الإمام الرضا (عليه السلام) الواقعة في محلة گزرخان، باتجاه الحرم الشريف فمقبرة شيخان، حيث مثواه الأخير، وقد تشرّفتُ بتلقينه وعزَّ عليَّ ذلك، ولكنّني أرجو بذلك أن أكون قد أدّيتُ حقًّا من حقوقهِ الكثيرة.
وكانت وفاته ورحيله إلى جوار ربه في اليوم الثاني عشر –وأظنّه كان يوم الخميس– من شهر ربيع الأول سنة ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين من الهجرة النبوية المباركة، فسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم مات ويوم يُبعث حيًّا.
مع الشيخ الأستاذ في عالم الرؤيا:
لستُ من أهل الرؤيا، ولكن الله تعالى قد شاء أن يعرّفني مقام هذا الشيخ الجليل بعد موته، كما عرّفني إياه في حياته، فرأيتُه في أولِّ ليلة بعد وفاته –وقبل أن يوارى الثرى في صباحها– وكأنّه قد اتصل بي تلفونيًّا من المستشفى، فلمّا سمعتُ صوته ابتهجتُ بذلك كثيرًا، وصرتُ أسأل عن أحواله، فأجابني بعبارةٍ كرّرها ثلاثًا، وهي: (لقد خلَّصني جعفر)، وكان يردِّدها وملؤه الفرح والبهجة.
ثمَّ بعدها بمدة رأيتُ مرَّة أخرى كأنني قد ذهبتُ لزيارة قبره الشريف، غير أنَّ المكان كان مختلفًا عن المكان الذي دُفن فيه، إذ أنَّ قبره في مكان مكشوف من مقبرة شيخان، بينما الذي رأيته في الرؤيا كان في غرفة واسعة وعالية ومزيّنة بالأقواس، وكان القبر مرتفعًا جدًا، بحيث أنَّ الجالس في أحد جانبيه لا يرى الجالس في الجانب الآخر، فلمّا جلستُ بجانب القبر أقرأ بعض ما تيسّر من القرآن الكريم، لفتَ نظري أنَّ هنالك ثمّة شخصًا موكَّلًا برعاية القبر، فعجبتُ من ذلك! وحاولتُ أنْ أعرف مَن يكون ذلك الشخص، فقيل لي: إنّه نبي الله يحيى بن زكريا (عليه السلام)، وقد زادَ هذا من تعجّبي، وبينما أنا في دوامة تعجّبي وتفكيري في أمر الشيخ الأستاذ (طابَ مثواه) وما أُعطيَ من المنزلة الجليلة، وإذا بشخصين جليلين قد جاءا لزيارة قبره الشريف، فرأيتُ من إجلال يحيى بن زكريا لهما ما زاد من تعجّبي أكثر وأكثر، ثمَّ إنهما قد أخذا الجانب الآخر من القبر وجلسا عنده، بحيث صرتُ لا أراهما، فما كان مني إلا أن قصدتُ نبي الله يحيى (عليه السلام) لأسأله عن الرجلين العظيمين، فأجابني بما بلغ بتعجّبي منتهاه، وقال: إنَّهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحفيده السيد الأزهر علي الأكبر (عليه السلام)، وحينها جلستُ من الرؤيا وأنا في غاية التعجّب.
وعند هذه الرؤيا أختم هذه السطور، وأرجو أنني من خلالها قد أدّيتُ بعض حقوق الشيخ الأستاذ (طابَ ثراه)، سائلًا من الله تعالى له علوّ الدرجات عند أوليائه الطاهرين (عليهم السلام)، ولنا الخلف والعوض الصالحين، بحقّ الحسين وآل الحسين (عليهم السلام).
الهوامش:
[1] قال شيخ الذريعة (أعلى الله مقامه) في (نقباء البشر في القرن الرابع عشر) 4 / 1659: (وبما أنَّ ولادته كانت في سامراء – مشهد الإمام الهادي والعسكري “عليهما السلام” – يُعبِّر عن نفسه بـ هادي العسكري)، وما أفاده صحيحٌ في الجملة، فإنه قد لقَّبَ نفسه بـ (العسكري) انتسابًا لمشهد الإمامين العسكريين (عليهما السلام)، ولكن لا لأجل ولادته في سامراء، وإنما لأجل نشأته فيها، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.
[2] نقباء الشر في القرن الرابع عشر: 4 / 1659.
[3] توفي (أعلى الله مقامه) في سامراء بتاريخ الثالث من شهر جمادى الأولى من سنة ثمانية وستين من الهجرة، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف، ودفن في الحجرة الثالثة غربي مقبرة السيد اليزدي (قُدِّس سرُّه) من جهة باب الطوسي.
[4] نقباء البشر في القرن الرابع عشر: 4 / 1659.
[5] نقباء البشر في القرن الرابع عشر: 4 / 1661.
[6] ترجمه الحجّة العظيم الشيخ آغا بزرك الطهراني (قُدّس سره) في (طبقات أعلام الشيعة) 17 / 302 فقال: (هو الشيخ ميرزا محمود بن الحاج محمد إبراهيم بن محمد رفيع الشيرازي، عالم كامل، مدرّس جليل. ولد بشيراز 9 ربيع الأوّل سنة 1291هـ، أخذ الآليات من أوائل أمره في شيراز، وهاجر إلى العتبات سنة 1321هـ، وتتلمذ على الآيتين: الخراساني واليزدي، وبعثه آية الله الإصفهاني إلى سامرّاء سنة 1353هـ، وهو مدرس بها، وكان يصلّي جماعة أيضًا، وتمرّض بها أخيرًا فتشرف بالنجف للعلاج، وبقي مريضًا إلى ستة أشهر، وتوفي بها ليلة السبت السابع عشر من شوال سنة 1378هـ، ودفن في الحجرة الثانية من المغرب من جهة الشمال، له: حاشية خلاصة الحساب، حاشية كفاية الأصول، حاشية المكاسب، حاشية الهيئة للقوشجي).
[7] وهنا أمرٌ قد لفت نظري وأنا أخطُّ هذه السطور، وهو أنَّ للشيخ (طاب ثراه) ترجمة مختصرة قد كتبها بقلمهِ الشريف، تلبية لطلب شبكة رافد الإلكترونية؛ إذ أنَّ السائلين كانوا يطلبون التعرّف على هوية المتصدّين للإجابة فيها، والملفت أنّه قد كتبها في يوم الأربعاء التاسع من شهر ذي القعدة الحرام من سنة ألف وأربعمائة واثنين وعشرين من الهجرة، وقال في آخرها: (وأنا منذ سنوات أنتظر بالآنات واللحظات، وأترقّب الدقائق والساعات، ما أنا موعود به من عمل أقوم فيه بإطلاق المساجين وبشارة المسلمين وفرح المؤمنين ويوم عيد للعراقيين، فانتظروا أيها المسلمون إنّا منتظرون، وارتقبوا أيها المؤمنون إنّا مرتقبون، وسوف يرى بل سيرى وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة والنصر لنا أيها المحبّون)، ولم يكن بين هذه الكتابة وبين تحقّق النبوءة التي جاءت فيها إلا سنة وأشهر، حيث سقط النظام البعثي في النصف من شهر صفر سنة 1424هـ، ولعلَّ هذا هو ما يفسّر إضرابه (قدّس سره) عن استخدام سوف إلى استخدام السين، وأما قوله: (ما أنا موعودٌ به) فهو لغزٌ لا يعلمه سواه إلا خالقه تعالى وأولياؤه (عليهم السلام).
[8] صاحب موسوعة (الواضح في شرح العروة الوثقى)، تقريرًا لأبحاث سيّد الطائفة السيّد الخوئي (قدّس سرّه)، وقد طُبِع منها حتى الآن ما يناهز العشرين مجلّدًا من الحجم الكبير.
[9] ولم يكن هذا المنزل ملكًا له، وإنما هيّأه له سماحة السيد جواد الشهرستاني (حفظه الله) بأمرٍ من مرجع الطائفة الأعلى السيد السيستاني (دام ظله الشريف)، فإنه لمعرفتهِ بمقام الشيخ الأستاذ ولزوم إجلاله كان قد أوصى صهره الجواد بالقيام بشؤون الشيخ وتوفير أسباب الراحة له، وفي ذهني أنّه قد عرضَ عليه مجموعة من البيوت، ولكنَّ الأستاذ قد اختار أصغرها وأقدمها.
[10] أتذكّر أنني سألتُ الشيخ الأستاذ (طاب ثراه) حينها: وهل كانت تربطكم بالسيد السبزواري (قُدّس سره) علاقة أوجبت هذه العناية منه؟ فقال: أبدًا، لم تكن هنالك بيننا أيّة علاقة سوى العلاقة العامة.
[11] تشرَّف (رضوان الله تعالى عليه) بزيارة الإمام الرضا (عليه السلام والتحيّة) مرارًا عديدة، وكانت أولاها سنة 1370 من الهجرة، وقد مكث في جواره (عليه السلام) ثلاثة أشهر، كما تشرّف بالذهاب إلى الحج مرتين، إحداهما سنة إحدى وثمانين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية الشريفة، والأخرى سنة إحدى وتسعين.