بسم الله الرحمن الرحيم
“اللهم صلِّ على فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسر المستودع فيها، بعدد ما أحاط به علمك”
مقدمات البحث:
للاقتراب من معنى الفقرة الواردة في زيارة الصديقة الزهراء (عليها السلام) – التي رواها السيد ابن طاووس (قده) في الإقبال – وهي: (وأرخيتَ دونها حجاب النبوة)، نحتاج للتقديم خمس مقدمات:
1/ المقدمة الأولى: إنَّ الفقرة واردة في مقام مدح الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وبيان عظيم شأنها، وما تتصف به من الجلال والجمال، وهذه القرينة المقامية تقتضي – كما هو ظاهر – حمل الفقرة على المدح والتعظيم.
وهذه المقدمة تمنع من قبول بعض التفسيرات التي تقلّل من شأن سيدة النساء (عليها السلام)، نظير أن يقال: إنَّ المقصود بالفقرة الشريفة هو أنَّ الله تعالى قد أرخى حجاباً بينها وبين الأنبياء (عليهم السلام)، فلا تبلغ مبلغهم ولا تنال درجتهم، وإنما نرفض هذا التفسير لأنه خلاف ما يقتضيه مقام المدح والثناء.
2/ المقدمة الثانية: إنَّ مقام النبوة دون مقامات الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام)، وتدل على ذلك الكثير من الأحاديث الشريفة، ويكفي منها الحديث القطعي: (فاطمة بضعة مني)، كما قد تمَّ إيضاحه في محله.
وعلى ضوء هذه المقدمة يلزم توجيه الفقرة المذكورة بما ينسجم مع هذا المقام، ولا يصح توجيهها بما يستلزم إنزالها (عليها السلام) عن هذه الدرجة التي أنزلها الله تعالى فيها.
3/ المقدمة الثالثة: إنَّ الفقرة قد اشتملت على أربع مفردات تحتاج للتنبّه لمعانيها، وهي:
- المفردة الأولى: (وأرخيت)، وهي تحتمل في المقام معنيين:
- المعنى الأول: الإسدال، كما في (أرخى الستار) بمعنى أسدله.
- المعنى الثاني: الإرخاء في قبال الشّد، كما في (أرخى الحبل) بمعنى ترك شده.
- المفردة الثاني: (حجاب)، وهي بمعنى (الستر).
- المفردة الثالثة: (النبوة)، وهي تحتمل احتمالين:
- الاحتمال الأول: النبوة العامة، وهي الثابتة لجميع الأنبياء (عليهم السلام).
- الاحتمال الثاني: النبوة الخاتمة، وهي المختصة بالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله).
- المفردة الرابعة: (دونها)، وهي ظرف مكان منصوب، ويتحدد معناه بحسَب ما يُضاف إليه، فقد يكون بمعنى تحت، كقولك: دون قَدمِك بِساط، وقد يكون بمعنى فوق، نحو: السماءُ دونك، وقد يكون بمعنى خَلْف، نحو: جَلس دونه، وقد يكون بمعنى أمام، نحو: مشى دونه، وقد يكون بمعنى أدنى وأقل، كما في الحديث: (من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس)، وقد يكون بمعنى غير، كما في قوله تعالى: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير)، وقد يكون بمعنى قبل، كما يحتمل في قولهم: دونه خرط القتاد، وقد يكون بمعنى البينونة بين شيئين، كما في (حالوا دون هدفه) أي: حالوا بينه وبين هدفه.
4/ المقدمة الرابعة: إنَّ الجملة التركيبية (حجاب النبوة) تحتمل احتمالين:
الاحتمال الأول: إنها من قبيل إضافة الشيء إلى نفسه، فحجاب النبوة هو نفس النبوة، باعتبارها حجاباً يحجب سائر الناس عن البلوغ إلى درجة الأنبياء (عليهم السلام).
الاحتمال الثاني: أنها من قبيل إضافة الشيء إلى غيره، فالنبوة شيء وحجابها شيء آخر، وفائدة هذه الإضافة في مثل المقام هي التخصيص؛ إذ أنَّ الحجاب عام، وقد أُضيف للنبوة لأجل إفادة أنَّ الحجاب المرخى ليس هو مطلق الحجاب، وإنما هو خصوص حجاب النبوة.
5/ المقدمة الخامسة: إنَّ وجود الحجاب – بمعنى الستر – يقتضي وجود محجوب ومحجوب عنه، أو فقل: وجود مستور ومستور عنه.
عرض المعاني المحتملة:
وإذا أحطنا بهذه المقدمات نقول: إنَّ الفقرة الشريفة تحتمل احتمالات ستة:
1/ الاحتمال الأول: أن تكون مفردةُ (أرخيت) بمعناها الأول – وهو الإسدال – ومفردةُ (دونها) بمعنى أدنى وأقل منها، ومفردةُ (النبوة) بمعنى النبوة العامة، والإضافةُ في الجملة التركيبية من قبيل إضافة الشيء إلى غيره، فيكون معنى الفقرة المذكورة: أنَّ ستر النبوة الذي حجب الله تعالى به مقام النبوة عن أن يصل إليه غير أنبيائه (عليهم السلام) قد أسدله دون سيدة النساء (عليها السلام) وأدنى منها، ولازم هذا المعنى أنَّ حجاب النبوة حجاب لغيرها عليها السلام، ولكنّه ليس حجاباً لها؛ لأنه أدنى وأقل منها.
ولا يكاد يختلف المعنى كثيراً فيما لو كانت الإضافة هنا من قبيل إضافة الشيء إلى نفسه، فتأمل.
2/ الاحتمال الثاني: نفس المعنى السابق، مع فارق أنَّ مفردة (دونها) بمعنى فوقها وعليها، ومفردةُ (النبوة) بمعنى النبوة العامة، والإضافةُ في الجملة التركيبية من قبيل إضافة الشيء إلى غيره، فيكون معنى الفقرة المذكورة: أنَّ ستر النبوة العامة الذي حجب الله تعالى به مقام النبوة عن أن يصل إليه غير أنبيائه (عليهم السلام)، قد أسدله على سيدة النساء (عليها السلام) وأرخاه عليها، ومؤدى هذا الاحتمال أنَّ نفس الستر الذي يحول بين جميع الناس وبلوغ مقام الأنبياء (عليهما السلام) قد أسدله الله تعالى على الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، فهو يحول بين الناس وبينها (عليها السلام).
وهذا يستلزم أن تكون لها من المقامات والكمالات ما للأنبياء (عليهم السلام) بمقتضى نبوتهم؛ إذ لو لم تكن لها هذه المقامات المائزة بينها وبين الناس لم يكن هنالك أي معنى لتجليلها بحجاب النبوة.
3/ الاحتمال الثالث: نفس المعنى السابق، مع فارق أنَّ مفردة (النبوة) بمعنى النبوة الخاتمة، فيكون معنى الفقرة المذكورة أنَّ ستر النبوة الخاتمة الذي حجب الله تعالى به مقام النبوة الخاتمة عن أن يصل إليه غير النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أسدله على سيدة النساء (عليها السلام) وأرخاه عليها، ومؤدى هذا أنَّ نفس الستر الذي يحول بين جميع الأنبياء وبلوغ مقام النبي (صلى الله عليه وآله) قد أسدله الله تعالى على الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، فهو حجاب بين الأنبياء وبينها (عليها السلام).
وهذا يستلزم أن تكون لها من المقامات والكمالات ما لأبيها (صلى الله عليه وآله) بمقتضى خاتميته؛ إذ لو لم تكن لها هذه المقامات المائزة بينها وبين الأنبياء (عليهم السلام) لم يكن أي معنى لتجليلها بحجاب النبوة الخاتمة.
4/ الاحتمال الرابع: أن تكون مفردةُ (أرخيت) بمعناها الثاني، ومفردةُ (دونها) بمعنى (أمامها)، ومفردةُ (النبوة) بمعنى النبوة العامة، والإضافةُ في الجملة التركيبية من قبيل إضافة الشيء إلى غيره، فيكون معنى الفقرة المذكورة: أنَّ ستر النبوة الذي حجب الله تعالى به مقام النبوة عن أن يصل إليه غير رسله وأنبيائه (عليهم السلام)، قد أرخاه أمام الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام)، فلم يبقَ بينها وبين النبوة حجاب.
ولو قيل: إنَّ لازم بلوغ الزهراء (عليها السلام) إلى مقام النبوة – كما هو مفاد هذا الاحتمال – هو ثبوت مقام النبوة لها، وهو مما قام الدليل على عدمه.
قلنا: لا ملازمة بين بلوغ المقام وثبوته؛ فإنَّ البلوغ يعبّر عن رتبة الاقتضاء بينما الثبوت يعبّر عن رتبة الفعلية، ومن المعلوم عدم التلازم بين الرتبتين، نظراً لتوسط تحقق الشروط وعدم الموانع بينهما.
5/ الاحتمال الخامس: نفس المعنى السابق، مع الالتزام بأنَّ الإضافة في الفقرة من قبيل (إضافة الشيء إلى نفسه)؛ وسيكون معنى الفقرة حينئذ: أنَّ النبوة التي تحجب الناس عن البلوغ إلى مقام الأنبياء (عليهم السلام)، قد أرخاها الله تعالى دون سيدة النساء (عليها السلام)، فلا حجاب يحجبها عن البلوغ إلى مقامات الأنبياء وكمالاتهم.
6/ الاحتمال السادس: نفس المعنى السابق أيضاً، مع فارق أنَّ مفردة (النبوة) هنا بمعنى النبوة الخاتمة، فيكون معنى الفقرة المذكورة بناءً على أنَّ الإضافة في الجملة التركيبية من قبيل إضافة الشيء إلى غيره هو: أنّ الستر الذي يحول دون الوصول إلى مقام النبوة الخاتمة قد أرخاه الله تعالى أمام السيدة الزهراء (عليها السلام)، فبلغت المقام الذي لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ترجيح الاحتمال الأظهر:
وبعد عرض هذه الاحتمالات الستة يحسن بنا بيان الاحتمال الأرجح، فنقول: إنَّ مفردة الإرخاء بقرينة تعلقها بالحجاب ظاهرة في المعنى الأول، وهو الإسدال، كما أنَّ مفردة (دونها) – بقرينة أنَّ المرخى هو الحجاب، والحجاب يقتضي وجود محجوب ومحجوب عنه – ظاهرة في البينونة بين شيئين، نظير ما جاء في خطبة الزهراء (عليه السلام): (فنيطت دونها ملاءة)، أي: أنيطت بينها وبين القوم ملاءة، وكذا يُقال في المقام؛ فإنَّ إرخاء حجاب النبوة دونها يعني أنَّ حجاب النبوة قد تمَّ إسداله بينها (عليها السلام) وبين غيرها، وإنما الكلام في تحديد المحجوب والمحجوب عنه.
ولا شك أنَّ الصديقة الزهراء (عليها السلام) ليست هي المحجوبة، والمحجوب عنها هم الأنبياء (عليهم السلام)؛ فإنَّ القرينة التي ذكرناها ضمن المقدمتين الأوليين تمنع من هذا الاحتمال.
وإنما هي المحجوبة عن غيرها، وغيرها هم المحجوبون عنها، ويتمُّ تحديد هؤلاء المحجوبين من خلال تحديد حجاب النبوة، فإن كان يراد به حجاب النبوة العامة، كان المحجوبون عنها هم سائر الناس، وإن كان يراد به حجاب النبوة الخاتمة كان المحجوبون عنها سائر الرسل والأنبياء (عليهم السلام) باستثناء أبيها (صلى الله عليه وآله)، ويظهر أن هذا الاحتمال هو الأوجه، بمقتضى القرائن الداخلية والخارجية التي تحف به.
والمقصود من القرينة الخارجية: ما دل على بضعيتها للنبي صلى الله عليه وآله، وأنها روحه التي بين جنبيها، وأنها أم أبيها، وغير ذلك مما يدل على أن حقيقتها عين الحقيقة المحمدية، وهذا يقتضي أن يكون الحجاب الحاجب لأبيها (صلى الله عليه وآله) حاجباً لها، وليس هو إلا حجاب النبوة الخاتمة.
وأما القرينة الداخلية المستفادة من نفس نص الزيارة، فهي عبارة عن قرينتين:
القرينة الأولى: ورود الفقرة – محل الكلام – في سياق فقرات تربط بين الزهراء وأبيها (عليهما السلام) حيث تقول: (وصَلِّ عَلَى الْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ الصِّدِّيقَةِ الْمَعْصُومَةِ… فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِكَ، وبَضْعَةِ لَحْمِهِ وَصَمِيمِ قَلْبِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَالنُّخْبَةِ مِنْكَ لَهُ، وَالتُّحْفَةِ خَصَصْتَ بِهَا وَصِيَّهُ، وَحَبِيبَةِ الْمُصْطَفَى، وَقَرِينَةِ الْمُرْتَضَى، وَسَيِّدَةِ النِّسَاءِ، وَمُبَشَّرَةِ الْأَوْلِيَاءِ، حَلِيفَةِ الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ، وَتُفَّاحَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالْخُلْدِ، الَّتِي شَرَّفْتَ مَوْلِدَهَا بِنَسَاءِ الْجَنَّةِ، وَسَلَلْتَ مِنْهَا أَنْوَارَ الْأَئِمَّةِ، وَأَرْخَيْتَ دُونَهَا حِجَابَ النُّبُوَّةِ)، فإنّ هذا السياق المتسلسل يقرب أنّ الألف واللام في (النبوة) ظاهرة في العهدية، وأنّ المعهود هي نبوة من تقدم الحديث عنه قريباً، وربطت الزيارة بين المزورة عليها السلام وبينه صلى الله عليه وآله.
القرينة الثانية: المقابلة بين النبوة والإمامة، حيث قالت الزيارة: (وسللت منها أنوار الأئمة، وأرخيت دونها حجاب النبوة) فإنّ النبوة التي تقابل الإمامة ليست هي النبوة العامة، وإنما هي النبوة الخاتمة، كما لا يخفى.
فيتحصل من جميع ما ذكرناه: أن المقصود من الفقرة الشريفة هو أنّ الله تعالى شأنه قد أسدل بين الصديقة الطاهرة عليها السلام وبين جميع الخلق – بما فيهم الأنبياء عليهم السلام – حجاب النبوة الخاتمة، فجميعهم محجوبون عن الرقي إليها، وليس هذا الحجاب سوى ما يختص بالنبوة الخاتمة من الشؤون والخصائص والكمالات والمقامات.
ويعضّد ذلك: ما ورد في بعض النصوص الشريفة من أنها عليها السلام إنما سميّت فاطمة لأنّ الخلق قد فطموا عن معرفتها.
هذا ما خطر في الذهن الفاتر والنظر القاصر، وكل رجائي أن تغفر لي مولاتي روحي فداها قصوري وتقصيري في سبيل معرفتها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.