بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين .
أُثير أخيراً – وهذه الإثارة ليست بالجديدة – أنّ السيدة أم البنين ( عليها السلام ) لم تكن موجودة بعد واقعة كربلاء ، وبالتالي فإنّ كل ما يذكره الخطباءُ الكرام مِن أحداثٍ ترتبط بها بعد الواقعة مما لا واقع له .
ولكنّ الصحيح أنّ هذه الإثارة مجانبة للصواب ، وأنّ الصحيح هو وجودها ( عليها السلام ) بعد واقعة الطف ، كما هو القول المشهور المعروف بين عموم الشيعة ( أعزّهم الله تعالى ) ، وهو ما تثبته العديد من المصادر التاريخية القديمة .
ومن جملة المصادر الموغلة في القدم التي وثّقت وجودها بعد الواقعة المصدران التاليان :
أ – الأول : كتاب الفخري ، المعروف بالأمالي الخميسية ، لأبي الحسين يحيى بن أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، المتوفى سنة ٤٧٧ هجرية ، فقد روى في الصفحة ٢٢٩ من الجزء الأول عن الحسن بن خضر ، قال : ( قال أبي : وهؤلاء الثلاثة بنو أم جعفر ، وهي الكلابية ، وهي أم البنين .
قال الحسن : قال أبي : بلغني عن جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال : بُكي الحسين عليه السلام خمسَ حجج ، وكانت أمّ جعفر الكلابية تندب الحسين عليه السلام وتبكيه ، وقد كُفّ بصرها ) .
ب – الثاني : كتاب ( مقاتل الطالبيين ) لأبي الفرج الأصفهاني المتوفى سنة ٣٥٦ هجرية .
فقد روى – في الصفحة : ٥٦ – بسنده عن ( علي بن محمد بن حمزة ، عن النوفلي ، عن حماد بن عيسى الجهني ، عن معاوية بن عمّار ، عن جعفر بن محمد ) أنها ( عليها السلام ) كانت تخرج إلى البقيع ، فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها ، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها .
ونحن وإن كنّا نعتقد بعدم حاجة القضايا التاريخية – في الجملة – إلى الاعتبار السندي ، ولكن مع ذلك فإنّ سند هذه القضية مما يمكن تصحيحه بالالتفات للنقاط التالية :
١ / النقطة الأولى : إنَّ الراوي الأول للقضية قد وقع نحوُ تصحيفٍ في اسمه تقديماً وتأخيراً ، فالصحيح أنه هو ( محمد بن علي بن حمزة العلوي ) ، وحمزة هذا هو بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ، ووجهُ هذا التصحيح يعود لعدة قرائن :
أ – الأولى : إنّ أبا الفرج قد ذكر في بداية كتابه المقاتل – ص ٨ – أنّ ( علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن الحسين بن الحسن بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام ) قد أخرج له كتاب عمه ( محمد بن علي بن حمزة ) وطلب منه أن يرويه عنه ، فقام أبو الفرج بكتابته عنه .
ب – الثانية : إنه اعتمد على كتابهِ هذا ، فكرّرَ الرواية عنه بالضبط المذكور – أي : بتقديم اسم محمد على اسم علي – في مواضع كثيرة من كتابه تناهز الثلاثين ، ولو ضممتَ لها ما نقله عنه في كتابه الآخر ( الأغاني ) لناهز العدد الخمسين ، بينما لم ينقل عن شخص باسم ( علي بن محمد بن حمزة ) في كتاب الأغاني شيئاً ، ولا في كتاب المقاتل إلا في هذا الموضع وموضع آخر ، مما يؤكد وقوع التقديم والتأخير في ضبطه .
ج – الثالثة : إنّ الراوي الواقع بعد الراوي الأول هو النوفلي ، والذي يروي عن النوفلي هو ( محمد بن علي بن حمزة العلوي ) ، ويشهد لذلك قول أبي الفرج في كتابه الأغاني – ١٥ / ٢٠٧ – ( ووجدت هذا الخبر أيضاً في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلوي ، عن علي بن محمد النوفلي ) .
د – الرابعة : أنّ ( محمد بن علي بن حمزة العلوي ) من مؤرخي الإمامية ، وقد ذكره الشيخ النجاشي في فهرست أسماء مصنفي الشيعة ص ٣٤٨ ، وذكر أنّ له كتاباً بعنوان ( مقاتل الطالبيين ) ، وهذا مما يقرّب كونه هو مَن يروي عنه أبو الفرج في المقام ، لكون القضية المذكورة قد نقلها في سياق نقله لمقتل أولاد أم البنين عليهم وعليها السلام والتحية ، فهي مناسبة لكتابه .
فاتضح – على ضوء هذه القرائن الأربع – أنّ الراوي الأول هو ( محمد بن علي بن حمزة العلوي ) ، وليس علي بن محمد بن حمزة .
وإذا عرفت ذلك ، فإنّ ( محمد بن علي بن حمزة ) ثقة جليل ، ولا أدلّ على ذلك من قول شيخنا النجاشي ” طاب ثراه ” عنه في رجاله – ص ٣٤٧ – ( ثقة ، عين في الحديث ، صحيح الاعتقاد ، له رواية عن أبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام ، واتصالُ مكاتبة ، وفي داره حُصّلت أم صاحب الأمر عليه السلام بعد وفاة الحسن عليه السلام ) .
٢ / النقطة الثانية : إنّ الراوي الثاني – الواقع في سند الرواية – هو النوفلي ، وهو وإن كان مشتركاً بين عدة من الرواة ، وبعضهم غير موثق ، إلا أنّ القرينة الثالثة المتقدمة تؤكد أنه ( علي بن محمد بن سليمان النوفلي ) ، كما أنّ أبا الفرج – في كتاب المقاتل – قد تكررت روايته عنه كثيراً بواسطةٍ أو واسطتين ، وهذا يقرّب أيضاً كونه هو الواقع في هذا السند ؛ لأنه في عداد هذه الطبقة دون غيره ممن يشترك معه في نفس اللقب .
وهذا الرجل قد يوثق على وفق عدّةٍ من المباني :
أ – المبنى الأول : كونه من أصحاب الكتب المعتمدة التي إليها المرجع وعليها المُعوّل ؛ إذ هو أحد مَن اعتمد الشيخ الصدوق ” طاب ثراه ” كتبهم في كتابه ( من لا يحضره الفقيه ) ، حيث روى عنه ، ثم ذكر طريقه إليه في مشيخة الفقيه .
ومن البعيد جداً أن يكون كتاب الرجل من الكتب المشهورة التي إليها المرجع وعليها المعول عند عموم الطائفة ، ولكنّ نفس المؤلف لا يكون ثقةً يُعتمد عليه .
ولا يخفى أنّ هذا المبنى الذي تبناه عدة من أعلام الطائفة – كالمجلسيين والمحدث النوري قدست أسرارهم – يعتمد على نكتة أنّ كلّ مَن ذكر الشيخ الصدوق طريقه إليه في المشيخة فإنه قد أخذ عن كتبه واعتمدها ، وقد يستظهرون التزامه بذلك من خلال مقدمة كتابه من لا يحضره الفقيه .
غير أنّ هذا المبنى قد صار محلاً للأخذ والرد عند المتأخرين ، وعمدةُ ما أُفيد في مناقشته : أنّ الشيخ الصدوق ” طاب ثراه ” في مشيخته قد ابتدأ بأسماء ما يقارب السبعين شخصاً ، ممن لا ذكر لهم في فهرسي الشيخ والنجاشي ” طاب ثراهما ” ، ومن البعيد جداً جداً أن تكون لهؤلاء السبعين كتب معتمدة عند الطائفة ولا يأتي الشيخان الطوسي والنجاشي على ذكرها أو ذكر بعضها – على أقل تقدير – في فهرسيهما المعدّين لرصد المصنفين من أعلام الطائفة .
وجذور هذه المناقشة وإن كانت مذكورة في معجم رجال المحقق الخوئي ” طاب ثراه ” ، ولكننا عمقناها بالبيان المذكور .
ب – المبنى الثاني : توثيق الرواة الواقعين في عقد المستثنى منه من رجال كتاب ( نوادر الحكمة ) ، بناءً على تعميم التوثيق لمشائخ ابن يحيى وغيرهم من الرواة ، فإنّ النوفلي وإن لم يكن من مشائخه ، إذ أنه يروي عنه بواسطتين – كما في التهذيب ٢ / ١٢١ – إلا أنه مشمولٌ للتوثيق العام ، لوقوعه في أسانيد كتاب النوادر .
ولكنّ الصحيح أنّ أصل التوثيق وإن كان تاماً ، غير أنّ القول بالتعميم محل إشكال ، لقصور عبائر كلٍ من ابن الوليد وابن نوح والشيخ الصدوق – التي هي مدارك التوثيق – عن إفادته .
ج – المبنى الثالث : وقوعه في أسانيد كتاب ( كامل الزيارات ) ، بناءً على عموم التوثيق لغير مشائخ ابن قولويه ( طاب ثراه ) ، وأنّ ( علي بن محمد النوفلي ) هو نفسه ( علي بن محمد بن سليمان ) .
ولكنّ الصحيح أنّ القول بالتعميم محل منع ، نظراً لما يترتب عليه من المحاذير المذكورة في محلها .
ومع ذلك كله فإنّ التوصل إلى القول بحسن ( علي بن محمد النوفلي ) بمكانٍ من الإمكان ، وذلك – مضافاً للقيمة الاحتمالية للمباني الثلاثة المتقدمة وإن ضعفت – عن طريق سَبَر ما رواه من الروايات – المتناثرة في كتاب الكافي الشريف والتهذيبين وسائر كتب الشيخ الصدوق ” أعلى الله درجته ” وأمالي شيخ الطائفة الطوسي ” قدس سره ” – ودراسة متونها ، وملاحظة مضامينها ، فإنها تنبئ عن حسنه وكماله ، بل عن كونه من أصحاب المعرفة العالية .
وتؤكد ذلك شهادة أبي الفرج له بأنه كان متعصباً لمذهبه ، حيث قال في الصفحة ٣٤٤ من ( مقاتل الطالبيين ) : ( وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي بأخباره ، فربما ذكرت الشيء اليسير منها والمعنى الذي يحتاج إليه ؛ لأنّ علي بن محمد كان يقول بالإمامة ، فيحمله التعصب لمذهبه على الحيف فيما يرويه ) .
ونحن نأخذ من كلام أبي الفرج هذا شهادته ، ونرد إليه اتهامه النابع عن أمويته ، بل هو نفسه قد كفانا مؤنة ردّ اتهامه ، فإنه – في مقاتل الطالبيين ٤١٠ – حين تعرض لأحوال أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ” عليهم السلام ” ، وكيفية تخلصه من بغداد حين طلبه هارون الرشيد قال : ( وقد اختُلف أيضاً في تخلصه كيف كان ، فلم نذكره كراهة الإطالة ، إلا أنّ أقرب ذلك إلى الحق ما ذكره النوفلي ) .
والأهم من ذلك أنه قد روى عن النوفلي في كتابه المقاتل بعنوان ( علي بن محمد بن سليمان النوفلي ) في أربعة مواضع ، وروى عنه بنفس العنوان في ثلاثة عشر موضعاً من كتابه الأغاني ، كما روى عنه في المقاتل بعنوان ( علي بن محمد النوفلي ) في تسعة موارد ، وروى عنه بنفس العنوان في كتاب الأغاني فيما يقارب السبعين مورداً ، كما روى عنه بعنوان ( النوفلي ) في كتابه المقاتل خمس مرات ، وروى عنه بنفس العنوان في كتاب الأغاني قرابة أربعة وعشرين مرة ، ولا أدري كيف ساغ لأبي الفرج أن يروي عن النوفلي هذا العدد الهائل من الأخبار – قرابة مائة وثلاثين خبراً – وهو يعتقد فيه أنه ممن يحيف في رواياته ؟!!
إنْ هذا إلا دليل ظاهر على أنّ النوفلي قد بلغ من الوثاقة حدّاً لم يسع أبا الفرج معه تجاوز الرواية عنه ، ولكنه لا يستطيع أن يهضم الرواية عن شخصٍ معروفٍ بالصلابة في تشيعه من غير أن يهمز فيه ويلمز ويحمحم ويدمدم .
والحاصل : فإنّ القول بحسن الرجل – على ضوء المعطيات المذكورة – ليس ببعيد .
٣ / النقطة الثالثة : إنّ الراوي الثالث هو ( حماد بن عيسى الجهني ) ، وكان – كما عن النجاشي في رجاله ص ١٤٢ – صدوقاً وثقةً في حديثه ، بل هو أحد أصحاب الإجماع الذين أجمعت الطائفة على تصحيح ما صحّ عنهم ، وتصديق ما قالوه ، وأقرّت لهم بالفقه .
٤ / النقطة الرابعة : إنّ الراوي الأخير الذي يروي القضية المذكورة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) بشكلٍ مباشر هو ( معاوية بن عمّار ) وهو الدهني البجلي ، وكان – كما عن شيخنا النجاشي في رجاله ص ٤١١ – ( وجهاً من وجوه أصحابنا ، ومقدّماً ، كبير الشأن ، عظيم المنزلة ) ، فهو ثقة بالاتفاق .
فالقضية من حيث السند أيضاً معتبرة ، مع تأكيدنا على عدم الحاجة لهذا النحو من الاعتبار في توثيق القضايا التاريخية ، ولكنها زيادة نور على نور ، والحمد لله رب العالمين .