تاريخ المحاضرة: 27/09/1431
نقاط البحث:
- ما هو المقصود من الغلو المنهي عنه؟
- الاعتقاد بربوبية أهل البيت (ع)
- إسقاط التكاليف الشرعية
- هل يوجد في رواة الشيعة غلاة؟
- هل مجرّد غلوّ الراوي يوجب القدح في روايته؟
- الجواب العام: لا ملازمة بين فساد العقيدة وكذب اللسان
- الجواب الخاص: نظرية الوحيد البهبهاني
- تفاوت الناس في تحمّل المعارف
- ظروف التقية
التسجيل الصوتي:
تحميل التسجيل الصوتي: التراث الشيعي وروايات الغلاة
نص المحاضرة
التراث_الشيعي_وروايات_الغلاة.pdf
قال الإمام الصادق (ع): ((إنّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا)) [1].
مرَّ علينا سابقًا: أنَّ هنالك دعوى – لبعض المعاصرين – تتكون من شقّين:
- الشق الأول: إنَّ أغلب الروايات الشيعية مرويةٌ عن الوضّاعين.
- الشق الثاني: إنَّ أغلب الروايات الشيعية مرويةٌ عن طريق الغلاة.
وقد تحدثنا فيما مضى حول الشقّ الأوّل منها، وهنا نتحدث حول الشق الثاني، من خلال جهات ثلاث:
الجهة الأولى: تحديد مفهوم الغلو المنهي عنه.
ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله: ((وإياكم والغلو كغلو النصارى، فإنّي بريءٌ من الغالين)) [2].
وورد عن الإمام الباقر (ع) قوله: ((احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم؛ فإنّ الغلاة شرّ خلق الله)) [3].
وبما أنَّ عنوان (الغلو) قد وقع متعلقًا للنهي، وأهل البيت (ع) قد تبرّؤوا من الغلاة، فهذا يجرّنا لتحديد مفهوم الغلو، فنقول:
الغلو في اللغة هو: الارتفاع والزيادة عن الحدّ، ومِن هنا ورد في الروايات الشريفة النهي عن الغلو في المهور – كقول النبي الأعظم (ص): ((لا تغالوا بمهور النساء، فإنما هي سقيا الله سبحانه)) [4]، وكذا قول أمير المؤمنين (ع)، قال: ((لا تغالوا في مهور النساء، فتكون عداوة)) [5] – فإنَّ النهي عن الغلوّ في المهور بمعنى النهي عن الزيادة والارتفاع بها فوق الحدّ، بل ورد أنَّ كثرة المهر من شؤم المرأة.
والحاصل: فإنَّ الغلو – لغةً – هو الارتفاع والزيادة، ونفسُ هذا المعنى اللغوي هو المعنى الشرعي له، وعليه فعندما ينهى أهل البيت (ع) عن الغلو، فالمقصود من الغلو المنهي عنه هو: الارتفاع والزيادة عن الحدّ، وهذا لا خفاءَ فيه، وإنما الخفاء في تطبيقه؛ إذ قد يخفى ما به يتحقّق الارتفاع والزيادة عن الحدّ.
وقد حددت الروايات الشريفة للغلو مصداقين:
المصداق الأول: ادّعاء الربوبية لأهل البيت (ع).
بما أنَّ الغلو هو الارتفاع والزيادة عن الحدّ، فلكي نعرف متى يتحقّق الغلو في أهل البيت (ع) لا بدّ من معرفة حدّهم (ع) الذي إذا زِيدَ عليه تحقّق الغلو فيهم (ع).
والحق: أنَّ الحدود التفصيلية لمقامات أهل البيت (ع) وكمالاتهم لا يمكن لأحدٍ معرفتها، كما يشهد بذلك قول الرسول الأعظم (ص): ((يا علي، ما عرف الله حق معرفته غيري وغيرك، وما عرفك حق معرفتك غير الله وغيري)) [6].
ولذلك لو قال شخصٌ – مثلًا – بأنّ دعوى علم الغيب لأهل البيت (ع) من الغلو، نقول له: إنَّ الغلو هو الارتفاع عن الحدّ، وليس يقوى أحدٌ على معرفة حدّ أهل البيت (ع) ليقول بأنّ علمهم بما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، من الزيادة والارتفاع عن حدّهم المحدودين به.
إذن فباب العلم بالحدّ التفصيلي لمقامات أهل البيت (ع) وكمالاتهم مسدود، وإنّما المفتوح هو باب العلم بالحدّ الإجمالي، وهو أنّهم (عباد مربوبون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون)، بمعنى أن لا يُتجاوز بهم حدّ العبودية إلى حدّ الربوبية، وأمّا ما سوى ذلك فليس غلوًا؛ ولذلك ورد في الروايات الشريفة: ((لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثم قولوا فينا ما شئتم، ولن تبلغوا)) [7]، وهذا ما رّكزت عليه الروايات كثيرًا.
فعن أمير المؤمنين (ع): «إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم» [8].
وعنه (ع) قال: «أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى وممّن بقي، وأيّدتُ بروح العظمة، وإنّما أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، لا تسمّونا أربابًا وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله اللَّه لنا، ولا معشار العشر» [9].
وعنه (ع): ((إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا مربوبون، واعتقدوا في فضلنا ما شئتم)) [10].
وعن الإمام العسكري (ع) عن آبائه (ع)، قال: «قال أمير المؤمنين (ع): لا تتجاوزوا بنا العبودية، ثمّ قولوا ما شئتم، ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بريء من الغالين» [11].
وعن الإمام الصادق (ع): ((يا إسماعيل، لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا)) [12].
وعن مالك الجهني، قال: «كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقًا، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشيء؛ إذا نحن بأبي عبد اللَّه (ع) واقف على حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال: يا مالك ويا خالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلاّ الساعة. فقال: اعلما أنّ لنا ربًّا يكلؤنا بالليل والنهار نعبده، يا مالك ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مرارًا، وهو واقف على حماره »[13].
وعن كامل التمّار، قال: «كنت عند أبي عبد اللَّه (ع) ذات يوم، فقال لي: ياكامل، اجعل لنا ربًّا نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم. قال: قلت: نجعل لكم ربًّا تؤوبون إليه، ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالسًا، ثمّ قال: وعسى أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلّا ألفًا غير معطوفة)) [14].
فتحصّل من مجموع هذه الروايات الشريفة: أنَّ المصداق الأوّل للغلو هو: دعوى الربوبية لأهل البيت (ع)، وقد ابتلي كلّ واحد من المعصومين (ع) بمَنْ ادّعى الربوبية له في زمانه، ابتداءً برسول الله الأعظم (ص)، وانتهاءً بالإمام العسكري (ع).
المصداق الثاني: إسقاط التكاليف الشرعيّة.
من جملة الأفكار الصوفية التي يطرحها المتصوّفة: أنّ العبادات إنّما شرّعت من أجل الوصول إلى معرفة الله تعالى، وعليه فمتى ما وصل الإنسان إلى معرفة الله تعالى استغنى عن العبادات، باعتبار أنّها مجرّد وسائل للوصول إلى المعرفة، ويستشهدون لذلك بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[15].
وقد أخذ الغلاة هذه الفكرة من الصوفية وطوّروها، فقالوا: إنّ حقيقة العبادات – من صلاة وحج وصيام وزكاة – إنّما هي معرفة المعصوم (ع)، مما يعني أنَّ الإنسان إذا عرف المعصوم (ع) فقد صلّى وصام وحجّ وزكّى، وبالتالي فإنه لا يحتاج إليها.
وقد أسقط بعض المعاصرين للمعصومين (ع) عن أنفسهم التكاليف الشرعية، وادّعوا أنّهم ليسوا بحاجة إليها بعدما عرفوا إمام زمانهم، وهذا ما تحدث عنه أحمد بن محمّد بن عيسى، حين قال: كتبتُ للإمام العسكري (ع) في قوم يتكلّمون [16] ويقرؤون أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك… ومن أقاويلهم أنّهم يقولون إنّ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والْمُنْكَرِ} معناها رجل، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل، لا عدد درهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي، تأوّلوها وصيّروها على هذا الحدّ الذي ذكرت» [17].
عن فضيل بن يسار: قال الصادق (ع): احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم، فإنَّ الغلاة شرُّ خلق الله، يُصغِّرون عظمة الله، ويدّعون الربوبية لعباد الله، والله إنَّ الغلاة لشرٌّ من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا.
ثم قال (ع): إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصر فنقبله.
فقيل له: كيف ذلك، يا بن رسول الله؟ قال: الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج، فلا يقدر على ترك عادته، وعلى الرجوع إلى طاعة الله (عز وجل) أبدًا، وإن المقصر إذا عرف عمل وأطاع [18].
ومن الواضح أنَّ إسقاط التكاليف الشرعية، بدعوى أنّ معرفة المعصوم (ع) متضمنة لجميع الطاعات والعبادات، لم يُعلم كونه تجاوزًا للحدّ الذي يحدُّ كمالات المعصوم (ع) ومقاماته، ولكن بما أنَّ المعصوم نفسه قد اعتبره مصداقًا للغلو، فإنه يكون من الغلو المنهي عنه، وقد ارتكز ذلك في أذهان المتشرعة من أصحاب الأئمة (ع)، وتشهد لذلك عدة شواهد:
الشاهد الأول: ما رواه الحسن بن محمّد بن بندار القمي، قال: سمعتُ مشايخي يقولون: إنّ محمّد بن أورمة لمّا طُعِنَ عليه بالغلوّ، بعث إليه الأشاعرة [19] ليقتلوه، فوجدوه يصلّي الليل من أوّله إلى آخره ليالي عدّة، فتوقّفوا عن اعتقادهم [20].
الشاهد الثاني: عن الحسين بن أحمد المالكي، أنه قال: قلت لأحمد بن مليك الكرخي: أخبرني عما يقال في محمد بن سنان من أمر الغلو؟ فقال: ((معاذ الله، هو والله علمني الطهور، وحبس العيال، وكان متقشفًا متعبدًا))[21]، فهذا الشخص قد نزّه محمد بن سنان عن الغلو، من خلال إثبات أنّه كان عابدًا، مضافًا لكونهِ مواليًا لأهل البيت (ع) ومن أشدِّ العارفين بهم.
الشاهد الثالث: ما رواه الكشّي من أنه سأل العياشي عن علي بن عبد اللَّه بن مروان وجماعة آخرين من الغلاة، فقال: أمّا علي بن عبد اللَّه بن مروان، فإنّ القوم – يعني الغلاة – تمتحن في أوقات الصلوات، ولم أحضره في وقت صلاة، ولم أسمع فيه إلا خيرًا [22].
وهذهِ الشواهد تدلّ على أنّ أصحاب الأئمة (ع) كانوا يعلمون بأنّ كلَّ مَن تبنّى الفكرة المذكورة فهو من الغلاة، الذين تبرّأ الأئمة الطاهرون (ع) منهم ولعنوهم.
الجهة الثانية: هل يوجد في الرواة مَنْ هو مِنَ الغلاة؟
عندما نريد أن نتعرّف على مدى مصداقية ما يزعمه البعض من أنّ أغلب رواياتنا وصلتنا عن طريق الغلاة، فلا بدّ من معرفة عدد الرواة الذين رووا عن أهل البيت (ع).
ويمكننا التعرّف على عددهم من خلال الرجوع إلى الموسوعة الرجالية الكبرى، التي ألّفها السيد الخوئي (أعلى الله مقامه)، وهي: (معجم رجال الحديث)، وجمعَ فيها أسماء الرواة، وأوضح حالهم واحدًا واحدًا، وبيّن ما لكلّ راوٍ وما عليه، وبيّن طبقة كلّ راوٍ، وعدد الروايات التي رواها، ومورد تلك الروايات وموضعها.
وقد بذل المحقق الخوئي (أعلى الله مقامه) في تأليف هذه الموسوعة جهودًا كبيرةً جدًا، حتى اكتملت في أربعة وعشرين مجلّدًا، وأصبحت من أهمّ الموسوعات الرجالية في تاريخ المذهب الشيعي.
فإذا رجعنا إلى هذه الموسوعة، وحاولنا أن نحصي عدد الرواة الذين يروون روايات الشيعة؛ فإنَّ عددهم يقارب الخمسة عشر ألف راوٍ، ومن بين هؤلاء الخمسة عشر ألف يوجد ستون راويًا فقط اتُّهِمُوا بالغلو، ومعنى أنهم (اتُّهِمُوا بالغلو) أنه لا يمكن الجزم بكونهم غلاة، وقد عرضَ العلامة ابن داوود الحلّي (أعلى الله مقامه) أسماءهم في كتابه الرجالي [23].
ومما يجدر ذكره أنَّ بعض هؤلاء الرواة الستّين لم يروِ إلا روايةً واحدةً فقط، وبعضهم قد روى روايتين، وبعضهم روى ثلاث روايات، ولعلَّ البعض منهم قد روى ما هو أكثر من ذلك قليلًا.
ومن ذلك ننتهي إلى كذب الدعوى التي نحن بصددها – وهي: أنَّ أكثر رواياتنا من الغلاة – إذ أنَّ عدد الغلاة لا يشكّل نسبة تُذكر من عدد الرواة، فهم – بحسب قانون النسب – لا يصلون حتى إلى نصف الواحد من المائة، كما أنَّ عدد رواياتهم في غاية القلة، فكيف يصح لمن يدّعي العلم والبحث أن يقول: إنّ أكثر رواياتنا قد وصلتنا عن طريق الغلاة، وقد عرفت حقيقة الحال؟!
ومن هنا يتضح زيف هذه الدعوى وكذبها، وهي تنمّ عن عدم تتبع صاحبها، وقلّة علمه ومعرفته بأحوال رواة الشيعة.
الجهة الثالثة: هل الغلو يوجب القدح في الرواية؟
لو سلّمنا جدلًا بأنّ أكثر رواياتنا من الغلاة، فهل معنى ذلك أنّ أكثر رواياتنا غير صحيحة؟
هنالك جوابان عن هذا التساؤل:
أ – الجواب الأول: الجواب العام، أي: الذي يوافق رأي المشهور من العلماء.
وحاصله: أنّه لا ملازمة بين فساد العقيدة والكذب في القول، والمدار في قبول الرواية إنّما هو صدق الراوي ووثاقته في قوله وروايته، حتى ولو كان فاسد العقيدة.
وبيانُ ذلك: أنه لو كانَ هنالك راوٍ فاسد العقيدة – كأن كان من الفطحية أو الواقفية أو العامة – ولكنّه كان صادقًا في قوله وحديثه، بمعنى أنه لم يكن يقارف الكذب، فهذا يكفي لقبول رواياته في حدِّ نفسها؛ إذ أنه لا ملازمة بين فساد العقيدة وفساد اللسان، والمدار في قبول الرواية إنّما هو على صدق اللسان لا على صحّة العقيدة وسلامتها.
ومن هنا عملت الطائفة المحقة بأخبار عدة من فاسدي العقيدة، الذين لم يؤثّر فساد عقيدتهم على صدق لسانهم.
ب – الجواب الثاني: الجواب الخاص، أي: الذي يوافق رأي بعض العلماء.
وهذا الجواب عبارة عن نظرية خاصة يطرحها الشيخ الوحيد البهبهاني (أعلى الله مقامه) – الذي هو مجدّد المذهب في زمانه، وكلّ من اطّلع على العلوم الحوزوية يعلم ما له من الدور في نهضة الحوزات العلمية وحركتها – وقد تبنّاها السيد البروجردي (أعلى الله مقامه) – الذي هو من أعلم العلماء في علم الرجال، ويُعَدّ قمّة الهرم الرجالي في فنِّ الطبقات الرجالية – ويتبنّاها الكثير من علمائنا المعاصرين (أعلى الله كلمتهم، وأنارَ برهانهم)، ومحصّل هذه النظرية: أنّ الرواية إذا وردت من شخص مُتَّهَمٍ بالغلو، فهو ممّا يضاعف في حسنها وصحّتها ووثاقتها، لا أنّه يوجب توهينها وتضعيفها والخدش فيها.
وبيانُ وجه ذلك يتوقف على بيان مقدّمة تمهيدية، وهي: أنّ أهل البيت (ع) لم يصرّحوا بجميع معارفهم لجميع الناس؛ وذلك يعود لأحد سببين:
السبب الأول: عدم وجود المؤهّل لحمل معارف أهل البيت (ع)، ويشهد لذلك قول أمير المؤمنين (ع): ((بل اندمجتُ على مكنونِ علمٍ لو بحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطويّ البعيدة)) [24]، أي: لاضطربتم اضطراب الحبل في البئر العميقة، ومعنى ذلك: أنّ أهل البيت (ع) لم يصرّحوا بكلّ معارفهم؛ لعدم وجود من يحتمل كلَّ تلك المعارف الإلهية، ويتقبّلها على ما هيَ عليه.
وقد أشار لذلك الإمام الصادق (ع) بقوله: ((ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألفًا غير معطوفة)) [25]، والألف غير المعطوفة تعبير كنائي عن قلة الصادر عنهم (ع)، فهو إشارة – كما هو أحد التفسيرات – إلى أننا لو حددنا الحروف الهجائية بثمانية أو تسعة وعشرين على الخلاف بين اللغويين، فإنَّ المعارف التي صدرت عن آل محمد (ع) على كثرتها وسعتها وشمولها، لا تتجاوز الحرف الأول من الحروف الهجائية، فهي ألف غير معطوفة بحرف يتلوها.
ونظرًا لذلك فإنَّ أهل البيت (ع) كانوا يختارون من بين أصحابهم من يجدون عنده الكفاءة، فيفصحون له ببعض ما عندهم، على قدر قابليته، ويشهد لذلك قول الإمام السجّاد (ع): ((لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله))[26].
وهناك رأيان في تحديد ما يعود إليه الضمير في (قتله):
الرأي الأول: أنَّ الضمير يعود للعلم الذي عند سلمان، فيكون معنى الرواية: أنه لو علم أبو ذر (رض) بالعلم الذي عند سلمان (رض) لقتل العلمُ أبا ذر؛ لعدم قدرته على تحمّله، بخلاف سلمان المحمدي الذي كان يستطيع أن يتحمّله.
الرأي الثاني: أنَّ الضمير يرجع إلى أبي ذر، فيكون معنى الرواية: أنه لو علم أبو ذر (رض) ما في قلب سلمان (رض) لقتل أبو ذر سلمانَ؛ لأنّه سيتّهمه بأنّه يحمل علومًا ومعارف تساوق الخروج عن الدين، وقد أشارَ نفسه لذلك بقوله: ((ألا أيها الناس، اسمعوا من حديثي، ثم اعقلوه عني، فقد أوتيت العلم كثيرًا، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة: إنه لمجنون، وقالت طائفة أخرى: اللهمَّ اغفر لقاتل سلمان)) [27].
وعلى كلا الرأيين، فإنَّ مفاد الرواية: أنَّ أبا ذر (رض) على جلالته وعظمته لم تكن له قابلية تحمّل العلم الذي أعْطِيَه سلمان (رض)، كيف وسلمان هو الذي وردَ في حقهِ عن الإمام الباقر (ع) قوله: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: سألت رسول الله (ص) عن سلمان الفارسي؟ فقال: ((سلمان بحر العلم، لا يقدر على نزحه، سلمان مخصوص بالعلم الأول والآخر)) [28].
وعن أمير المؤمنين (ع): ((خصَّه الله تبارك وتعالى من العلوم بأولها وآخرها، وظاهرها وباطنها، وسرها وعلانيتها)) [29].
وكيف كان، فإنَّ أهل البيت (ع) إنما كانوا يفصحون بمعارفهم لخواصهم فقط؛ ولذلك كان يُعَبّر عن هذه النخبة التي كان أهل البيت (ع) يطلعونها على معارفهم بـ(حملة الأسرار).
السبب الثاني: ظروف الشدة التي كان يعيشها أهل البيت (ع)؛ فإنَّ ظروفهم كانت حرجة للغاية، إذ كانوا مراقَبين ومُضَيّقًا عليهم، وهذه الظروف كانت تحول بينهم وبين التصريح بمعارفهم لكلّ أحد؛ ولأجل ذلك كانوا يقتصرون في بيان معارفهم على بعض الأشخاص فقط.
ونتجَ عن ذلك: أنَّ بعض الشيعة كان يتعامل مع أهل البيت (ع) كما يتعامل مع بقيّة العلماء في زمانه، بالرغم من أنّهم كانوا يعتقدون بإمامتهم، فكانوا يرونهم علماء عابدين زاهدين ورعين، ولم يكونوا يعرفون مقاماتهم الإلهية، كالعصمة والعلم بالغيب والولاية التكوينية ونحو ذلك، ولم يكونوا يعتقدون بها.
ويشهد لذلك ما ورد عن عمر بن الفرج الرخجي، أنه قال لأبي جعفر الجواد (ع): ((إن شيعتك تدعي أنّك تعلم كلَّ ماء في دجلة ووزنه، وكنا على شاطئ دجلة، فقال (ع) لي: يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضة من خلقه أم لا؟ قلت: نعم، يقدر، قال (ع): أنا أكرم على الله من بعوضة!)) [30].
والمتحصّل مما ذكرناه: أنَّ معارف المعصومين (ع) الغيبية، التي تحكي كمالاتهم ومقاماتهم الإلهية – نظرًا للسببين المتقدمين – لم يطّلع عليها إلا بعض خواصهم.
ومن هنا تولّدت تهمة الغلو؛ فإنَّ بعض الشيعة – الذين لم يكونوا مطّلعين على مقامات أهل البيت (ع) – إذا سمعوا من بعض الرواة – ذوي الأسرار – بعض المعارف الغيبية، كالقول بأنَّ الأئمة (ع) يعلمون الغيب، كانوا يبادرون لاتهامهم بالغلو في أهل البيت (ع)، مع أنّهم – بحسب الفرض – من حملة الأسرار، وأجلاء الأصحاب، وخواص تلامذة آل محمد (ع).
وبما أوضحناه لا يبقى وجهٌ للتعجب مما نقله الشيخ الصدوق (طيّب الله تربته) عن أستاذه الشيخ ابن الوليد، حيث قال: ((وكان شيخنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رحمه الله) يقول: أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (ص))) [31]؛ فإنَّ هذه المقالة – التي ترى أنَّ نفي السهو عن النبي (ص) من الغلو – تكشف عمّا نقلناه من عدم وضوح مقامات المعصومين (ع) الغيبية لكلِّ أحد، وإن كان من الأجلاء في علمي الفقه والحديث، كالشيخ محمد بن الحسن بن الوليد القمي (رحمه الله).
ولأجل ذلك اتُّهم الخواص من أصحاب أهل البيت (ع)، والذين كانوا من حملة الأسرار، بالغلو والزيادة عن الحدّ، مع أنّهم ليسوا كذلك، بل إنهم كانوا من العارفين الشامخين.
وعلى ضوء ذلك ذهب السيد البروجردي (أعلى الله مقامه) إلى أنّ أكثر الرواة الذين اتُّهِموا بالغلو هم من أجلاء وأعاظم الثقات، بدليل أنّهم اتُّهِموا بالغلو؛ فإنَّ هذه التهمة تكشف عن عظمة مقام المُتّهَم بها، وأنّه من حملة أسرار أهل البيت (ع)، وإنّما اتُّهِموا بالغلو بسبب القاصرين من الشيعة الذين لم تكن معرفة المعصومين متيسّرةً لهم.
والمحصلّة النهائية: أنه على كلا الرأيين المتقدمين لا يكون غلو الراوي من موجبات سقوط الرواية، والتشنيع على الطائفة، بأنَّ أكثر روايات الشيعة من الغلاة، كيفَ وقد ثبت خطأ الدعوى من أساسها بالبيان الذي فصلناه.
[1] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج25، نفي الغلو في النبي والائمة صلوات الله عليه وعليهم وبيان معاني التفويض وما لا ينبغي أن ينسب إليهم منها وما ينبغي أن ينسب، ح1، ص263.
[2] الاحتجاج، ج1/ ص233.
[3] أمالي الشيخ الطوسي (أعلى الله مقامه): 650.
[4] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج100، ص353، باب المهور وأحكامها، ح34.
[5] المصدر نفسه: ج100، ص352، ح22.
[6] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج39، ص84.
[7] الاحتجاج 2/ ص233.
[8] الخصال، ص614.
[9] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج26، ص6، باب نادر في معرفتهم صلوات الله عليهم بالنورانية وفيه ذكر جمل من فضائلهم (ع)، ح1.
[10] عيون الحكم والمواعظ: 101.
[11] الاحتجاج: 2/233.
[12] المصدر نفسه. ج25/ ص279، ح22.
[13] المصدر نفسه. ح25، ص289، ح45.
[14] المصدر نفسه. ح25، ص283، ح30.
[15] سورة الحجر، الآية: 99.
[16] يقصد بهم: علي بن حسكة، والقاسم اليقطيني، وهما من كبار الغلاة.
[17] اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي، ج2، ص802، ح994.
[18] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج25، باب نفي الغلو في النبي والائمة صلوات الله عليه وعليهم وبيان معاني التفويض وما لا ينبغي أن ينسب اليهم منها وما ينبغي أن ينسب، ح6، ص265.
[19] الأشاعرة يُراد بهم: الأشعريون الذين كانوا يقطنون قم المقدسة (زادها الله شرفًا وقداسة).
[20] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص545.
[21] بحار الأنوار: 49/ 277.
[22] اختيار معرفة الرجال المعروف ب رجال الكشي: 2/ ص812، ح1014.
[23] رجال ابن داود، ص293.
[24] نهج البلاغة، ج1، ص41، الخطبة الخامسة: خطبة له لما قبض رسول الله (ص)…
[25] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج25، ص283، باب نفي الغلو في النبي والائمة صلوات الله عليه وعليهم وبيان معاني التفويض وما لا ينبغي أن ينسب اليهم منها وما ينبغي أن ينسب، ح30.
[26] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج22، ص343، باب فضائل سلمان وأبي ذر ومقداد وعمار رضي الله عنهم أجمعين، وفيه فضائل بعض أكابر الصحابة، ح53.
[27] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج22، ص387، باب كيفية إسلام سلمان رضى الله عنه ومكارم أخلاقه وبعض مواعظه وسائر أحواله، ح28.
[28] بحار الأنوار 22/ 347، باب فضائل سلمان وأبي ذر ومقداد وعمار رضى الله عنهم أجمعين، وفيه فضائل بعض أكابر الصحابة، ح63.
[29] المصدر نفسه 22/ 347، ح62.
[30] بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، ج50، ص100، باب فضائله، ومكارم أخلاقه، وجوامع أحواله (ع) وأحوال خلفاء الجور في زمانه وأصحابه وما جرى بينه وبينهم ح12.
[31] من لا يحضره الفقيه: 1/360.
شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > شهر رمضان المبارك > شهر رمضان المبارك 1431