تاريخ المحاضرة: 25/01/1443
نقاط البحث:
- منهج الإمام السجاد (ع) في ترسيخ صورة الحدث الكربلائي
- الخطابة المنبرية
- تحفيز الشعراء
- الاستفادة من قانون تداعي المعاني
- فلسفة اهتمام الإمام (ع) بترسيخ صور الحدث الكربلائي
- تعميق الظلامة الحسينية في النفوس
- صيانة الحدث الكربلائي من الطمس والتحريف
- ماذا نستفيد من منهج الإمام زين العابدين (ع) في زماننا هذا؟
- وقفات نقدية مع مشروع التشكيك في صور الحدث الكربلائي
- بين المنهج الفقهي والمنهج التاريخي
- بين التاريخ المكتوب والتاريخ المسموع
- بين مصادر ما قبل القرن العاشر وما بعده
- وقفات نقدية مع مشروع التشكيك في صور الحدث الكربلائي
اليوتيوب:
تسجيل محمد السنان:
تسجيل صوتي (ساوند كلاود):
https://soundcloud.com/user-147101541/xolsmcax3hsu
نص المحاضرة
ورد عن سيدنا ومولانا وإمامنا الصادق (ع): ((بكى علي بن الحسين (ع) على أبيه الحسين بن علي (ع) عشرين سنة أو أربعين سنة، وما وضع طعامٌ بين يديه إلا بكى)).
نتناول هذا الموضوع من خلال ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: معالم منهج الإمام السجاد (ع) في ترسيخ صورة الحدث الكربلائي.
حين نتحدّث عن الحدث الكربلائي فتارةً نتحدّث عن أصل الحدث، وهو أنَّ الإمام الحسين (ع) قد قضى شهيدًا في طف كربلاء، وتارة أخرى نتحدّث عن صورة الحدث، وهي أنَّه (ع) قضى عاطشًا ظمآن مذبوحًا من قفاه مرضوضًا صدره… إلى غير ذلك من الصور التفصيلية.
ولسنا بصدد الحديث عن منهج الإمام زين العابدين (ع) في تركيز أصل الحدث، وإنما نتحدث عن منهجه في تثبيت صورة الحدث الكربلائي، حيث كان له اهتمامٌ بالغٌ بتركيز صورة الحدث لا أصل الحدث فقط، وذلك عبر ثلاث وسائل مهمّة:
الوسيلة الأولى: الخطابة المنبرية.
إنَّ أوّل من وضع أسس الخطابة المنبرية بشكلها المعهود الآن -حيث يركِّز الخطباء على استعراض صور الحدث الكربلائي وترسيخها في النفوس- هو إمامنا زين العابدين (ع)، فإنه قد خطب في الكوفة، ثم صعد المنبر مرة أخرى وخطب في الشام، ثم خطب مرة ثالثة في المدينة المنوّرة، وعندما ندقّق في فقرات هذه الخطب نجد أنَّ الإمام (ع) لا يطمح لتثبيت الحدث، وإنما يطمح لترسيخ صور الحدث الكربلائي.
فكان ممّا قاله في خطبة الكوفة: ((أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات، أنا ابن من قتل صبرًا وكفى بذلك فخرًا)).
وفي خطبته (ع) في الشام ركّز على صور أخرى للحدث الكربلائي لم يذكرها في الخطاب السابق، حيث قال: ((أنا ابن الطهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول، أنا ابن المزمّل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكت عليه الجن في الظلماء، وناحت عليه الطير في الهواء)).
وفي خطبته في المدينة ركّز على صورة جديدة لم يذكرها في خطبتيه السابقتين، حيث صعد على منبر رسول الله (ص) وقال: ((أيها القوم، لقد ابتلانا الله بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتِل أبو عبد الله وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، وهذه الرزية التي ما مثلها رزية)).
الوسيلة الثانية: تحفيز الشعراء.
فقد كان الشعر آنذاك -إلى جانب الخطابة- وسيلة إعلامية فاعلة ومؤثرة في المجتمع العربي، وقد فطن الإمام زين العابدين (ع) إلى هذه الوسيلة واعتمدها من أجل إيصال الصوت الحسيني، وصار يحفّز الشعراء على تثبيت صورة الحدث الكربلائي.
فلمّا اقترب من يثرب أمر بضرب فسطاطه وأنزل عمّاته وأخواته، ثم التفت إلى بشر بن حذلم وقال: يا بشر، رحم الله أباك، لقد كان شاعرًا، فهل تقدر على شيء منه؟ قال: نعم يا بن رسول الله. فأمره أن يدخل المدينة وينعى الحسين بشعره في جامع النبي (ص)، فدخل بشر وأدّى الرسالة، فقال:
يا أهل يثربَ لا مقامَ لكم بها *** قُتِلَ الحسينُ فأدمعي مدرارُ
الجسمُ منه بكربلاءَ مضرّجٌ *** والرأسُ منه على القناةِ يدارُ
ففي البيت الأول أشار إلى أصل الحدث، ولكنّه لم يكتفِ بذلك، بل اهتمَّ بنقل صور الحدث الكربلائي من خلال البيت الثاني من شعره.
الوسيلة الثالثة: الاستفادة من قانون تداعي المعاني.
هناك قانونٌ يُدْرَس في علم النفس، وفي علم البلاغة، وفي علم الأصول، وفي بحوث نظرية المعرفة، يعبَّر عنه بقانون تداعي المعاني، وهو الانتقال من صورة إلى صورة مشابهة لها بأحد أنحاء الشبه، ويمكن اختصاره في العبارة المشهورة عندنا: (الشيءُ بالشيءِ يُذْكَر).
وقد استفاد الإمام زين العابدين (ع) من هذا القانون في ترسيخ صور الحدث، فما كان يقدّم له شراب إلا بكى، وإذا قيل له في ذلك يقول: وكيف لا أبكي وقد قتل أبي الحسين عطشان؟!
وإذا رأى غريبًا في المدينة المنورة قد يدعوه إلى بيته ويقوم بإطعامه وضيافته، فإذا أطعمه وضيّفه قال له: لقد قتل أبي الحسين غريبًا عطشان جائعًا.
وكان يتعمّد أن يمرّ على سوق الجزّارين فإذا رأى أحدهم يمسك بشاة يذبحها يقول له: أتسقون الشاة ماء قبل ذبحها؟ فيقولون: لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فيقول: لا يذبح الكبش حتى يروى من ظمأ ويذبح ابن رسول الله عطشان.
وهكذا كان الإمام زين العابدين (ع) لا تمر عليه صورةٌ من الصور التي يستطيع أن يربطها بصورة من صور كربلاء إلا استثمرها من أجل تثبيت صور الحدث الكربلائي وترسيخها.
النقطة الثانية: فلسفة اهتمام الإمام السجاد (ع) بتثبيت صور الحدث الكربلائي.
ومحور الكلام هنا: لماذا كل هذا الاهتمام من الإمام زين العابدين (ع) بترسيخ صور الحدث التفصيلية وعدم الاكتفاء بتخليد الحدث نفسه؟
ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل ببيان سببين لهذا الاهتمام:
السبب الأول: تعميق ظلامة الإمام الحسين (ع) في النفوس.
فإنَّ الظلامة كلما كانت أعمق كان تأثيرها أقوى، وقد كان مشروع أهل البيت (ع) ابتداء من الإمام السجاد (ع) وانتهاء بإمامنا صاحب العصر والزمان (ع) هو تعميق ظلامة الإمام الحسين (ع) في النفوس، لأنَّ ظلامته إذا تعمّقت كان لها تأثير بالغ في شدّ الناس إلى الخط العلوي الحسيني وتنفيرهم من الخط الأموي وبيان زيفه وفضيحته، ولم يكن يمكن تعميق ظلامة الإمام الحسين (ع) إلا بالتركيز على الصور التفصيلية للحدث الكربلائي.
السبب الثاني: صيانة الحدث الكربلائي من الطمس والتحريف.
وهذا السبب مهمٌّ جدًا، فإنَّ الإعلام في ذلك اليوم كان بيد الأمويين، وكان بإمكانهم أن يبرزوا صورة الحدث الكربلائي بأي نحو شاؤوا، وأن يرسموها بأي ريشة أرادوا، ولكن الإمام زين العابدين (ع) كان ملتفتًا إلى ذلك، ولذا كان لهم بالمرصاد، فاهتمّ بالاستفادة من الإعلام في مواجهة مشروع بني أمية، وإبراز صورة الحدث الكربلائي كما وقع لئلا تطاله يد المحو والتحريف، فكان الإمام (ع) ينقل لنا الصورة بعد الصورة من أجل أن يبقى هذا الحدث مصونًا عن التحريف والتغيير إلى يوم الناس هذا، ولولا ذلك لحرّف بنو أمية الحدث الكربلائي كما ينسجم مع سياستهم وأهوائهم.
النقطة الثالثة: ماذا نستفيد من منهج الإمام زين العابدين (ع) في زماننا؟
ومختصر الجواب عن هذا السؤال: الذي نستفيده من منهج الإمام (ع) هو أنَّ وظيفتنا في هذا الزمان أن نحفظ رسالة الإمام زين العابدين (ع) ومشروعه، فكما اهتمّ الإمام اهتمامًا بالغًا بتثبيت وترسيخ وتركيز صور الحدث الكربلائي، فإنَّ وظيفتنا في هذا الزمان أن نحافظ محافظة شديدة حذرة يقظة على صور الحدث الكربلائي، في مقابل محاولات الطمس والتحريف.
فقبل سنوات ليست بالبعيدة كتب أحدهم في بعض كتبه: (المطلوب صورةٌ حقيقيةٌ للحسين)، ومقصوده من ذلك: أنَّنا حين نضع يدنا على صور الحدث الكربلائي التي يتناقلها الخطباء أو تتناقلها كتب المقاتل نجد صورًا تمثّل الصورة الحقيقية للإمام الحسين (ع)، بينما هنالك صور أخرى تتنافى مع الصورة الحقيقية له (ع).
فمثلًا: عندما نقرأ في كتب المقاتل أو نسمع من الخطباء أنَّ الإمام الحسين (ع) قال: ((لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد)) فهذا يتناسب مع الصورة الحقيقية للإمام (ع)، لكن عندما نسمع من الخطباء أنَّ الإمام الحسين (ع) قال: ((وحق جدي أنا عطشان)) فهذا لا يتناسب مع مقام الإمام الحسين (ع)، فلا بدَّ من فرز صور الحدث الكربلائي من أجل المحافظة على الصور التي تشكّل الصورة الحقيقية للإمام الحسين (ع)، بينما الصور التي تتنافى مع الصورة الحقيقية ينبغي رفع اليد عنها ومحاربتها وطمسها.
وهذا المشروع الذي طرحه بعضهم قبل سنوات بنحو التنظير بدأ الآن يتوسّع ويتحوّل إلى عمل جاد، وصرنا في كلّ سنة نسمع تشكيكًا جديدًا -بل تشكيكات- في صور الحدث الكربلائي، بحيث لو أنَّنا تابعنا هذه التشكيكات وأصغينا لكل دعوة تشكيك لمسخ الحدث الكربلائي مسخًا تامًا.
ومن نماذج ذلك:
- الإمام الحسين (ع) لم يقل للحر: ثكلتك أمك يا حر!
- مسلم بن عقيل (ع) لم يقع في حفيرة، ولم تكن هنالك حفيرة أصلًا!
- العباس بن علي (ع) لم يقل: والله إن قطعتم يميني إنّي محامٍ أبدًا عن ديني!
- العباس بن علي (ع) لم يثبت أنّه ضُرِبَ بعمدٍ من الحديد على رأسه!
- أم البنين (ع) لم تكن موجودة عند حدوث واقعة كربلاء!
- القاسم بن الحسن (ع) لم يكن صبيًا في كربلاء لم يبلغ الحلم!
- ليلى أم الأكبر (ع) لم تكن موجودة في كربلاء، وكل ما يذكره الخطباء إنما هو من نسج خيالهم!
- الإمام الحسين (ع) لم يضع لسانه على لسان علي الأكبر (ع)!
- الإمام الحسين (ع) لم يحتضر عند مصرع علي الأكبر (ع)!
- الإمام الحسين (ع) لم يخرج السهم المثلث بثلثي كبده!
- الإمام الحسين (ع) لم يأخذ الرضيع إلى المعركة!
- السيدة زينب (ع) لم تخرج إلى مصرع الإمام الحسين (ع)!
ولا أدري ماذا بقي من أحداث كربلاء؟! إذا شطبنا على كلّ هذه الأحداث بالقلم الأحمر واعتبرناها كلّها مختلقة ومزيّفة ومشكوكة فإنَّ صور الحدث الكربلائي كلها تذهب أدراج الرياح!
فالمشروع الذي طرحه بعضهم تحت عنوان: (المطلوب صورةٌ حقيقيّةٌ للإمام الحسين) -أي: الصورة التي رسمها هو في ذهنه، لا الصورة الواقعية- بدأ خلال السنوات الأخيرة يتوسّع ويتحوّل إلى مشروع عملي، وهنا تأتي وظيفتنا، وهي الحفاظ على صور الحدث الكربلائي في قبال مشروع الطمس والتغيير، ونحن نسجِّل هنا على هذا المشروع ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: الخلط المنهجي بين التاريخ والفقه.
إنَّ أصحاب هذا المشروع على اختلافهم قد وقعوا في خطأ منهجي فادح، وهو الخلط الذي لا يغتفر بين المنهج العلمي في الفقه والمنهج العلمي في التاريخ، إذ هنالك منهجٌ علميٌّ يعتمده العلماء في التعامل مع الروايات التي تستنبط منها الأحكام، وفي التاريخ هنالك منهج علمي آخر، ففي الفقه ربما يقول الفقيه بأنَّ هذه الرواية لا يمكن الاعتماد عليها لأنها ضعيفة السند، ولكن في التاريخ لا تُلْحَظ أسانيد الروايات، وإنَّما المنهج في التاريخ هو منهج جمع القرائن وحشدها، ولو بنينا التاريخ على منهج تتبّع الأسانيد لما بقي حجرٌ على حجرٍ!
ولذلك حين يقول قائل: هذه الصورة من صور الحدث الكربلائي لا نقبلها لأنَّها إنما وردت في رواية مرسلة! فاعرف أنَّ عنده خلطًا في المنهج العلمي، فإنَّ الإرسال وضعف السند لا يعوَّل عليه في الروايات التاريخية، ومن عوَّل عليه فقد وقع في خطأ منهجي فادح.
وهنا ننقل كلام عالم من علماء الطائفة، وجهبذ من جهابذتها، ومحقّق من أكابر محقّقيها، وهو المرجع الديني الكبير العظيم المجاهد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (قدّس سرّه)، وهذا الاسم لا يخفى على أحد من الشيعة فضلًا عن العلماء، وقد سئل هذا الفقيه في كتابه (جنة المأوى: ص186) عن خبر تكلم رأس الحسين (ع) فقال: (نعم، خبر زيد بن أرقم وابن وكيدة مرويٌّ كلاهما في بعض الكتب المعتبرة، والمراد هنا الاعتبار التاريخي، لا الاعتبار الذي عليه المدار في الأخبار التي يستنبط منها الأحكام الشرعية من الصحيح والحسن والموثّق، بل هو من قبيل قولنا: تاريخ الطبري وتاريخ ابن الأثير معتبران، ويكفي في هذا المعنى من الاعتبار للخبر أن ينقله مثل صاحب البحار والطريحي في المنتخب، فضلًا عما رواه السيد ابن طاووس في اللهوف أو الشيخ المفيد في الإرشاد ونظائرهم).
فعلماؤنا المحقّقون الذين يصغى إلى كلماتهم إذا وصلوا إلى رواية تاريخية لا يتعاملون معها معاملة الرواية في الفقه، بحيث يقال: هذه الرواية ضعيفة السند! وتلك الرواية مرسلة! فإنَّ هذا الكلام لا قيمة له في علم التاريخ، بل المعوّل على الاعتبار التاريخي، وهو يتحقّق بورود الرواية في كتاب لمؤلّفٍ ثقةٍ ثبتٍ، كالعلامة المجلسي في البحار والشيخ الطريحي في المنتخب.
الملاحظة الثانية: خطأ الاقتصار على التاريخ المقروء دون التاريخ المسموع.
بعض المشكّكين يقولون: هذا الحدث الذي يتناقله الخطباء بحثنا عنه في المصادر والكتب فلم نجد له ذكرًا، مما يعني أنه حدثٌ مختلقٌ مكذوبٌ!
وهذا خطأٌ علميٌّ آخر، ورحم الله الخطيب الجليل العالم الفاضل الذي يعبَّر عنه في القطيف بـ(شيخ الخطباء وخطيب العلماء)، وهو الميرزا حسين البريكي (قدّس الله نفسه)، فقد سمعتُ من الخطيب القدير الجليل الملا حسن المقيلي (رحمه الله) أنَّه سمع من الخطيب البريكي قوله: إنَّ أحداث كربلاء التي تُنْقَل على المنابر قسمان: بعضها من (علم السطور) وبعضها من (علم الصدور)، فعلم السطور هو العلم الذي دُوِّن في الكتب، وعلم الصدور هو الذي تناقلته الأجيال جيلًا بعد جيل.
بل إنَّ هذا التاريخ المدوَّن الموجود في الكتب إنَّما جاء من علم الصدور، فكيف صحَّ لنا أن نرفع اليد عن التاريخ المسموع ونكتفي بالتاريخ المقروء؟! وكيف صحَّ لنا أن نعرض عن علم الصدور ونكتفي بعلم السطور؟! وهذا لا يعني أنَّنا نقول بأنَّ كل ما يُنْقَل عن الصدور فهو صحيحٌ، وإنَّما الكلام عمّا تتناقله الشيعة ويتناقله الخطباء جيلًا بعد جيل، فنحن نسمع من الجيل الموجود من الخطباء قضية معينة لا نراها في الكتب، وحين نسألهم: من أين جئتم بها؟ يقولون: سمعناها ممن قبلنا، ثم الذين قبلهم يقولون: سمعناها من الذين قبلنا، وهكذا، فهذا النحو من علم الصدور لا ينبغي تهميشه وإغفاله، ولا ينبغي الحكم عليه بالكذب والاختلاق والوضع.
وهنا ننقل كلام فقيه من أعاظم فقهائنا، وهو المرجع الديني الكبير المعاصر السيد محمد سعيد الحكيم (دام ظله الشريف)[1]، وإنَّما ننقل كلمات فطاحل علماء الطائفة وجهابذتها حتى يتبيّن البون الشاسع بين منهج علمائنا ومنهج المشكّكين.
يقول السيد الحكيم في كتابه (من وحي الطف: ص90): (الثاني: إنَّ عدم العثور على مصدر الرواية لا يصلح شاهدًا على كذبها، لأنّه قد ألِّفت في العصور الأولى كثرةٌ كاثرةٌ من الكتب حول مقتل الحسين (ع) تعتمد على الروايات المسندة لمشاهدي الحدث، أو على ما يحدِّث به أئمة أهل البيت (ع) في عصورهم الطويلة، حيث بذلوا جهدهم في الإعلان والتذكير بهذه المصيبة بما أحاط بها من مآسٍ وفجائع وعظات وعبر، وإذا كانت تلك الكتب قد ضاعت علينا فمن القريب جدًا أن يكون كثيرٌ من مضامينها قد بقي في الصدور يتناقله الناس جيلًا بعد جيل، أو أودع بنحو مرسل في بعض المقاتل المتأخّرة التي وصلتنا، كما أنَّ كثيرًا من الأحداث ربما لم يسجَّل وإنما بقي متناقلًا بين الناس في الأجيال المتعاقبة حتى وصل إلينا مرسلًا من دون مصدر، واحتمال ذلك كافٍ في حسن ذكره لتشييد حقٍّ معلومٍ أو للتنفير من باطلٍ معلومٍ).
فلاحظ كيف يكون كلام الفقاهة والفقهاء! هذا العالم الجليل يقول: يصح التعويل على التاريخ المسموع كما يعوَّل على التاريخ المقروء، بينما يأتي المشكِّك وبشخطة قلم يقول: هذه الرواية ليس لها مصدر فهي إذن غير معتبرة! والحال أنها رواية يتناقلها الشيعة جيلًا بعد جيل، ويتناقلها الخطباء جيلًا بعد جيل، فلا يمكن الحكم بكذبها، بل يحسن ذكرها كما أفاد هذا المرجع العظيم، أدام الله وجوده وبركته[1]، وأدام وجود علمائنا ومراجعنا جميعًا، وأدام ظلالهم الوارفة على رؤوس الأنام.
الملاحظة الثالثة: خطأ التفريق بين المصادر المتقدّمة والمتأخّرة.
إنَّ بعض الذين يشكّكون في أحداث كربلائية يقولون: لا بدَّ من أن نفرِّق بين نوعين من المصادر، فالمصادر التي تقدّمت على القرن العاشر يُعْتَمَد عليها، وأمّا المصادر التي تبدأ من القرن العاشر فما بعد فلا يُعْتَمَد عليها، فإذا وجدنا صورةً للحدث الكربلائي في بحار الأنوار، أو في المنتخب للطريحي، أو في إكسير العبادات، أو في روضة الشهداء، فلا يصح التعويل عليها؛ لأنَّ من جاؤوا من القرن العاشر فما بعد لم يعاصروا الحدث ولم ينقلوا عمّن عاصروا الحدث، ولذلك لا يُعْتَمَد على نقلهم إذا تفرّدوا به.
وهذا المنهج خاطئٌ أيضًا، وذلك لأمرين:
أوّلًا: إذا كانت المشكلة في أنَّ من جاؤوا في القرن العاشر فما بعده لم يعاصروا ولم ينقلوا عمّن عاصروا الحدث، فهذه المشكلة تنسحب حتى على من قبل القرن العاشر، فحتى الذين في القرن الثالث أو الرابع -كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد- لم يعاصروا الحدث ولم ينقلوا عمّن عاصروا الحدث، فلم باؤك جرّت هناك ولم تجر هنا؟! فالتفريق بين هذين الصنفين لا وجه له.
ثانيًا: إنَّ منهج علمائنا قائمٌ على اعتماد المصادر التي تبدأ من القرن العاشر فما بعده كما يعتمدون المصادر التي تقدّمت على القرن العاشر؛ لأنَّ هناك مصادر وصلت لعلمائنا في القرن العاشر فما بعده ولم تصل إلينا، ونكتفي هنا بذكر شاهد واحد، وهو يرتبط بمجاميع الحديث عند الشيعة -أي: الكتب الروائية المعتمدة عند الشيعة الإمامية- فإلى جانب الكافي والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه يوجد كتابٌ في غاية الأهمية، وهو كتاب (مدينة العلم) للشيخ الصدوق (عليه الرحمة)، وقد وصل إلى زمن والد الشيخ البهائي في القرن العاشر، وبعد ذلك فُقِد أثره رغم أهمّيته.
فالعلماء الذين في القرن العاشر قد عثروا على كنز نحن لم نعثر عليه، ولذلك يصحّ أن نعتمد عليهم، فإذا نقل عالمٌ في القرن العاشر أو الحادي عشر قضيةً وكان معروفًا بالعلم والورع والتثبّت فحينئذٍ نعلم أنه لم يختلقها ولم يضعها، وإنما نقلها من مصادر وصلت إليه ولم تصل إلينا.
ولذلك قال الشيخ كاشف الغطاء في كلامه المتقدِّم: (ويكفي في هذا المعنى من الاعتبار للخبر أن ينقل مثل صاحب البحار والطريحي في المنتخب…) وكلاهما بعد القرن العاشر، ومع ذلك علماؤنا المحقّقون اعتمدوا على نقلهم وقالوا بكفايته، وهنا تلمس البون شاسعًا بين منهج المحقّقين من علمائنا ومنهج من يدّعي التحقيق من أصحاب مشروع التشكيك.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنَّ وظيفتنا هي صيانة صور الحدث الكربلائي امتدادًا لمنهج إمامنا زين العابدين (ع)، فإنَّه واجه مشروع طمس أحداث كربلاء وتحريفها وتغييرها، وها نحن نواجه نفس المشروع، ووظيفتنا هي الوظيفة نفسها التي قام بها إمامنا (ع).
[1] هذه المحاضرة ألقيت قبل يوم واحد من رحيل السيد الحكيم (قدّس سره)، حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى في عصر اليوم اللاحق.
شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1443
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا جزيلا للجهود المبذولة في هذه الصفحة
احبتي اصحاب الصفحة ممكن رقم سيد ضياء ما عليكم امر بغيت اسأله
١.وين احصل مؤلفاته؟
٢.وين احصل المحاضرات مكتوبة لقيت بس كم محاضرة
شكرا جزيلا
ام حمزة
معلمة عقائد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
1- تجدون بعض المؤلفات في المكتبات المحلية كمكتبة الراشد في سيهات
2- المحاضرات المكتوبة منشورة في بعض كتب سماحة السيد، من قبيل: وجهًا لوجه، والإمامة الإلهية، والشعائر الحسينية، كما أنّ بعضها منشور في الشبكة في الرابط التالي:
https://aldiaa.net/tag/محاضرات-مكتوبة/