تاريخ المحاضرة: 15/01/1439

محور البحث: لماذا يفتي الفقهاء باستحباب إعلان الحداد على سيّد الشهداء (ع) طوال شهرَي محرّم وصفر؟

نقاط البحث:

1. سيرة المتشرّعة
2. حديث نزع السواد
3. الحزن لأحزان آل محمّد
4. إحياء الإسلام

التسجيل الصوتي:

تنزيل التسجيل الصوتي

اليوتيوب:

مكتبة المحاضرات > عشرات حسينيّة > العشرة الثانية 1439

---

نص المحاضرة

لا شكَّ ولا ريب في أنَّ ما جرت عليه سيرة الشيعة من إحياء العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام حزنًا على سيّد الشهداء (ع)، هو من الشعائر المنصوصة التي نصّ عليها الشارع المقدّس وأكّد عليها الأئمة الأطهار (ع).

فقد ورد في الرواية عن الإمام الرضا (ع): «كان أبي إذا دخل شهر المحرّم لا يُرَى ضاحكًا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه»^[1].

والمستفاد من هذه الرواية أنَّ الإمام الكاظم (ع) كان يعلن الحداد على سيّد الشهداء (ع) بمجرّد دخول شهر عاشوراء إلى أن تمضي منه عشرة أيام.

ولكنّ النقطة الجديرة بالالتفات والتنبّه هي: أنَّنا -من ناحيةٍ- إذا وضعنا يدنا على فتاوى المراجع العظام، سنجد أنَّ الحداد على سيّد الشهداء (ع) لا يختصّ بالعشرة الأولى من شهر محرّم الحرام فقط، بل إنَّ الفتاوى قائمة على إعلان الحداد على مدى شهرَي محرّم وصفر^[2].

ومن ناحية أخرى: ما عليه العمل عند فقهاء الطائفة هو أيضًا إعلان الحداد في هذين الشهرين، فعندما نقرأ في سيرة فقيه الطائفة السيّد الحكيم (قده) وفي سيرة سيّد الأساطين السيّد الخوئي (قده) نجد أنَّ سيرتهما قد جرت على ارتداء السواد منذ أول يوم من أيام المحرّم إلى آخر يوم من أيام صفر^[3].

فالحداد على الحسين (ع) غير مقصور على عشرة أيام، بل يمتدّ بامتداد محرم وصفر، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو منشأ تلك الفتاوى وهذه السيرة التي جرى العمل عليها عند فقهاء الطائفة؟

وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل، توجد وجوهٌ مستفادةٌ من أجوبة الفقهاء:

الوجه الأول: سيرة المتشرّعة.

والمقصود بسيرة المتشرّعة: سيرة المتديّنين الملتزمين بالدين والمطبّقين له، فإنَّهم إذا كانت لهم سيرةٌ متّصلةٌ بزمن المعصوم (ع) فهي دليلٌ على الحكم الشرعيّ.

وتطبيق ذلك: أنَّنا عندما نأتي إلى المتشرّعة في زماننا، كالمراجع والعلماء والأخيار والصالحين المعروفين بتطبيق الأحكام الشرعية والملتزمين بها منهاجًا في حياتهم، ونرى سيرتهم قائمة على شيء معيّن ورثوه ممن سبقهم، والجيل السابق ورثه ممن قبله، وهكذا إلى أن نصل إلى زمن المعصوم، حينئذٍ نعلم بأنَّ هذه السيرة قد جاءت من المعصوم؛ إذ الفرض أنها سيرة للمتشرّعة الحريصين على تطبيق الأحكام الشرعية، فعندما تكون سيرتهم على ذلك نعلم بأنَّ هذا لم يأتِ منهم تبرّعًا منهم، وإنّما تلقّوه من المعصوم، فتكون السيرة حينئذ دليلًا على الحكم الشرعي.

ومن هنا يقول بعض الفقهاء^[4]: إنَّ الحداد الحسيني على مدى شهرين ممّا جرت عليه سيرة المتشرّعة، فنحن نرى الآن مراجعنا في قمّ المقدسة وفي النجف الأشرف طوال الشهرين يلتزمون بالحداد ولبس السواد، وهذه السيرة ليست مبتكرة منهم، بل هي موروثة من أعلام الجيل الذي سبقهم، كالسيد الحكيم والسيد الخوئي، وفي الجيل الذي قبل هؤلاء كانت سيرة أعلام الطائفة -كالميرزا محمد تقي الشيرازي وأضرابه- على ذلك أيضًا.

وهكذا نجد سيرة أعلام الطائفة جيلًا بعد جيل كانت على ذلك، فإذا ثبت اتصال ذلك بزمن المعصوم فهذا يعني أنَّ إعلان الحداد طوال الشهرين جاء من المعصوم، ولم يأتِ من فراغ.

الوجه الثاني: حديث نزع السواد.

وهو ما رواه أحمد بن إسحاق عن الإمام العسكري (ع) بسنده عن جدّه المصطفى (ص)، حيث تحدّث النبي (ص) عن اليوم التاسع من شهر ربيع الأول وسمّاه بعدة تسميات، ومن جملتها: «ويوم نزع السواد»^([5])، ومن الواضح أنَّ نزع السواد إنَّما هو فرع لبسه، وإلا لا معنى لنزع سوادٍ لم يُلْبَس، وهذا يعني أنَّ الرواية تفترض أنَّ هناك سوادًا ملبوسًا قبل يوم التاسع من ربيع.

وعندما نرجع إلى روايات آل محمّد (ع) نجدها تتحدّث عن لبس السواد في عاشوراء، ففي حسنة عمر بن علي بن الحسين (ع): «لمّا قُتِل الحسين بن علي (ع) لبس نساء بني هاشم السواد والمسوح، وكنّ لا يشتكين من حرّ ولا برد، وكان علي بن الحسين (ع) يعمل لهن الطعام للمأتم»^[6].

فإذا ضممنا الروايتين، نفهم أنَّ يوم التاسع هو يوم نزع السواد الملبوس، والسواد الملبوس هو ما يكون لبسه في عاشوراء، ممّا يعني أنَّ المدّة بين عاشوراء ويوم التاسع من ربيع الأول هي مدّة لبس السواد وإعلان الحداد والأسى على سيّد الشهداء (ع)، فما عليه النساء في بلادنا وبعض البلدان الشيعية من الالتزام بارتداء السواد مدى الشهرين لم يأتِ من فراغ، وإنما هو وليد هذه الروايات.

الوجه الثالث: الحزن لأحزان آل محمّد (ع).

مرَّ عليك في الأبحاث السابقة أنَّ هناك طائفةً من الروايات الشريفة تحثّ على الحزن لحزنهم، ومنها: صحيحة ابن شبيب عن الإمام الرضا (ع): «يا بن شبيب، إن سرَّك أن تكون معنا في الدرجات العلى في الجنان فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا»^[7]، فالحزن لأحزان آل محمّد (ع) ممّا حثّت عليه روايات كثيرة، وهي تدلّ على استحباب الحداد في شهرَي محرّم وصفر على الحسين (ع)، وذلك بمقدّمتين:

أ/ المقدّمة الكبروية: إنَّ الحزن لأحزان آل محمّد (ع) راجح، وهو يعني استشعار مصيبتهم، وذلك يتحقّق بعدم إظهار ما ينافي ما تقتضيه المصيبة، فالإنسان الذي يستشعر ألم مصابهم هو الذي لا يظهر منه ما يتنافى مع ما تقتضيه المصيبة في أيام أحزانهم.

ب/ المقدمة الصغروية: إنَّ شهر محرّم وصفر شهرا أحزان لآل محمد (ع)، فالعشرة الأيام الأولى من محرّم ليست هي أيام الحزن فقط، وإنَّما هي جزءٌ من حزن آل محمد (ع)، إذ الأحزان قد استمرّت طوال الشهرين، حيث أخذوا آل الله سبايا إلى الكوفة والشام، ثم -في هذه المدّة- رجعوا بهم إلى كربلاء، ومن كربلاء إلى المدينة، وطوال هذه المدة الزمنية كانت أحزان آل محمد (ع) قائمة.

والحاصل: فإذا كان الحزن لأحزان آل محمد (ع) مستحبًا، وكانت أحزانهم قد استمرّت طوال محرّم وصفر، إذن يستحبّ جعل محرّم وصفر شهرَيْ أحزان، لأنَّ ذلك من الحزن لأحزانهم (ع).

الوجه الرابع: إحياء الإسلام.

هناك نكتة مهمّة أشار إليها بعض مراجع الطائفة^[8]، وهي أنَّ شهر محرّم وصفر شهرا إحياء الإسلام، وإذا كانا كذلك فيجب إحياؤهما بإحياء ما أحيا الإسلام فيهما، وهذا ما يستوجب استمرار الحداد الحسيني من خلال لبس السواد، وإقامة المجالس الحسينية، والابتعاد عن مظاهر الفرح، ونحو ذلك.

وتوضيح ذلك: إنَّ هناك عبارةً كثيرًا ما نسمعها ونردّدها على الألسنة، وهي: (الإسلام محمّدي الوجود حسينيّ البقاء)، فلولا سيّد الشهداء (ع) لما كان للإسلام أثر، ولكنّ النقطة المغفول عنها هي أنّنا دائمًا ما نسلّط الضوء على الدور الحسيني ونغفل عن الدور الزينبي، والحال أنّ الدور الحسيني ما كان يتمّ له الأثر لولا الدور الزينبي، فكلّ التضحيات والمواقف التي وقفها الحسين (ع) يوم عاشوراء ما كانت لتبقى لولا جهود بطلة الطف (ع)، إذ الدور الحسيني انتهى بيوم عاشوراء، ثم أكملته السيّدة زينب (ع) إلى حين رجوع الركب إلى المدينة، بل وبعد ذلك أيضًا، ولولا هذان الدوران ما تمّ إحياء الإسلام.

فإحياء الإسلام تحقّق بالدورين المباركين: الدور الحسيني في العشرة الأولى من محرّم، والدور الزينبي فيما بقي من محرّم وصفر، وإحياء هذين الشهرين بإحياء ما جرى فيهما من أدوار يكون فيه إحياءٌ للإسلام؛ إذ إنَّ ما جرى فيهما من المصائب والمواقف هو ما أحيا الإسلام.

ولذلك وردت عن النبي الأعظم (ص) روايةٌ عجيبةٌ يتحدّث فيها عن السيّدة زينب (ع) فيقول: «ومن بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين»^[9]، فالبكاء على زينب (ع) في رتبة البكاء على سيّد الشهداء (ع)، وسرّ ذلك هو أنَّ الدور الزينبي مكمّلٌ للدور الحسيني، ولولاه ما تمّ، ولذلك البكاء عليها كالبكاء على أخيها تمامًا.

ومن هنا حريٌ بنا أن نكون حريصين على إحياء مآتم سيّد الشهداء (ع) طوال هذين الشهرين، فكما نحرص على إحياء المآتم في العشرة الأولى، ينبغي أن نكون حريصين على إحياء العشرة الثانية والثالثة والرابعة… والتنقّل في مآتم الحسين (ع) بمقدار ما يتّسع له الوسع والطاقة؛ تحقيقًا لهذه الأهداف السامية والشامخة.

---

الهوامش

[1] أمالي الصدوق: المجلس ٢٧، الرقم ٢؛ نقلًا عن بحار الأنوار: ج44، ص248.

[2] 1/ سئل الشيخ التبريزي (قده): ما هو حكم إجراء عقد النكاح في شهر محرّم وصفر؟ فأجاب: «لا بركة في عقد الزواج في هذين الشهرين، فهما من أشهر الحزن لما جرى فيهما على أهل البيت (ع) من المصائب والأحزان» [صراط النجاة: ج10، ص339].

وفي إجابة أخرى قال (قده): «لا بدَّ أن يخصَّص شهرا محرّم وصفر لإظهار الحزن والجزع على مصيبة سيّد الشهداء (ع)، والزواج في هذين الشهرين لا بركة فيه، ومحبّ أهل البيت (ع) لا يقدم على هكذا عمل في أيام مصائبهم (ع)» [الشعائر الحسينيّة: ص270].

2/ وسئل السيد السيستاني (دام ظلّه): ما هو حكم التزيّن في شهر محرم وصفر للزوج فقط أي وضع المكياج وعمل البخور للبيت؟ فأجاب: «لا ينبغي ذلك» [استفتاء منشور في موقع سماحته الإلكتروني].

وسئل (دام ظلّه) أيضًا: ما حكم تغيير المرأة لون شعرها في شهري محرم وصفر؟ فأجاب: «لا ينبغي القيام فيهما بما لا ينسجم مع مناسبتهما الحزينة» [استفتاء منشور في موقع سماحته الإلكتروني].

وسئل (دام ظلّه) أيضًا عن حكم ما يقوم به البعض في شهر محرّم وصفر -وعموم أيام المناسبات الحزينة- من الزواج والانتقال لبيت جديد والتزيّن في البدن واللباس وغير ذلك، فكان من جوابه: «نعم، ينبغي أن لا ينفَّذ في أيام مصائب أهل البيت (ع) وحزنهم ما لا يوقعه الإنسان عادة في أيام حزنه ومصابه بأحبابه، إلّا ما اقتضته الضرورة العرفيّة، فيختار وقتًا أبعد عن المساس بمقتضيات العزاء والحزن» [استفتاءات مختارة حول الشعائر الحسينية: ص34].

3/ وسئل السيّد محمّد سعيد الحكيم (قده): هل استحباب لبس السواد في مصيبة أبي عبد الله الحسين (ع) هو في خصوص يوم العاشر، أم يتعدّاه من أوّل محرّم إلى آخر صفر، أم أقلّ من ذلك؟ فأجاب: «يرجح لبس السواد لتعظيم الشعائر، وهو شاملٌ للجميع» [استفتاء منشور في موقع سماحته الإلكتروني].

4/ وسئل السيد محمّد صادق الروحاني (دام ظلّه): هل يجوز وضع العطر أو الزينة في أيّام شهر محرّم الحرام؟ فأجاب: «لا إشكال في مطلوبية التعزية في العشرة الأيام الأولى من المحرّم، بل في شهرَي محرّم وصفر معًا، ولا إشكال أيضًا في منافاة بعض مراتب الزينة لذلك -ولا ينبغي صدورها ممّن يدّعي حمله محبّة الإمام الحسين (ع) في قلبه- ولكن لم يصل شيء منها إلى حدّ الحرمة، إلّا أن تكون موجبة لهتك حرمة الشعائر الشريفة، أو بداعي الاستهزاء بالمصاب الحسيني الفادح، كما عليه بعض النواصب» [قربان الشهادة: ص84].

وقال (دام ظلّه) في جواب آخر: «لستُ أحكم بالحرمة، إلّا أن يترتّب على ذلك إهانة سيّد الشهداء الحسين (ع) أو هتك حرمة شعائره المباركة، ولكن مع ذلك أقول: قد دلّت الروايات الشريفة على أنَّ (شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا، يفرحون لفرحنا، ويحزنون لحزننا)، وهل الزواج في أيام الحزن المذكورة من الحزن لحزنهم (ع)؟!» [قربان الشهادة: ص111].

[3] نجاة الأمّة: ص96.

[4] هو المرجع الدينيّ الراحل، السيّد محمّد الشاهرودي (قده)، في استفتاءٍ خطّيٍّ باللغة الفارسية.

وقال فقيه أهل البيت (ع) السيّد حسن الصدر (قده): «إنَّ سيرة المتشرّعة قائمةٌ على لبس السواد في أيّام محرّم الحرام من زمن الأئمة (ع)، خلفًا عن سلف، من دون نكيرٍ إلى يومنا هذا» [تبيين الرشاد في لبس السواد على الأئمة الأمجاد (ع): ص17].

[5] بحار الأنوار: ج31، ص127.

[6] وسائل الشيعة: ج2، ص890.

[7] عيون أخبار الرضا (ع): ج1، ص299؛ أمالي الصدوق: ص192.

[8] المرجع الدينيّ الكبير، الشيخ الميرزا جواد التبريزيّ (قده)، في [رسالة مختصرة في لبس السواد: ص21].

[9] زينب الكبرى، الشيخ جعفر النقدي: ص17.