تاريخ المحاضرة: 13/05/1445
محور البحث: تحليل ما ورد في تأبين أمير المؤمنين (ع) للصدّيقة الزهراء (ع): (فكم من غليل معتلج في صدرها لم تجد إلى بثّه سبيلًا).
نقاط البحث:
- معاني المفردات
- كم
- غليل
- معتلج
- دلالات هذه الفقرة
- أهمية هذه الفقرة
اليوتيوب:
نص المحاضرة[1]
ظلامة_الصديقة_الزهراء_ع_القصوى.pdf
مما جاء في تأبين أمير المؤمنين للصديقة الشهيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليهما) ــ وهو من أفجع ما قيل في بيانات التأبين ــ هذا المقطع: “وستُنبِئك ابنتُك بتظافر أمّتكَ على هضمها، فأحفِها السؤال واستخبرها الحال، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا”[2]، ومن وبين فقرات هذا المقطع سيقع الحديث مركزًا حول العبارة التالية: “فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا” وذلك في ثلاث جهاتٍ:
الجهة الأولى: بيان مفردات هذه العبارة.
ليتضح لنا المقصود من هذه العبارة العلوية لا بد لنا أولًا من بيان معاني المفردات المهمة التي اشتملت عليها، وهي ثلاث مفرداتٍ:
المفردة الأولى: كم.
مفردة “كم” في اللغة العربية على نوعين:
- النوع الأول: كم الاستفهامية.
- النوع الثاني: كم الخبرية.
ومعرفة أي منهما أراد أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في تأبينه المفجع يتضح لنا من خلال معرفة الفرق بينهما.
فنقول: “كم” الاستفهامية هي أداة إنشاء يراد بها الاستفسار والاستفهام عن العدد، ولذلك فإنها تتطلب جوابًا، ـــ فمثلًا ــ في القرآن الكريم يقول الحق (جلت أسماؤه): {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ}[3]، فلأنّ كم في الآية الشريفة استفهامية استفهم فيها عن عدد سنوات وساعات اللبث فقد احتاجت إلى جوابٍ {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
أما “كم” الخبرية فلا يراد بها الاستفسار عن العدد، وإنما يراد بها الإخبار عن عددٍ كثيرٍ، ولكونها إخبارية فهي لا تحتاج لجوابٍ، ومثالها في القرآن الكريم قول الله (تبارك وتعالى): {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [4]، فكم في الآية الكريمة لا يراد بها الاستفسار عن عدد الفئات القليلة التي غلبت الفئات الكبيرة، وإنما يراد بها الإخبار عن أنّ الفئات القليلة – التي تبعت الحق – فغلبت الفئات الكثيرة، لهي فئاتٌ كثيرةٌ جدًا.
بعد إيضاح الفرق بين معنى كم الاستفهامية والخبرية نقول: أي المعنيين أراده أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في التأبين الفاطمي؟ هل المعنى الاستفهامي أم الإخباري؟
لا شك هو الثاني؛ إذ لم يكن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في مقام الاستفهام عن عدد الغليل المعتلج في صدر الصديقة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)، وإلا لجاء بجوابٍ لكلامه، وهذا يدلنا على أنّ كم الواردة في التأبين العلوي هي كم الخبرية لا الاستفهامية، حيث يريد أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) أن يخبر عن كثرة الغليل المعتلج بصدر البضعة الطاهرة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها).
المفردة الثانية: الغليل[5].
الغليل في اللغة هو: الحرارة الباطنية الداخلية التي يشعر بها الإنسان نتيجة مثيرٍ معينٍ، وهذه الحرارة تتنوع المثيرات التي توجدها في داخل الإنسان، فمنها:
1/ الحقد: وذلك عندما لا يخلّص الإنسان نفسه من الحسد والحقد والضغينة على إخوانه المؤمنين، فإنَّ هذه الضغينة تتحول إلى حرارة مشتعلة في داخله، ولذلك عندما ينتقم الحاقد ممن يحقد عليه يقول: لقد شفيتُ غليلي.
2/ العطش: فإنه عندما يستولي على الإنسان يبدأ الإنسان يشعر بحرارةٍ باطنيةٍ، وعندما يشرب الماء يقول: لقد رويت غليلي، ومراده من الغليل الحرارة الناشئة عن مثير العطش.
3/ الحزن: ولذا يقولون: (لا يشفي الغليل إلا البكاء)، أي عندما تكون عند الإنسان حالة حزنٍ فإنها تتسبب في حرارةٍ داخليةٍ يشعر بها الحزين، وهذه الحرارة لا تهدأ ولا تنطفئ إلاّ بالبكاء.
إذا عرفت ذلك، فعندما قال أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه علي): “فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها” فإنّ مراده من الغليل الحرارة الناشئة عن الحزن، ليبيّن بأنّ الصدر المقدس للصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) قد كان يكتوي بحرارةٍ باطنيةٍ داخليةٍ سببها حزنها وألمها وهمها (روحي وأرواح من في الوجود فداها).
لماذا مفردة الغليل؟
بعد بيان معنى مفردة الغليل، قد ينقدح سؤالٌ مهمٌ في ذهن البعض وهو: إذا كان المراد من الغليل هو الحرارة الناتجة عن الحزن فلماذا لم يستخدم أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) مفردة الحزن فيقول: فكم من حزن معتلج في صدرها، بدلًا عن مفردة الغليل؟
وجواب ذلك هو: أنّ أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) عندما يختار المفردات فاختياره يخضع لحساباتٍ دقيقةٍ، وهنا لم يرد (صلوات الله وسلامه عليه) أن يتحدث عن مجرد الحزن عند السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام)، بل أراد بيان أنّ أحزان الشهيدة فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) قد بلغت من الشدة مبلغًا تسبب في نشوء حرارةٍ داخليةٍ باطنية، وهي المعبّر عنها بالغليل، إذ أنّ الحزن العادي لا يوجد مثل هذه الحرارة.
والحاصل: فإنه (عليه السلام) باستخدامه لمفردة الغليل أراد بيان أنّ أحزان الصديقة المظلومة (عليها السلام) قد كانت شديدةً لدرجة تسببها في وجود الغليل في صدرها المقدس (روحي وأرواح العالمين فداها).
المفردة الثالثة: الاعتلاج[6].
هذه المفردة كلمةٌ واحدةٌ ولكنها تستبطن مجموعة من المعاني المتشابكة والمتداخلة والمترابطة وهي:
- الأول: التكاثر والتراكم.
- الثاني: الاضطراب.
- الثالث: التلاطم والتضارب.
فلا يقال في اللغة العربية: (اعتلج الموج) إلا إذا وصلت أمواج البحر إلى المرحلة التي تتكاثر فيها وتتراكم وتضطرب وتتلاطم بعضها ببعضٍ، وعندما يقال في اللغة العربية ــ أيضًا ــ: (اعتلجت الهموم صدر فلانٍ) أو (اعتلجته الهموم) فإنّ المراد بذلك أنّ الهموم قد تراكمت وتكاثرت إلى أن صار بعضها يضرب بعضها الآخر، كما تتلاطم أمواج البحر.
وكأنّ أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) حين استخدم المفردة المذكورة أراد أن يقرب لنا صورة غير محسوسة من خلال صورةٍ محسوسةٍ، أي: أنّه (عليه الصلاة والسلام) أراد أن يبين بأنّ الأحزان والهموم والمصائب التي مست الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) قد تراكمت وتكاثرت واضطربت وصار بعضها يلطم البعض الآخر نتيجة الكثرة والتراكم، كما تتلاطم أمواج البحر الهائجة.
النقطة الثانية: بيان دلالة العبارة.
تحمل عبارة التأبين العلوي الحزين دلالتين مهمتين وهما:
الدلالة الأولى: كثرة الأحزان والمصائب الفاطمية.
وهذه الدلالة هي ما اتضح عندنا من خلال ما ذكرناه من بيانٍ لمفردات التأبين العلوي في الجهة الأولى، حيث أوضحت لنا أن أحزان وآلام ومصائب السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) قد بلغت من الكثرة حدًا كبيرًا؛ لأنّ أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قد استخدم مفردتين تدلان على الكثرة، وهما: مفردة كم الخبرية، ومفردة الاعتلاج.
الدلالة الثانية: عدم بثِّ الزهراء (عليها السلام) لحزنها.
تشير الدلالة الثانية إلى أنّ الشهيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) لم تجد سبيلًا للحديث عن هذه المصائب الكثيرة التي جرت عليها.
وهذا المقطع في البيان والتأبين العلوي ـــ “لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا” ــ يبدو مقطعًا مثيرًا وملفتًا للنظر، إذ نحن نسمع بالكثير من مصائب فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) والحال أنّ أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يقول: “فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا” أي: أنّ هذا الغليل قد بقي يعتلج في صدر الشهيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ولم تصدح به.
موانع بيان الصديقة الزهراء (عليها السلام) لأحزانها:
أمام الدلالة الثانية المثيرة – وهي أنّ السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجد سبيلًا لبث ما اعتراها من مصائب – يعرض السؤال التالي: لماذا لم تجد الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) سبيًلا لبثِّ غليلها الذي اعتلج بصدرها المقدس؟
إنّ الأمر في ذلك يعود لوجود موانع، منها:
المانع الأول: عظمة وشدة مصائبها (عليها السلام).
إنّ ما وقع على الصديقة الزهراء (روحي وأرواح من في الوجود فداها) قد بلغ من العظمة والشدة مبلغًا، بحيث لو أنها قد صرحت به لكُذِّبت؛ نظرًا لأنّ ما جرى عليها من المصائب أشبه بالخيال!
وتقريب هذه الفكرة بالبيان التالي:
لو أغمض الإنسان النظر – بعيدًا عن الروايات والتاريخ والمعلومات القبلية الموجودة في ذهنه – وجئته قائلًا له: إنّ رسول الله خاتم الرسل وأشرفهم وأفضل الكلّ في الكلّ (صلى الله عليه وآله) كانت له عند وفاته ابنة وحيدةٌ، وهذه البنت الوحيدة لها من المكانة ما أفصح عنه النبي (صلى الله عليه وآله) في عشرات الخطابات: فاطمة بضعة مني، فاطمة روحي التي بين جنبي، فاطمة… فاطمة…، ثم لم يمضِ على شهادة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أيامًا معدوداتٍ فانصبت المصائب على ابنته، وأُحرق بيتها، وكُسر ضلعها، ولُطمَ خدها، وأُسقط جنينها، وقِيدَ بعلها، وفُعِلَ بها ما فعل، فإنه لا شك سيقول: كيف يتجاسر أحد على فعل كلِّ هذا؟! خصوصًا وأنّه قد سمع وصايا أبيها (صلى الله عليه وآله) المكررة والمؤكدة في حقها، وكيف سيجري كلُّ ذلك بمرأى ومسمع من الناس؟! إنَّ ذلك أشبه بالمستحيل.
لذلك ربما وجدت الصديقة الطاهرة (روحي وأرواح العالمين فداها) أنّ عظم المصائب يحول دون التصريح بها، مخافة تكذيبها واتهامها، فامتنعت عن بيانها.
المانع الثاني: عدم وجود المتلقي.
المظلوم عندما يريد التظلم وبيان ظلامته فإنه يبحث عن شخصٍ يبثه ظلامته، ولكن الصديقة الزهراء (عليها السلام) لم تجد أحدًا تتظلم عنده وتبث له ظلامتها، ولعل السائل يسأل: كيف لم تجد السيدة فاطمة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) أحدًا تتظلم عنده؟
والإجابة عن هذا السؤال ليست في روايةٍ تاريخيةٍ لتقبل المناقشة، بل قد تكفل القرآن الكريم ببيانها في آيةٍ صريحةٍ، وهي قول الله (تبارك وتعالى): {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ}[7]، وعندما نرجع إلى تأبين أمير المؤمنين للشهيدة الزهراء (عليهما وآلهما الصلاة والسلام): الذي تضمن عبارة “فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا” نجده قد افتتح هذه العبارة في التأبين المفجع بقوله: “وستُنبِئك ابنتُك بتظافر أمّتكَ”، وأول ما يلفت النظر في كلام أمير المؤمنين هو استخدامه (صلوات الله وسلامه عليه) لمفردة النبأ “وستُنبِئك”، وعدم استخدامه لمفردة الخبر ليقول: وستخبرك، وذلك لأنّ النبأ غير الخبر، فالنبأ [8]هو الخطب العظيم والجليل، وأما الخبر فيطلق على الأعم، ولكن يا ترى ما هو هذا الخطب الجليل والعظيم؟! إنه ما جاء في قوله (صلوات الله وسلامه عليه): “بتظافر أمّتكَ على هضمها”، ولنعي هذا النبأ جيدًا فإننا نسمع من الخطباء الكرام قولهم عند قراءة المقاتل: فخرج فلان إلى المعركة وتظافروا عليه وقتلوه، فما هو معنى التظافر؟
التظافر[9] معناه التعاون والتآزر، فأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في هذه العبارة يوضح أنَّ ثمَّة تعاونًا وتآزرًا على ظلم الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) قد حصل حينها، ويا له من خطب فظيع مهول، ونظرًا لذلك فإنها (عليها السلام) لم تجد من تبثه غليلها؛ لأنَّ الدنيا قد اسودّت في عينيها، بعد أن جرى ما جرى عليها.
المانع الثالث: عدم إتاحة الفرصة لها (عليها الصلاة والسلام) للتصريح بظلامتها.
وهذا المانع ــ رغم غرابته وعدم امتلاكنا دليلًا صريحًا عليه، بحسب ما تفحصناه سريعًا – فإنّ الشواهد التاريخية تقرِّبه لنا، ومنها:
1- ما ورد عن إمامنا الصادق (صلوات الله وسلامه عليه): “وأما فاطمة بنت محمدٍ صلى الله عليه وآله، فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله حتى تأذى بها أهل المدينة، وقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء ــ أي خارج المدينة ـــ فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف”[10].
2- وما رواه العلامة المجلسي (قدس الله نفسه) في البحار قائلًا: “ثمّ رجعت إلى منزلها – بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله) – وأخذت بالبُكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها، ولا تهدأ زفرتها، فاجتمع شيوخ أهل المدينة، وأقبلوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا له: يا أبا الحسن، إنّ فاطمة تبكي بالليل والنّهار، فلا أحد منّا يتهنّأ بالنّوم في الليل على فرشنا! ولا بالنّهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا! وإنّا نخبرك أن تسألها إمّا أن تبكي ليلًا أو نهارًا!! فقال (عليه السلام): حبًّا وكرامة. فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) حتّى دخل على فاطمة «صلوات الله عليها» وهي لا تفيق من البُكاء، ولا ينفع فيها العزاء، فلمّا رأته سكنت هنيئة له. فقال لها: يا بنت رسول الله، إنّ شيوخ المدينة يسألونني أن أسألك إمّا تبكين أباك ليلًا وإمّا نهارًا، فقالت: يا أبا الحسن، ما أقلّ مكثي بينهم، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم، فوالله لا أسكت ليلًا ولا نهارًا أو ألحق بأبي رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال لها عليّ (عليه السلام): إفعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك. ثمّ إنّه (عليه السلام) بنى لها بيتًا في البقيع، نازحًا عن المدينة، يُسمّى بيت الأحزان “. بحار الأنوار: ٤٣ / ١٧٧
والحاصل: فإنّ البكاء على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حق للسيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ومع ذلك لم يُتح لها، وإذا كان عدم إتاحته ليس إلا لكونه معبِّرًا عن ظلامتها، فما بالك بالتصريح بظلامتها وما جرى عليها؟! لا شك أنّه أولى بعدم الإتاحة.
فشواهد التاريخ تقرِّب أنها لم تُتح لها الفرصة للتصريح بظلامتها (عليها الصلاة والسلام).
وهذا لعمرك أقصى الظلامة، أن يُظلم المظلوم، ثمّ لا تُتاح له الفرصة للتظلّم والإفصاح عمّا جرى عليه.
الجهة الثالثة: أهمية هذه العبارة.
إنّ هذه العبارة – التي جعلناها من بين عبارات التأبين العلوي محور حديثنا – لها أهمية خاصة، وتأتي أهميتها للتالي:
الأمر الأول: بيانها لكثرة مصائب الزهراء (عليها السلام).
فقد دلت هذه العبارة المفجعة على أنّ مصائب وآلام الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) كثيرة، بحيث أنّ الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قد استخدم دالين للدلالة على هذه الكثرة، وهما – كما أوضحنا – مفردة كم الخبرية ومفردة الاعتلاج.
ولذا فإنني أقول: إنّ مقتضى ما تومئ له هذه العبارة هو أنّ ما وصلنا من مصائب الشهيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) ليس هو كل ما جرى عليها، فهناك مصائب أكثر وأكثر جرت عليها ولكنها لم تصل إلينا؛ إذ انطوت ضمن ما انطوى في خزانة صدرها المقدّس، ولم يصلنا إلا ما تناقله الأئمة الطاهرون (عليهم السلام) والمؤرخون المؤتمنون.
الأمر الثاني: دفعها لشبهة عدم تعرض الزهراء (عليها الصلاة والسلام) لبيان ما جرى عليها.
الأهمية الثانية لعبارة التأبين العلوي تأتي من حيث كونها تشكل أساسًا مهمًا في دفع الشبهة المثارة حول ظلامة الزهراء (روحي وأرواح العالمين فداها)، وهي الشبهة التي طالما آثارها وأكثر من مداولتها وترديدها خصوم الشيعة، وقد تسربت للأسف البالغ حتى لبعض الشيعة، فصار يكررها كذلك ويشكك في مصائب الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) من منطلقها.
الشبهة:
ومفاد هذه الشبهة هو: أنّه لو كان ما جرى على السيدة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بالنحو الذي يذكره الشيعة – من كسر ضلعها، ولطم خدها، وإسقاط جنينها – صحيحًا، لتعرضت له السيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتيها أو في واحدةٍ منهما، فإنها (صلوات الله وسلامه عليها) قد أدلت بخطبتين مهمتين مفصلتين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الأولى في مسجد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في جمع من المهاجرين والأنصار، والثانية عندما دخلن عليها نساء المهاجرين والأنصار لعيادتها في مرضها الأخير، وقد تعرضت (عليها الصلاة والسلام) فيهما لكثيرٍ من الأحداث، ولكنها (عليها السلام) لم تتعرض لذكر شيء مما جرى عليها بالنحو الذي تذكره الشيعة، فلو كان ما ينقله الشيعة صحيحًا لكانت الصديقة الشهيدة (عليها الصلاة والسلام) قد تظلمت لذلك في خطبتيها أو في إحداهما على أقلّ تقدير، وهذا يدلنا على عدم وقوعه وعدم صحته إذا لوقع لصرَّحت به السيدة الزهراء (عليها السلام).
الجواب:
وجوابنا عن هذه الشبهة ينبني على أمرين:
الأمر الأول:
أنّ السيدة فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) في خطبتيها قد اختارت أن تورد فيهما ظلامتين فقط من بين ظلامتها المتعددة، وهما: مصادرة أرض فدك وظلم أمير المؤمنين (عليه السلام).
الأمر الثاني:
إنّ العبارة العلوية – التي هي محور كلامنا، والتي قدمنا أنها تشكّل الأساس لرد هذه الشبهة – تدلنا على كثرة ما جرى على الصديقة الزهراء (روحي فداها) من المصائب، وقد استخدم أمير المؤمنين (عليه السلام) – كما تقدم – كلمتين للدلالة على كثرة ما جرى عليها من المحن، وصرّح بأنّ هذه المصائب الكبيرة الكثيرة لم تجد الصديقة الطاهرة (عليها الصلاة والسلام) إلى بثها سبيلًا.
ولا يقال: إنّ المصائب المذكورة يراد بها مصادرة أرض فدك، فإنّ ذلك مما وجدت الزهراء (عليه السلام) إلى بثه سبيلًا، كما لا يقال: بأنّ هذه المصائب هي ظلامة أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، فإنّ هذا الأمر أيضًا مما وجدت الزهراء (عليها الصلاة والسلام) إلى بثه سبيلًا.
وعليه، فإذا كانت هاتان الظلامتان مما وجدت الصديقة الشهيدة (صلوات الله وسلامه عليها) إلى بثه سبيلًا، فإنّ المعني حتمًا لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) من عبارته التأبينية المذكورة غيرهما من المصائب والظلامات التي لم تجد إلى بثها سبيلًا.
ولذلك أقول لصاحب الشبهة: إنَّ قولك – بأنَّ عدم تصريح السيدة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) بهذه المصائب الكبيرة الكثيرة دليل على عدم وقوعها – مردودٌ، لأنّ عدم تصريح الصديقة الزهراء (عليها الصلاة والسلام) بها ليس لعدم وقوعها، وإنما هو لأنها “لم تجدْ إلى بثّه سبيلًا“، كما صرّح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فبقيت تلك الظلامات والمصائب والأحزان حبيسة صدرها المقدس (صلوات الله وسلامه عليها) تعتلج فيه كما تعتلج أمواج البحر.
سؤالٌ مؤلمٌ في نهاية المطاف:
ولنا في الختام أن نتساءل: ماذا صنعت هذه الهموم والمصائب التي كانت تعتلج ــ أي: تتكاثر وتضطرب وتتلاطم ويضرب بعضها بعضًا ــ بمولاتنا الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها)؟
يجيبنا عن ذلك إمامنا الصادق جعفر بن محمد (صلوات الله وسلامه عليهما) حيث يقول (عليه الصلاة والسلام): “….فلما قبض ــ أي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونالها من القوم ما نالها، لزمت الفراش، ونحل جسمها، وذاب لحمها، وصارت كالخيال…”[11]
فسلام الله (تبارك وتعالى) على الصديقة الشهيدة (صلوات الله وسلامه عليها) يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث شهيدةً على هذه الأمة، ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين على ظالمي آل محمد وغاصبيهم إلى قيام يوم الدّين.
الهوامش:
[1] بقلم الأستاذ عيسى البجحان (وفّقه الله).
[2] الشيخ المجلسي، بحار الأنوار، ج 43، باب ما وقع عليها من الظلم وبكائها وحزنها وشكايتها في مرضها إلى شهادتها وغسلها ودفنها، وبيان العلة في إخفاء دفنها صلوات الله عليها ولعنة الله على من ظلمها، ح 21، ص 193، (المكتبة الشيعية).
[3] سورة البقرة الآية 259.
[4] سورة البقرة الآية 249.
[5] ابن منظور، لسان العرب ج 10، باب الغين، ص 106: غلل: الغُلُّ والغُلّة والغَلَلُ والغَلِيلُ كله شدّة العطش وحرارته قلَّ أَو كثر رجل مَغْلول وغَلِيل ومُغْتَلّ بيّن الغُلّة وبعير غالٌّ وغَلاَّنُ بالفتح عطشان شديد العطش غُلَّ يُغَلٌّ غَلَلًا فهو مَغْلول على ما لم يسم فاعله ابن سيده غَلَّ يَغَلّ غُلّة واغْتَلّ وربما سميت حرارة الحزن والحبّ غَلِيلًا…إلخ. دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ــ لبنان، اعتنى بتصحيحها أمين محمد عبدالوهاب و محمد الصادق العبيدي، الطبعة الثالثة 1419هـ ــ 1999م.
[6] الطريحي، الشيخ فخر الدين، مجمع البحرين، ج 2، باب العين، ص 1254: ع ل ج في الدعاء (وما تحويه عَوالِجُ الرمال) هي جمع عَالِج، وهو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض،… وفي الحديث (إنّ الدُّعاءَ ليبقى البلاء فيَـتَـعالَجان) أي يتصارعان… وعَلِجَ عَلَجًا من باب تعب: اشتَـدَّ… واعْتَـلجَتِ الأمواجُ: إذا التطمت. والارض: إذا طال نباتها. وفي حديث فاطمة (عليها السلام) “فكمْ من غَلِيلٍ مُعْـتَـلِجٍ بصَدْرٍها” أي كامن فيه “لم تَجِدْ إلى بَـثِّهِ سَبيلًا”. مركز الطباعة والنشر في مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى 1415هـ.
[7] سورة آل عمران، الآية 144.
[8] الشيخ الطبرسي، تفسير مجمع البيان ج 10، ص 239: “اللغة: النبأ: الخبر العظيم الشأن”، موقع المكتبة الشيعية. الشيخ الطوسي، التبيان، ج 10، ص 238: “والنبأ معناه الخبر العظيم الشأن كمعنى الخبر عن التوحيد في صفة الاله وصفة الرسول، والخبر عما يجوز عليه وما لا يجوز”. موقع المكتبة الشيعية. (http://shiaonlinelibrary.com/)
[9] ابن منظور، لسان العرب ج 8، باب الظاء، ص277: “وتَظاهرُوا عليه: تعاونوا وتَظاهرُوا عليه: تعاونوا، وأَظهره الله على عَدُوِّه. وفي التنزيل العزيز: وإن تَظَاهَرَا عليه. وظاهَرَ بعضهم بعضًا: أَعانه، والتَّظاهُرُ: التعاوُن. وظاهَرَ فلان فلانًا: عاونه… وقوله: تَظَاهَرُونَ عليهم؛ أَي تَتَعاونُونَ“، ص 255: “وتَظَافَرَ القومُ عَلَيْهِ وتظاهَرُوا بِمَعْنًى وَاحِدٍ”. دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ــ لبنان، اعتنى بتصحيحها أمين محمد عبدالوهاب و محمد الصادق العبيدي، الطبعة الثالثة 1419هـ ــ 1999م.
[10] الشيخ الصدوق، أمالي الصدوق، المجلس التاسع والعشرون مجلس يوم الجمعة الثامن من المحرم سنة ثمان وستين وثلاثمائة، ح 5. منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ــ لبنان، قدم له الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الأولى 1430هـ ــ 2009م.
[11] الشيخ المجلسي، بحار الأنوار، ج 78، باب تشييع الجنازة وسننه وآدابه، ح 40، ص 282، (المكتبة الشيعية).