تاريخ المحاضرة: 01/01/1441
نقاط البحث:
- لغة المظلومية لغة وحيانية
- شواهد قرآنية
- شواهد روائية
- أبعاد لغة المظلومية
- البعد الإعلامي
- البعد العاطفي
- البعد التعبوي
- البعد العقائدي
- وقفة مع حرب المفاهيم
- مفهوم التقية نموذجًا
التسجيل الصوتي:
تنزيل التسجيل الصوتي: لغة الشعائر هل هي لغة ضعف أم قوة؟
اليوتيوب:
حسينية بن جمعة بالكويكب
حسينية عمارة بالربيعية
حسينية الزين بالقديح
نص المحاضرة
من جملة الإثارات التي تتردّد على الألسنة: أنَّ لغة الشعائر الحسينية – وهي اللغة السائدة في المنابر والمواكب وقصائد الرثاء وغيرها – هي لغة المظلومية، فالخطيب الحسيني عندما يتحدّث عن الحسين (ع) يقول: إنّه استغاث فلم يغثه أحد، واستسقى الماء فلم يُسْقَ، وقد ذُبِح وقُطِع رأسه ورُضَّ صدره، وبقي ثلاثة أيام بغير غسل ولا كفن… إلخ، وعندما يتحدّث عن السيدة زينب (ع) يقول إنها سُبِيَت، وضُرِبَت، وسُلِبَت، وأُوقِفَت في مجالس الرجال، ونحو ذلك من صور المظلوميّة التي يركّز عليها المنبر الحسيني ويرسّخها في الوجدان الشيعي.
وهذه اللغة لغة ضعفٍ؛ لأنها تبيّن أهل البيت (ع) في موقع الانكسار والضعف، فهي لغةٌ سلبيةٌ ينبغي تنزيه الشعائر الحسينيّة عنها.
ومن أجل نقد هذه الإثارة، سنقف معها ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: لغة المظلومية لغة وحيانية.
لقد اهتمّت الكتب السماوية –وعلى رأسها القرآن الكريم– اهتمامًا بالغًا بلغة المظلومية، فهي ليست لغة ابتدعتها المنابر والخطباء، بل هي لغة وحيانية أسّسها الوحي وأكّد عليها القرآن الكريم، فإنَّ القرآن عندما تحدّث عن الأنبياء والأولياء والصالحين لم يركّز على مظاهر الصلابة والصمود عندهم فحسب، بل ركّز أيضًا على جانب المظلومية، فأبرز مظلوميتهم بتفاصيلها، وتبعته الروايات الشريفة[1].
نماذج قرآنية:
النموذج الأول: نبي الله يوسف (ع)، فإنّه كان حاكمًا، ومع ذلك لم يتحدّث عنه القرآن بوصفه حاكمًا فحسب، بل استعرض ظلامته بتفاصيلها ودقائقها وجزئياتها، حيث قال: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[2].
ثمّ اهتمّ بتوثيق المؤامرة التي رُسِمَت، فقال: ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾[3].
ولم يكتفِ القرآن ببيان المؤامرة، بل استعرض كيف تمّ تنفيذ المخطّط وبأي طريقة مهينة، فقال: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَالله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾[4]، فوصل بهم الحال أن جعلوه بضاعةً تباع وتشرى، بل شروه بثمن بخس، وهكذا وثّق القرآن جميع هذه التفاصيل، وتكلّم بلغة المظلومية.
النموذج الثاني: نبي الله هارون (ع)، حيث تحدّث القرآن عن ظلامته بلسانه، فقال: ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[5].
النموذج الثالث: خليل الله إبراهيم (ع)، حيث وثّق القرآن أيضًا ما جرى عليه من ظلامات من قومه، فقال: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ﴾[6].
النموذج الرابع: شيعة النبي دانيال (ع) وأصحابه، حيث تعرّضوا إلى مواجهة عنيفة من أجل أن يتخلّوا عنه، لكنّهم أصرّوا على الثبات، فقُتِلوا قتلةً شنيعةً وثّقها القرآن الكريم، فهو لم يتحدّث عن بسالتهم وصلابتهم فقط، بل تحدّث عنهم بلغة المظلومية، فقال: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِالله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾[7]، فهنا استعرض القرآن مقتلًا تفصيليًا لهؤلاء الصفوة، وهذا النموذج من أوضح النماذج القرآنية على أنّ لغة المظلومية لغة وحيانية.
نماذج روائية:
وقد كرّس أهل البيت (ع) نفس هذه اللغة في عرض قضيّة الحسين (ع)، فهم لم يتحدثوا عن الحسين (ع) على أنه آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر ومجاهد في سبيل الله وانتهى الأمر، بل تحدّثوا عن ظلامة الحسين (ع) أيضًا، ومن شواهد ذلك:
1/ ما ورد عن الإمام الصادق (ع) في إحدى زيارات الحسين (ع): «السلام عليك يا وتر الله وابن وتره، أشهد أنك قُتِلْتَ مظلومًا، وأنَّ قاتلك في النار»[8].
2/ ما ورد في الزيارة الرجبية للحسين (ع): «وصلّ على الحسين المظلوم الشهيد الرشيد، قتيل العبرات وأسير الكربات، صلاةً ناميةً زاكيةً مباركةً»[9].
3/ ما ورد في زيارة الحسين (ع) في ليلتي العيدين: «أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وجاهدت في الله حقّ جهاده، حتى اُسْتُبِيح حرمك، وقُتِلْت مظلومًا»[10].
فعندما نقرأ نصوص الزيارات وغيرها من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع)، نجد أنَّ العترة الطاهرة قد استخدمت نفس اللغة التي استخدمها القرآن الكريم، ممّا يعني أنَّ لغة المظلومية هي لغة وحيانية.
الوقفة الثانية: أبعاد القوّة في لغة المظلومية.
إنَّ للمظلومية أربعة أبعاد مهمّة تبيّن أنَّها لغة قوّة وليست لغة ضعفٍ، وهي:
البُعْد الأول: البُعْد الإعلامي.
فإنَّ لغة المظلومية تلفت الانتباه وتحرّك الأنظار، ولذلك نجد الإعلام العالمي -عبر القنوات الفضائية والأخبارية وغيرها من وسائل الإعلام- عندما يريد أن يحرّك الشارع فإنّه يستفيد من جانب المظلومية للقضايا التي يطرحها.
وهكذا هو الحال في إثارة مظلوميّة الحسين (ع)، ولتقريب الفكرة فلنضرب لذلك مثالًا، وهو: سقي الماء للمعزّين وطلب لعن قاتل الحسين (ع)، حيث ورد عن الإمام الصادق (ع): «ما من عبد شرب الماء فذكر الحسين (ع) وأهل بيته ولعن قاتله إلّا كتب الله تعالى له مئة ألف حسنة، وحطّ عنه مئة ألف سيئة، ورفع له مئة ألف درجة، وكأنّما أعتق مئة ألف نسمة»[11].
فكلّ هذا الثواب العظيم يترتّب على عمل بسيط، ولكنّه مؤثرٌ في إلفات النظر، فعندما يحضر أطفالنا للمأتم الحسيني ويرون شخصًا واقفًا عند الباب يقول: «اشرب ماء والعن يزيد» -كما هي العادة المتّبعة في مجالس العزاء في البلاد المحروسة (القطيف)- فحينئذٍ تتفتّح مداركهم، ويتساءلون: ما الذي صُنِع بالحسين (ع)؟ ولماذا نلعن قاتله؟
وهذه قضية بسيطة لها هذا الوقع الإعلامي، فما بالك بما تصنعه المآتم والمواكب والصرخات واللطمات؟! لا ريب في أنَّ لها أثرًا فاعلًا في تحريك الإعلام.
ومن هذا المنطلق نجد الإمام زين العابدين (ع) قد استمرَّ في البكاء على أبيه (ع) مدة حياته، حيث ورد عن الإمام الصادق (ع): «إنَّ زين العابدين (ع) بكى على أبيه عشرين [أو أربعين] سنة، صائمًا نهاره قائمًا ليله، فإذا حضره الإفطار جاء غلامه بطعامه وشرابه، فيضعه بين يديه، فيقول: كل يا مولاي، فيقول: قُتِل ابن رسول الله جائعًا، قُتِل ابن رسول الله عطشانًا، فلا يزال يكرّر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه ويمتزج شرابه منها، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله تعالى»[12].
فكان الإمام (ع) يستخدم هذا النحو من التعامل العاطفي من أجل تحريك الإعلام وإلفات الأنظار إلى مأساة الحسين (ع).
البُعْد الثاني: البُعْد العاطفي.
فلغة المظلومية تدغدغ المشاعر، وتلهب العواطف، وتحرّك الأحاسيس، وهذا أمرٌ مطلوبٌ شرعًا؛ فإنَّ أئمتنا الهداة (ع) لا يريدون أن يكون ارتباطنا بالحسين (ع) مجرّد ارتباط فكري، بحيث نعتقد بأنّه إمامٌ معصومٌ مفترض الطاعة وانتهى الأمر، بل يريد الأئمة (ع) منّا شيئًا آخر أيضًا، وهو أن تكون علاقتنا مع الحسين (ع) علاقة مشاعر وأحاسيس، بحيث تتكهرب نفوسنا بمصيبته.
ولذلك ورد عن الإمام الصادق (ع): «يا أبا هارون، من أنشد في الحسين (ع) شعرًا فبكى وأبكى عشرًا كُتِبَت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كُتِبَت له الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى واحدًا كُتِبَت لهما الجنة»[13]، ومن الواضح أنَّ الشاعر أو المنشد لا يمكن أن يحرّك الآخرين بأن ينشد شعرًا يقول فيه: (إنَّ الحسين إمامٌ معصومٌ مطهّرٌ)! وإنَّما يتحقّق الإبكاء باستعراض الظلامة الحسينية.
وبعبارة أخرى: إنَّ الإبكاء -بحسب اصطلاح أهل المعقول- من الأفعال التوليدية، وهي الأفعال التي تكون مقدورةً للفاعل بالواسطة، وإذا كان كذلك فإنّه يحتاج إلى سبب، وهذا السبب ليس إلّا إثارة المظلومية بالقول -كالرثاء وإنشاد الشعر المفجع- أو بالفعل، كالتمثيل أو التطبير أو ضرب السلاسل.
فأهل البيت (ع) يريدون أن تكون علاقتنا مع الحسين (ع) علاقة عواطف وأحاسيس، وليست مجرّد علاقة فكر، ولكن لماذا الإصرار على العلاقة العاطفية؟
وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل نذكر ثلاثة أمور:
أوّلًا: إنَّ العاطفة أقوى تأثيرًا في السلوك من المنطق، وهذا ما ذكره (هاري ميلز) في كتابه المشهور (فنّ الإقناع)، حيث قال: إنَّ لغة العاطفة تتفوّق على لغة المنطق بعدّة مزايا، أبرزها أنها أسرع تأثيرًا في السلوك من لغة المنطق[14].
وهذا الكلام واقعيٌّ ووجدانيٌّ، فنحن في كلّ عام نرى ملايين الشيعة في موسم عاشوراء يعطّلون أعمالهم ويعلنون حدادهم ويفرّغون أوقاتهم للحسين (ع) فقط، ومن الواضح أنَّ الذي كهرب هؤلاء الملايين -من كبار وصغار ورجال ونساء- ليس هو العلاقة الفكرية المحضة، بمعنى الاعتقاد بأنَّ الحسين (ع) إمام معصوم مفترض الطاعة، وإنَّما كهربتهم علاقة العاطفة مع الحسين (ع)، فهذه العلاقة العاطفية انعكست على سلوكهم فأثّرت هذا الأثر الكبير البالغ، ونحن لا نتحدث عن عشرات ولا عن مئات ولا عن آلاف، بل عن ملايين تحرّكهم عواطفهم وتؤثر على سلوكهم، وتشدّهم إلى الحسين (ع) انشدادًا تامًا، وهذا مظهرٌ من مظاهر أهمّية العلاقة العاطفية بأهل البيت (ع)، ولذا ركّز عليها الأئمة الهداة تركيزًا بالغًا.
ثانيًا: إنَّ الارتقاء بالعقيدة من الحالة الفكرية إلى الحالة الشعورية إنَّما يتولّد عن التعامل العاطفي مع قضية الحسين (ع).
ويمكن تقريب الفكرة بالصلاة، فقد يصلي الإنسان ولكن لا تكون علاقته بالصلاة علاقة وجدانية شعورية روحية، بحيث إذا صلى يشعر بلذة الصلاة، وإنّما هي مجرد علاقة فكرية محضة، فلولا أنَّ الله تعالى قد فرضها عليه لما صلّى.
وهكذا هي علاقة الإنسان بسيّد الشهداء (ع)، فقد تكون علاقةً فكريةً محضةً، بحيث يعلم بأنَّ الحسين (ع) هو الإمام بعد أخيه الحسن (ع)، وأنَّه قُتِلَ مظلومًا… من غير أن يعيش الحسينَ في وجدانه وضميره، وإنَّما يعيش المؤمن الحسينَ (ع) في شعوره وأحاسيسه إذا تعامل مع مأساته تعاملًا عاطفيًا، فحينئذٍ ترتقي حالة العقيدة عنده من الحالة الفكريّة العقليّة المجرّدة إلى الحالة الشعوريّة الوجدانيّة التي تلهب العواطف والمشاعر وتحرّك الأحاسيس.
ثالثًا: إنَّ هذه العلاقة العاطفية هي من أسرار خلود القضية الحسينيّة، فقد حدثت الكثير من المآسي والمصائب والأحداث الجسيمة على مرّ التاريخ، ولكن من بينها جميعًا انفردت قضية الحسين (ع) بالخلود، مع أنَّ بعض تلكم المآسي كانت فادحةً ومؤلمةً جدًا، كواقعة فخ، حيث ورد عنهم (ع): «لم يكن لنا بعد الطفّ مصرعٌ أعظم من فخّ»[15]، ومع ذلك لم تخلَّد هذه الواقعة رغم عظمتها.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن أسباب خلود نهضة الحسين (ع)، ولكن نقول: إنَّ من العوامل التي ساهمت في ترسّخ القضية الحسينية: اهتمام أهل البيت (ع) بإقامة المآتم على الحسين (ع) باستمرار، وتحريك مصيبته وإشعال جذوتها في نفوس الناس، حتى بقيت هذه القضية راسخةً في ضمائرهم ومشاعرهم ووجدانهم.
ومن مجموع ما ذكرناه يتّضح: خطأ الدعوة إلى إلغاء التعامل العاطفي مع قضية عاشوراء، والاقتصار على التعامل الفكري الثقافي، بحجّة عصرنة القضية الحسينيّة وجعلها مواكبةً لتغيرات العصر؛ فإنَّ إخماد لهيب التعامل العاطفي مع قضية الحسين (ع) على خلاف تعاليم أهل البيت (ع)، وفيه تفويتٌ لمكاسب لا تعوَّض.
البُعْد الثالث: البُعْد التعبوي.
فلغة المظلومية تعبّئ النفوس، وهذه التعبئة لها دورٌ مهمٌّ في الإعداد للظهور والانتصار المهدوي، حيث ورد عن الإمام الصادق (ع) في وصف أصحاب الإمام الحجّة (ع): «يدعون بالشهادة، ويتمنّون أن يقتلوا في سبيل الله، شعارهم: يا لثارات الحسين»[16]، أي أنّ ظلامة الحسين (ع) تشرّبت بنفوسهم واختلطت بلحمهم ودمهم، ولذلك فإنَّ همّهم الأكبر المطالبة بثارات الحسين (ع)، والإمام الحجّة (ع) يستثمر هذا الأثر التعبوي لظلامة الحسين (ع) في تحريك جيش عالمي ينهض لإقامة دولة الحقّ على وجه الأرض بشعار (يا لثارات الحسين).
ويشهد لذلك ما ورد عن صالح بن عقبة عن أبيه: «دخلتُ على الإمام الصادق (ع) في أيام عاشوراء… فقلتُ له: كيف يعزّي بعضهم بعضًا؟ قال: يقولون: عظّم الله أجورنا بمصابنا بالحسين (ع)، وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع وليّه الإمام المهديّ من آل محمّد»[17]، فإنَّ الإمام (ع) قد ربط هنا بين أن يعيش الإنسان ظلامة الحسين (ع) وتهيئته نفسَه لنصرة إمام الزمان (ع) بطلب الثار الحسيني.
البُعْد الرابع: البُعْد العقائدي.
فعندما تكون هناك قضيةُ حقٍّ وباطلٍ يتنازع فيها طرفان، ولا ندري أيّ الطرفين هو المحقّ، فإنّه إذا ثبت لنا أنَّ أحدهما -في هذه القضية بخصوصها- مظلوم والآخر ظالم، نصل حينئذٍ إلى أنَّ الحق مع المظلوم بالضرورة.
وهذا هو سرّ المحاولات المستميتة في سبيل التشكيك في ظلامة الزهراء (ع)؛ لأنَّ هذه الظلامة هي فيصلٌ بين الحق والباطل، فأيّ واحد من المسلمين إذا كان يشكّ في أنّ الحق مع عليّ (ع) أم مع غيره؟ فظلامة الزهراء (ع) هي الفاصل، إذ إنَّ هذه القضية قد تنازع فيها طرفان، وأحد الطرفين ظالمٌ والآخر مظلومٌ، فإذا كانت الزهراء مظلومة، فالحقّ إذن معها، وإلّا لماذا ظُلِمَت؟! وكذلك هي قضيّة كربلاء، فهي فيصل بين جيش الحق وجيش الباطل والضلال.
والحاصل: عندما نتأمّل في أبعاد لغة المظلومية نجدها سلاحًا قويًّا؛ إذ هي اللغة المحرّكة للإعلام، وهي اللغة الملهبة للعواطف والأحاسيس، وهي اللغة المعبّئة للنفوس والمعدّة لها لنصرة إمام الزمان (ع)، وهي الفاصل بين الحقّ والباطل[18].
الوقفة الثالثة: وقفة مع حرب المفاهيم.
إنَّ عالمنا الإسلامي -وبالخصوص عالمنا الشيعي- يشهد حربًا ثقافية محتدمة، وهذه الحرب تعتمد أساليب متعدّدة، ومن أخطرها: أسلوب حرب المفاهيم، حيث يُعمَد إلى مفهوم مقدّس ويُقَوْلَب بقالب جديد، بحيث يمسخ القالب الجديد قيمة ذلك المفهوم.
- فـ(الجهاد) مثلًا مفهوم مقدّس، ولكنه في الحرب الثقافية صار له قالب جديد، وهو (العنف).
- و(التقية) مفهوم مقدّس، ولكنّه في الحرب الثقافية صار له قالب جديد، وهو (الخنوع).
- و(المظلومية) أيضًا مفهوم مقدّس، ولكنها في الحرب الثقافية صار لها قالب جديد، وهو (الضعف).
وسرّ عملية القولبة: أنَّ أغلب المفاهيم يمكن أن تُقْرَأ قراءةً سلبيةً، كما يمكن أن تُقْرَأ قراءةً إيجابيةً، ومن وراء الحرب الثقافية يقرؤون المفهوم قراءةً سلبيةً، ثم يقولبون المفهوم بقالب جديد طبقًا لقراءتهم السلبية.
فمثلًا: التقية عندنا كشيعة مفهوم عظيم مقدّس، وقد ورد في الرواية الشريفة: «إنَّ التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له»[19]، ولكن هذا المفهوم قد يُقْرَأ قراءةً سلبيةً فيقال: إنَّ التقية خنوع واستكانة وضعف، فإلى متى نبقى نحن الشيعة نعيش هذه الحالة من الخنوع والاستكانة؟! وهكذا تُقَوْلَب التقية بقالب جديد، وهو قالب الخنوع، حتى يُمْسَخ مفهومها وتفقد قيمتها.
والحال أنَّ التقية يمكن أن تُقْرَأ قراءة إيجابية أيضًا؛ إذ التقية هي سدّ الثغرات وتفويت الفرصة على العدو المتربّص، فهي نحوٌ من الحراك الهادئ الذكيّ.
وهذه القراءة الإيجابية للتقية نقرؤها في زيارة أمير المؤمنين (ع) يوم الغدير: «أشهد أنّك ما اتّقيت ضارعًا، ولا أمسكت عن حقّك جازعًا، ولا أحجمت عن مجاهدة عاصيك ناكلًا، ولا أظهرت الرضا بخلاف ما يرضي الله مداهنًا، ولا وهنت لما أصابك في سبيل الله، ولا ضعفت ولا استكنت عن طلب حقّك مراقبًا، معاذ الله أن تكون كذلك»[20]، فأمير المؤمنين (ع) لم يواجه، بل سكت، ولكن هذا السكوت ما كان خنوعًا، بل هو تفويتٌ للفرصة على العدو، إذ لو واجههم أمير المؤمنين (ع) لتحقّق لهم ما كانوا يصبون له من القضاء على الإسلام، ولكنَّ عليًّا (ع) من خلال عدم المواجهة كان عنده حراك هادئ ضيّع به الفرصة عليهم.
فالمفاهيم يمكن أن تُقْرَأ قراءة سلبية، وعلى طبق القراءة السلبية تقولب بقالب جديد من أجل مسخ المفهوم.
ولذلك ينبغي لنا أن نكون على حذر من القراءات السلبية، فلا نصغي لمن يصوِّر الجهاد -وهو مفهوم مقدّس- عنفًا، ولا لمن يصيّر لغة المظلومية بالقراءة السلبية ضعفًا، فقد تبيّن -من خلال القراءة الإيجابية التي طرحناها- أنّها لغة قوّة، فهي سلاح قويّ استخدمه أئمة أهل البيت (ع)، وإلّا لما وصلت قضية الإمام الحسين (ع) إلى هذا اليوم وخلدت ورسخت في نفوس الشيعة، فهذا السلاح القويّ الفتّاك يزعزع أعداء القضية الحسينية ويرعبهم ويقضّ مضاجعهم، ولذلك يحاولون دائمًا التشكيك في هذه اللغة حتى تتحقّق مآربهم.
الهوامش
[1] لاحظ (الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد: ج1، ص409)، وكذا: (ج2، ص31).
[2] سورة يوسف: 7 – 8.
[3] سورة يوسف: 9 – 10.
[4] سورة يوسف: 19 – 20.
[5] سورة الأعراف: 150.
[6] سورة الأنبياء: 68 – 69.
[7] سورة البروج: 4 – 8.
[8] كامل الزيارات: ص246.
[9] بحار الأنوار: ج101، ص337.
[10] المزار الكبير، لابن المشهدي: ص422.
[11] وسائل الشيعة: ج17، ص216.
[12] الملهوف على قتلى الطفوف: ج1، ص233.
[13] كامل الزيارات: ص208.
[14] فنّ الإقناع: ص125.
[15] بحار الأنوار: ج48، ص165.
[16] بحار الأنوار: ج52، ص308.
[17] كامل الزيارات: ص175.
[18] وللمرجع الدينيّ الكبير، السيد محمّد سعيد الحكيم (دامت ظلاله) كلمةٌ مهمّةٌ بهذا الصدد، قال فيها: «التركيز ولا سيّما من الخطباء على ظلامة أهل البيت (ع) ومصائبهم، وعلى بشاعة ما جرى عليهم من الظالمين، والتفجّع لذلك على اختلاف أساليب الكلام -نظمًا أو نثرًا- من أجل استثارة العاطفة واستدرار الدمعة، وتخصيص قسمٍ معتدٍّ به من المحاضرة للحديث عن ذلك.
لأنَّ لذلك أعظم الأثر في شدّ الناس نحو أهل البيت (ع) وتنفّرهم من أعدائهم، وقد أكّد على ذلك أئمتنا (ع) قولًا وعملًا بوجهٍ مذهلٍ، لا يدع مقالًا لقائل، ولا عذرًا لمعتذر، ولا يسعنا التعرّض لما ورد عنهم (ع) في ذلك، لأنّه فوق حدّ الإحصاء.
ويحسن بالخطيب والمبلِّغ التعرّض لما يتيسّر له من أحاديثهم (ع)، وما ورد عنهم في ذلك، حسب اختلاف المقامات، لأنّه أوقع في التفجّع، وأدعى للدمعة، تأسيًا بهم، وتفاعلًا معهم (ع)» [من وحي الطف: ص27].
[19] وسائل الشيعة: ج11، ص465.
[20] المزار الكبير، لابن المشهدي: ص267.
شبكة الضياء > مكتبة المحاضرات > محرم الحرام > محرم الحرام 1441